الاثنين، 28 يناير 2008

أحمد أمين .. مؤرخ الحركة العقلية للأمة الإسلامية


أحمد أمين
أمل خيري
أحمد أمين علم من أعلام الفكر والأدب العربي والإسلامي، وأحد رواد حركة التأريخ الإسلامي
بمنظوره الجديد الذي استحدثه بأبحاثه في تأريخ الحركة العقلية للعرب والمسلمين، فأثرى الفكر الإسلامي بروائعه الشهيرة فجر الإسلام وضحى الإسلام ويوم الإسلام وغيرها، كما مثل تيار المدرسة الوسطى في النهضة العربية بين مناصري مدرسة التغريب وبين تيار السلفية متبعا المنهج العلمي في البحث وداعيا لتجديد الحضارة الإسلامية.
النشأة والتكوين
ولد أحمد أمين إبراهيم الطباخ بالقاهرة في 3 من المحرم 1304هـ/مطلع أكتوبر 1886م، وكانت نشأته في كنف والد أزهري حافظ للقرآن يعمل في نسخ الكتب والمخطوطات، ومدرسا في الأزهر وإماما لمسجد الإمام الشافعي. دفع أمين بابنه لحفظ القرآن الكريم في كُتاب جوار منزله، وبعد ختمه القرآن التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وباستشارة بعض زملائه قرر والده أن يترك أحمد المدرسة لينتقل إلى الأزهر وكان في الرابعة عشرة من عمره.
وبدراسته هناك بدأ مرحلة جديدة من حياته، ولولا معاونة والده له في شرح ما عسر عليه فهمه لوجد صعوبة كبيرة في دراسته بالأزهر، لذا كان حاله أفضل بكثير من زملائه، إلا أنه كان ميالا لترك الدراسة بالأزهر، فانتهز فرصة أحد الإعلانات للتدريس بأحد مدارس طنطا فانتقل إليها مدرسا للغة العربية وهو في السادسة عشرة وبعدها بعامين التحق مدرسا بمدرسة راتب باشا بالإسكندرية.
وفي الإسكندرية أتيحت له الفرصة للتعرف على الشيخ عبد الحكيم محمد مدرس اللغة العربية بمدرسة رأس التين والذي تأثر به كثيرا.
من التدريس للقضاء
عاد أحمد أمين إلى القاهرة عام 1323هـ/1906م ليعمل مدرسا للغة العربية في مدرسة بنبا قادن الثانوية، ثم سنحت له فرصة الدراسة في مجال القضاء بافتتاح مدرسة القضاء الشرعي عام 1324هـ/1907م، فتقدم لها واجتاز امتحانا صعبا ونجح فيه، وفي هذه المدرسة ظهر نبوغه المشهود وتقدم للمحاضرة العامة أمام زملائه وأساتذته وفاز بتقدير ناظر المدرسة عاطف بركات، وكانت بداية لتعميق صلتهما معا.
تخرج أمين في المدرسة عام 1329هـ/1911م ، وعين مدرسا بها فزادت صلته بعاطف بركات الذي شجعه على قراءة كتب مترجمة في الأخلاق والتربية وعلم النفس ليلخصها ويقرأها على الطلاب في محاضرات، ومن هنا صمم أمين على تعلم اللغة الإنجليزية ليقرأ أصل الكتاب الأجنبي بدلا من ترجمته، وبذلك بدأ رحلته نحو الترجمة بكتاب في الفلسفة طبع عدة مرات، ثم انتقل أمين من التدريس بمدرسة القضاء إلى ممارسة القضاء ذاته فعمل قاضيا بمحاكم شتى بعواصم مصر.
لجنة التأليف والترجمة والنشر
وفي عام 1332هـ/1914م تعرف أمين على مجموعة من الشباب المثقف من ذوي الاهتمامات والمواهب المختلفة فاجتمعوا في بعض المقاهي يتبادلون فيما بينهم معارف متنوعة، وكانت هذه المجموعة نواة "لجنة التأليف والترجمة والنشر" التي أثرت الثقافة العربية واستطاعت نشر ما لم تستطعه هيئات حكومية كثيرة، فقدمت للقارئ العربي ذخائر الفكر الأوروبي في كل فرع من فروع المعرفة تقديما أمينا كما قدمت بدائع التراث العربي مشروحة مضبوطة محققة.
وتكونت هذه اللجنة من أسماء لامعة في الفكر والأدب من أمثال: طه حسين ومحمد فريد أبو حديد ومحمد أحمد الغمراوي والزيات وأحمد زكي والعبادي وزكي نجيب محمود وعبد الوهاب عزام... ومكث أحمد أمين أربعين سنة يتجدد انتخابه سنويا لرئاسة اللجنة، وحازت مطبوعات اللجنة التي زادت على مائتي كتاب الثقة؛ لذا فقد انتشرت وذاع صيتها.
في مجال الصحافة
تعد مجلتا الرسالة والثقافة من أجل آثار لجنة التأليف السالفة، فقد صدرت مجلة الثقافة في أربعة عشر عددا متوالية بعد صدور مجلة الرسالة ست سنوات حافلة بآثار أعضاء اللجنة، فبعد أن عاون أمين الرسالة معاونة كبرى رأى المجلة تكسب كثيرا ولا تعطي الكاتب شيئا ذا بال، وكانت الرسالة قد انتشرت بفضل جهود لجنة التأليف؛ لذا بادرت اللجنة بإصدار مجلة الثقافة في يناير 1939م، ورأس تحريرها أحمد أمين وأصبحت هي والرسالة منارتين للثقافة العربية الأمينة.
وتحولت المجلتان لساحة تزخر بكافة الاتجاهات والمساجلات الفكرية، فقد أثار أحمد أمين مسألة الفصحى والعامية ونادى بوجود لغة وسطى بينهما تيسر على العامة سبل الثقافة، وقد لاقى بالطبع معارضة من بعض المفكرين وعلى رأسهم عبد الوهاب عزام، ولكنه في الوقت نفسه رفض كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية، كما كانت المعركة الفكرية بينه وبين زكي مبارك الذي اتهم أحمد أمين بسرقة أفكار طه حسين، وأحمد ضيف حين كتب سلسلة مقالات بعنوان " جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي" فرد عليه زكي مبارك بسلسلة مقالات جعل عنوانها " جناية أحمد أمين على الأدب العربي".
وقام أحمد أمين بجمع سلسلة مقالاته الأدبية في كتابه "فيض الخاطر" في عشرة مجلدات قاربت التسعمائة مقالة أحدثت صدى طيبا بين القراء.
مؤرخ الحركة العقلية
في عام 1344هـ/1926م وقع اختيار طه حسين على أحمد أمين للتدريس بكلية الآداب فتخصص في تاريخ الحركة العقلية للأمة الإسلامية، فأخرج فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام على نمط من التحليل العلمي لم يعرف من قبل في الدراسات العربية.
وامتد نشاط أحمد أمين الاجتماعي والعملي للعديد من النواحي فصار عضوا في مجالس الكليات والجامعات وشارك في مؤتمرات المستشرقين كما كان رحالة إلى شتى العواصم الإسلامية باحثا عن نفائس المخطوطات.
انتخب أمين عميدا لكلية الآداب فبذل جهده في تقدم الكلية فكريا واجتماعيا، وعمل على مراقبة الإدارات المختلفة ورعاية الأنشطة الاجتماعية الخاصة بالشباب.
ونتيجة لدقته الشديدة في مسألة الترقيات بين أعضاء هيئة التدريس حدثت خلافات بينه وبين طه حسين ثم استقال من عمادة الكلية حين وجد وزير المعارف يصدر قرارات تتعلق بهيئة التدريس دون الرجوع إلى مجلس الكلية وقال كلمته المشهورة" أنا أكبر من عميد وأقل من أستاذ".
اعتبر أحمد أمين فترة عمادته للكلية فترة جدب فكري حيث انقطع عن الكتابة والبحوث الخاصة بتاريخ الحركة العقلية؛ لذا فقد عاد أستاذا بالكلية وواصل بحوثه ودراساته.
وبعد عودته للكلية انتدبه وزير المعارف مديرا للإدارة الثقافية بالوزارة وأثناء إدارته بها واتته فكرة الجامعة الشعبية فرأى أن للشعب حقه في التعليم ورفض فكرة الدراسة المتدرجة التي ينبغي على الدارس أن يمر بكل مراحلها على الترتيب من الابتدائية فالثانوية حتى يكون له حق دخول الجامعة، فرأى أن تكون الجامعة الشعبية ميدانا لكل من يرغب في أن ينهل من منابع العلم دون التقيد بالسن أو الامتحان أو الشهادة، واقترح أن تكون المحاضرات شاملة لكل ما يهم المجتمع العربي وينمي ثقافته سياسيا واقتصاديا وأدبيا.
تقدم أحمد أمين بمشروعه الذي تفاني في بحثه حتى أخرج لحيز الوجود وتطور فيما بعد إلى ما أطلق عليه قصور الثقافة، لكن هذا التطور لم يؤد ثمرته المنشودة كما تصورها.
وبعد إنشاء الجامعة العربية عين أحمد أمين مديرا للإدارة الثقافية فعمل على إنشاء معهد للمخطوطات وأرسل البعثات لتصوير المخطوطات من مختلف المكتبات العالمية، كما عقد مؤتمرا ثقافيا يبحث في مناهج اللغة العربية والجغرافيا والتاريخ والتربية الوطنية في الأقطار العربية.
واختير لعضوية مجمع اللغة العربية في 1940م، وعضوا مراسلا في المجمع العربي بدمشق، والمجمع العلمي العراقي، وفي عام 1367هـ/1948م حصل على أول جائزة للدولة في الأدب عن كتاب ظهر الإسلام، وحصل على الدكتوراه الفخرية في نفس العام.
المدرسة الإصلاحية
توالت إسهامات أحمد أمين في عدة مجالات حتى بلغت الخمسين مؤلفا، شملت التاريخ الإسلامي والنقد الأدبي والأخلاق والفلسفة، وكان همه في الكتابة الإقناع لا مجرد التشويق والجذب، واتسمت كتاباته بمنهج نقدي تحليلي. وقد أثارت مؤلفاته التأريخية الهامة "فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر الإسلام، ويوم الإسلام" جدلا بين المفكرين والأدباء بسبب منهجه الذي التزم فيه بجوانب ثلاثة: اجتماعية – علمية – دينية.
وفي مجال الأدب له كتاب "النقد الأدبي"، و"قصة الأدب في العالم" الذي اشترك في تأليفه مع الدكتور زكي نجيب محمود، إضافة إلى عدة كتب متفرقة مثل "الشرق والغرب" و"الصعلكة والفتوة في الإسلام" و"المهدي والمهدوية".
وفي مجال التربية كتب "إلى ولدي" وهو عبارة عن مجموعة من الرسائل الموجهة للأبناء المغتربين هادفة الإصلاح والتقويم، وفي مجال السيرة الذاتية أبدع أحمد أمين في كتابه "حياتي" الذي حاول فيه رسم صورة حية لجيل كامل والتأريخ لمرحلة هامة من مراحل النهضة العربية أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين بأسلوب علمي وتفكير موضوعي.
كما أسهم بدور بارز في مجال النشر والتحقيق، فنشر ديوان حافظ إبراهيم، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، وخريدة القصر وفريدة العصر للعماد الأصفهاني، والهوامل والشوامل، والبصائر والذخائر، وحي بن يقظان، وغيرها.
ويدور فكر أحمد أمين حول الرسالة الإصلاحية، حيث دارت أغلب كتاباته حول العقيدة الدينية والإيمان العقلي؛ لذا ففكره يعد امتدادا لمدرسة الإصلاح حيث أعرب عن إعجابه البالغ بمنظري هذه المدرسة وأفكارهم كما ظهر في كتابه "زعماء الإصلاح" الذي قرر على طلاب المدارس لسنوات طويلة، إلا أن منهجه الاستقلالي في التعامل مع التراث الفكري للمدارس الإسلامية دعا البعض لانتقاده. ومن بين من انتقدوه بأسلوب علمي وموضوعي الدكتور مصطفى السباعي في كتابه "السنة ومكانتها في التشريع"، والشيخ محمد أبو زهرة ومحمد يوسف موسى وغيرهم، إلا أن البعض غالى في نقده واتهامه بأنه من أذناب المستشرقين.
وتتمثل أهم ملامح مشروعه الفكري في دعوته للفهم الصحيح للتوحيد ومناداته بالتضحية والبذل كمسلك لارتقاء الأمة، وأكد أنه لا تعارض بين القومية والعالمية، كما حذر من المدارس التبشيرية ورفض التعليم الأجنبي، ودعا إلى الاجتهاد في التشريع.
أصيب أحمد أمين في نهاية حياته بمرض في عينيه ثم علة في ساقه أقعدته، ولكنه لم ينقطع عن البحث والاطلاع والكتابة بمعاونة قارئ له، وانتقل إلى رحمة الله في 30 من مايو 1954م بعد عمر طويل بذله في خدمة العلم والأدب والتاريخ، تاركا تراثا عقليا وكنزا فكريا لا ينسى.
المراجع:
1. محمد رجب البيومي، أحمد أمين مؤرخ الفكر الإسلامي، دمشق: دار القلم، 2001م.
2. صلاح زكي أحمد، أعلام النهضة العربية الإسلامية في العصر الحديث، القاهرة: مركز الحضارة العربية، 2001م.
3. على مهنا وعلي نعيم خريش، مشاهير الشعراء الأدباء، بيروت: دار الكتب العلمية، 1990م.
4. محمد فتحي عثمان، السلفية في المجتمعات المعاصرة، الكويت: دار القلم للنشر والتوزيع، 1993م.
5. غيثة بلحاج، المرشد لتراجم الكتاب والأدباء، الدار البيضاء: معهد التسيير التطبيقي، سلسلة السنبلة، 1987م.
6. خير الدين الزركلي، الأعلام، بيروت: دار العلم للملايين، 1986م، الجزء الثالث.
http://www.biblioislam.net/ar/Scholar/card.aspx?CriteriaId=1&ID=23&UICollectionID=20

الاثنين، 21 يناير 2008

طاهر الجزائري .. رائد علم الببليوجرافيا في العصر الحديث


أمل خيري

يمثل طاهر الجزائري مدرسة فكرية إصلاحية مستقلة أهلته لدور الريادة في التجديد الديني بالشام في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهو يعد علما من أعلام الببليوجرافيا حيث يرجع الفضل إليه في إثراء الحركة المكتبية بالشام في العصر الحديث بإنشائه دار الكتب الظاهرية، كما يعد من رواد التربية والتعليم نظرا لجهوده في نشر العلم ومكافحة الأمية، وقد أحدثت حلقته الفكرية ثورة إصلاحية فكرية في بلاد الشام تتلمذ فيها على يديه كبار مصلحي ومفكري العصر.

النشأة والتكوين

ولد طاهر بن صالح بن أحمد حسين بن موسى بن أبي القاسم السمعوني الوغليسي الجزائري الدمشقي الحسني بدمشق في 20 من ربيع الآخر 1268هـ/11 من فبراير 1852م، ويعد والده صالح الجزائري من مشايخ عصره وقد أسند إليه منصب إفتاء المالكية في دمشق، كما كان منفردا بعلم الفلك والتاريخ في وقته وترك عددا من المؤلفات القيمة.

وفي هذه البيئة العلمية نشأ طاهر الجزائري حيث يعود لوالده الفضل الأول في تكوينه، وقد انتقل والده من موطنه الجزائر إلى دمشق قبل ولادة ابنه طاهر بقليل إبان نزوح عائلة الإمام عبد القادر الجزائري من الجزائر للشام بعد الاحتلال الفرنسي للجزائر.

تلقى الجزائري تعليمه على يد والده حيث تعلم منه علوم الشريعة واللغة العربية ثم التحق بالمدرسة الرشدية (الابتدائية) ثم المدرسة الجقمقية الاستعدادية (الإعدادية) وتابع فيها دراسته، وتتلمذ على يد الشيخ عبد الرحمن البوسني فتعلم منه العربية والفارسية والتركية وتوسع في دراسة العلوم الشرعية، وبعد تخرجه اتصل بعالم عصره الشيخ عبد الغني الغنيمي الميداني الذي كان له أكبر الأثر في تكوينه العلمي وتوجيهه نحو الفكر الإصلاحي، حيث وجهه لدراسة الشريعة من أصولها بعيدا عن العصبيات المذهبية والبدع التي انتشرت في الفكر الإسلامي.

كما تردد الجزائري على مدرسة حكومية ثانوية (المدرسة الحربية) تعرف فيها على العلوم الطبيعية والتاريخ والجغرافية والآثار، ودرس عدة لغات شرقية، وتعلم الفرنسية التي أعانته على اتصاله بالثقافة الغربية، كما تعلم الخطوط القديمة ليتمكن من قراءة المخطوطات، كما أحاط بمعرفة الكتب المدونة بالعربية المطبوع منها والمخطوط.

وهذه المعارف المنوعة التي استفادها أهلته ليكون موسوعة متنقلة حتى وصف بأنه "إنسيكلوبيديا سيارة"، وكان حريصا على اقتناء الكتب التي تعدت بضعة آلاف مجلد إضافة للنوادر المخطوطة، وكان لا ينفك عن مزاولة العلم في كل وقت من أوقاته ما بين قراءة وتنقيح وتنقيب وتأليف.

العالم المربي

بدأ الجزائري نشاطه العملي معلما في المدرسة الظاهرية الابتدائية عام 1295هـ/1878م وبدأ من خلالها يبث أفكاره الداعية للإصلاح والأخذ بأسباب العلم لنهوض المجتمع الإسلامي، وفي العام نفسه اتفق مع الشيخ علاء الدين عابدين وبهاء بك مكتوبجي الولاية على تأسيس جمعية علمية اجتماعية أسموها "الجمعية الخيرية الإسلامية" وانتظم فيها نخبة من علماء وأعيان دمشق، وذلك كاستجابة لتحدي النشاط التعليمي للإرساليات التبشيرية الأجنبية، وقد تلقت الجمعية الدعم من الوالي مدحت باشا وافتتحت الجمعية ثماني مدارس للذكور ومدرستين للإناث إدراكا منها لضرورة تعليم النساء ومشاركتهن في بناء الأمة.

وما لبثت الجمعية أن تحولت لديوان معارف في عام 1296هـ/1879م كجهة تابعة للإدارة العثمانية في ولاية سورية، وعين الجزائري مفتشا عاما على المدارس الابتدائية فكان دوره الرائد في تأليف كتب منهاج الصفوف الابتدائية في العلوم الدينية والعربية والرياضية والطبيعية.

كما أخذ على عاتقه مهمة تعليم المعلمين أصول التدريس وإعانتهم على حل المشاكل التي تواجههم أثناء التدريس.

وفي الوقت نفسه عمل على إقناع الآباء بوجوب إرسال أولادهم للمدارس لتلقي العلم، وهو ما ساهم في تنشيط الحركة التعليمية في سورية، كما سعى لإنشاء مطبعة حكومية قامت بطبع المؤلفات العامة والكتب المدرسية.

إثراء الحركة المكتبية

قضى الجزائري جل عمره في اقتناء الكتب والمخطوطات النادرة، وأهمه أمر تفرقها في المساجد والزوايا والبيوت فخشي عليها الضياع أو التلف أو النهب ففكر في جمعها في مكان واحد، فاختار المدرسة الظاهرية قرب الجامع الأموي فجمع فيها هذه المخطوطات وتحولت المدرسة الظاهرية فيما بعد إلى المكتبة الظاهرية.

وتعد المكتبة الظاهرية من أبرز وأجل أعمال طاهر الجزائري حيث عرفت بها دمشق لأول مرة في تاريخها الحديث كمكتبة عامة، وظل الجزائري يولي اهتمامه بالمكتبة فيبتاع لها ما يقع بين يديه من نفائس الكتب والمخطوطات، كما سعى لصنع فهارس لها حيث أدرك أهمية الضبط الببليوجرافي، ونتيجة لذلك اشتهرت المكتبة وقصدها العلماء والطلاب والمستشرقون الذين كانوا يراسلون الجزائري مراسلات خاصة ليطلبوا منه مخطوطات بعينها، ومنهم المستشرق جولدتسهير.

ولم يكتف الجزائري بالمكتبة الظاهرية بل دعا لتأسيس مكتبات عامة في كثير من المدن مثل حمص وحماة وطرابلس، وتولى وظيفة التفتيش على خزائن الكتب في سورية والقدس فساهم في إنشاء المكتبة الخالدية بالقدس، وهو ما جعله علما من أعلام الببليوجرافيا في العصر الحديث.

حلقة دمشق الكبرى

لم يكن الجزائري ينتهج نهج علماء عصره في الدعوة بإلقاء الدروس العامة في المساجد، بل اعتمد أسلوب الحلقة الفكرية أو الندوة، فكان يدعو إليها كبار علماء عصره بهدف تعلم العلوم الحديثة والتاريخ والتراث وسبل الانفتاح على الغرب، فارتاد حلقته كثير من العلماء المصلحين، وانضم لها العديد من شباب المثقفين والطلاب النابهين، ومن بين مرتادي حلقته محب الدين الخطيب ومحمد كرد علي وعبد الحميد الزهراوي وشكري القوتلي، وغيرهم من الدعاة والمصلحين والسياسيين، فكانوا يدعون للعدل والنظام وينددون باستبداد الحكام وسوء الإدارة. وعرفت الحلقة باسم حلقة الجزائري وأيضا باسم حلقة دمشق الكبرى وكانت تجتمع كل أسبوع بعد صلاة الجمعة في منزل رفيق العظم.

وبسبب نشاطه العلمي وأفكاره الإصلاحية التي سعى لبثها في عقول طلابه أثار عليه حفيظة العسكر فهاجموا بيته وعاثوا فيه فسادا فتوارى عن الأنظار فترة ثم عاد خفية لداره فباع كتبه ومخطوطاته وانتقل إلى مصر عام 1325هـ/1907م فأقام بها 13 سنة عكف فيها على القراءة والتأليف.

العالم الزاهد

لم يتخل الجزائري عن دعوته الإصلاحية في مصر فقام بمراسلة الخديوي عباس حلمي الثاني وأشار عليه بتأسيس مدرسة للغة العربية ودار للترجمة ومطبعة لطبع ما يترجم.

وفي مصر عزف الجزائري عن المناصب الحكومية فرفض عرضا بوظيفة في دار الكتب واكتفى بتحرير بعض الموضوعات في الصحف، وكان زاهدا يكتفي بالقوت الضروري مؤثرا شراء الكتب والمخطوطات على الطعام والملبس حتى عرف بارتدائه الثياب الرثة وكفاف طعامه، وحينما تضطره الحاجة للطعام كان يبيع مخطوطاته التي أفنى حياته في اقتنائها ليتقوت من ثمنها آبيا الثمن الغالي الذي كانت تعرضه مكتبة المتحف البريطاني وأمثالها من المؤسسات الأجنبية ليبيعها بنصف الثمن لدار الكتب المصرية حتى لا تخرج هذه المخطوطات من بلاد العرب.

منهجه في الإصلاح

وكما يقول عنه بعض معاصريه فإن للجزائري مزية يتفرد بها وهي أنه يترك أثرا من الخير أينما حل.

كما لم يسلك طريق الطفرة في الإصلاح فلم يدع للثورة بل رغب في العلم وحث عليه ليحارب به الجهل سالكا طريق الإصلاح التدريجي وفقا لمقتضى سنن الحياة.

نظر الجزائري لأدواء مجتمعه ووضع خطة عملية لعلاجها وساهم في تنفيذها، فرأى ضعف الروح المعنوية وضعف الانتماء يعود لجهل الناس بحضارة الإسلام فعمل على نشر التراث ومحاربة الأمية والتقليد الأعمى ومقاومة البدع والاتجار بالدين، ودعا إلى تجديد الدين بالعودة إلى منابعه الأصلية، مع إيمانه بمبدأ "الحكمة ضالة المؤمن" فدعا لاقتباس كل ما هو نافع.

وتميز الجزائري بعقل واع وهمة عالية مكنته من وضع مشروع حضاري نهضوي لعلاج الأمة يعتمد على تثقيف العامة مبتعدا عن المعارك العلمية والجدلية.

وعلى الرغم من مناداته بضرورة الحفاظ على الخلافة العثمانية فإنه دعا إلى إصلاحها. واشتهر بتشجيعه للناشئين، فكان كلما رأى مخايل النجابة في أحد سيره في طريق العلم، ومن شدة حبه للعلم لم يتزوج الجزائري ليتفرغ لتحصيل العلم والفكر.

كما عرف عن الجزائري تشجيعه للصحافة فكان يشجع الأثرياء على إنشاء الصحف، وكان له دور في إنشاء العديد من الصحف وظل يدعمها بالمقالات. إضافة لذلك كان له دوره الرائد في تشجيع حركة الترجمة فكان يدفع بالكتب لطلابه وأصدقائه ليترجموها إيمانا منه بدور الترجمة في الانفتاح على علوم العصر.

عاد الجزائري لدمشق عام 1337هـ/1919م بعد أحداث الثورة العربية الكبرى فعينته الحكومة العربية مديرا عاما لدار الكتب الظاهرية التي أسسها قبل أربعين عاما، كما قرر المجمع العلمي العربي ضم الجزائري إليه عضوا عاملا.

أمضى الجزائري أيامه الأخيرة في دمشق عاكفا على المطالعة والبحث وبعد رحلة معاناة مع المرض توفي في 14 من ربيع الآخر 1338هـ/5 من يناير 1920م ودفن بسفح جبل قاسيون.

التراث الفكري

ترك الجزائري ثروة نفيسة من المؤلفات والكتب المحققة والمخطوطات في علوم الدين والرياضيات والعلوم والخط والآثار إضافة إلى كتب المناهج الدراسية ومن أشهر كتبه الدينية "الجواهر الكلامية في العقائد الإسلامية" و"تفسير القرآن" في أربعة مجلدات و"الإلمام" في السيرة النبوية و"توجيه النظر إلى علم الأثر" و"التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن"، وفي الحساب والهندسة له كتب "مد الراحة لأخذ المسَاحة" و"مدخل الطلاب إلى فن الحساب". كما أن له "معجم أشهر الأمثال" وعدة كتب في القوافي والمجاز.

كما سعى الجزائري لتحقيق وإعادة نشر بعض كتب التراث مثل الفوز الأصغر لمسكويه، وروضة العقلاء لابن حبان، والذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني.

أما أفضل أعماله فتمثلت في كتاب مخطوط في عشرين مجلدا يبحث في نوادر المخطوطات ومحال وجودها ومزاياها، أسماها "التذكرة الطاهرية" وهي موجودة بحوزة المجمع العلمي العربي بدمشق، بالإضافة إلى 28 دفترا تركها بخطه في الخرائط الطاهرية.

وعلى الرغم من تصنيفه نحو أربعين كتابا فإن تلاميذه يعدونه مقلا في التأليف نظرا لغزارة علمه وثقافته الواسعة، وربما يعود ذلك لانشغاله بالتعليم ولأنه كان يرى أن تأليف الكتب لا يفيد إلا إذا جاء بجديد وبفكرة إبداعية تمثل إضافة لما هو قائم رافضا مجرد النقل من كتب السلف.

طاهر الجزائري يعد غرسة طيبة دمشقية المنبت، عربية الروح، إسلامية المنحى، وهو رائد التجديد الديني في بلاد الشام في العصر الحديث.

المراجع

1. خير الدين الزركلي. الأعلام، بيروت: دار العلم للملايين، 1406هـ/1986م، الجزء الثالث.

2. عمر رضا كحالة. معجم المؤلفين، بيروت: دار إحياء التراث العربى، بدون تاريخ، الجزء الخامس.

3. محمد خير رمضان. معجم المؤلفين المعاصرين، الجزء الأول، الرياض: مطبوعات مكتبة الملك فهد الوطنية، السلسلة الثالثة، 55، 1425هـ/2004م.

4. حازم زكريا محيي الدين. الشيخ طاهر الجزائري رائد التجديد الديني في بلاد الشام في العصر الحديث، دمشق: دار القلم، 1421هـ/2001م.

5. علي الطنطاوي. رجال من التاريخ، الجزء الثاني، جدة: دار البشير للثقافة، 1419هـ/1998م.

6. نقولا زيادة. أعلام عرب محدثون من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بيروت: الأهلية للنشر والتوزيع، 1414هـ/1994م.

7. آمنة أيوب خليل. طاهر الجزائري ودوره في الحركة المكتبية في ولاية سورية، مجلة العربية، محرم 1422هـ/مارس 2001م.

8. رغداء محمد أديب زيدان. طاهر الجزائري وحلقة دمشق الكبرى، الشهاب للإعلام.
http://www.biblioislam.net/ar/Scholar/card.aspx?CriteriaId=4&ID=33&UICollectionID=20

الثلاثاء، 15 يناير 2008

محمد فريد وجدي .. المفكر الموسوعي

أمل خيري

محمد فريد وجدييصنف المفكر محمد فريد وجدي ككاتب موسوعي وباحث فلسفي متجرد عاش لفكرته حياته كلها بعيدا عن الأضواء، وقام وحده بإنجاز دائرة معارف القرن العشرين وهي تعد أضخم وأول دائرة معارف عربية شاملة. عرف بغيرته على الإسلام فنذر نفسه للدفاع عنه بكل ما أوتي من علم ومال، وأثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفات لا تزال منهلا للكتاب والباحثين على مر الأعوام.

النشأة والتكوين

ولد محمد فريد وجدي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر على اختلاف في تعيين سنة مولده ما بين 1292هـ أو 1295هـ/ 1875م أو 1878م، وإلى التاريخ الأول ذهب الزركلي في كتابه "الأعلام" بينما يرجح الدكتور طه الحاجري التاريخ الآخر.

وكان مولده بالإسكندرية لأسرة من أصل تركي اتسمت بالمحافظة وكان والده مهتما بالعلم ولديه مكتبة ضخمة في داره تضم العديد من الكتب في سائر مجالات المعرفة.

تلقى وجدي تعليمه بالمرحلة الابتدائية بالإسكندرية حيث تنقل بين ثلاث مدارس خاصة هي "مدرسة إسماعيل حقي" و"مدرسة حمزة قبطان" و"مدرسة مسيو فاليو"، وحينما انتقل والده للعمل بالقاهرة عام 1309هـ/ 1892م، تابع وجدي دراسته بالمدرسة التوفيقية بالقاهرة لكنه - لاختلاف طبيعة الدراسة فيها عما درسه بالإسكندرية - طلب من والده أن يترك المدرسة وأن ينصرف لتحصيل الدراسة بنفسه فوافق والده خاصة بعد أن انتقل لدمياط للعمل كوكيل للمحافظة بها، وهنا انقطعت صلة وجدي بالدراسة النظامية مفضلا القراءة والاطلاع بعد أن قطع شوطا لا بأس به في دراسة اللغة الفرنسية.

وفي دمياط تعرض وجدي لحادث غير مسار حياته وهو حادث الشك في العقيدة والذي خرج منه بسلام زاده وثوقا في العقيدة بعد البحث والاطلاع، وتعلم منه دقة البحث والاستقلال في الفكر. وكان لهذا الحادث أكبر الأثر في فكره حيث بدأ بعده في إصدار المؤلف تلو الآخر مبتدئا بكتاب ألفه وهو لم يتعد السادسة عشرة وأسماه "الفلسفة الحقة في بدائع الأكوان" قدمه لكل من يمر بمثل تجربته التي تعرض لها مستدلا من القرآن والسنة وبأقوال علماء الطبيعة والكيمياء على وجود الله وعجائب صنعه. وقد راج الكتاب ونفدت نسخه في وقت قريب.

واصل بعدها وجدي نتاجه الفكري مرتئيا أن الغرب يروج لحملات الهجوم والتشويه على الإسلام فحاول مخاطبة الغرب وتوضيح ما وقعوا فيه من أخطاء خاصة بحقيقة الإسلام فكتب بالفرنسية كتاب "الإسلام والمدنية".

ولم يطل مقام وجدي بدمياط؛ إذ ما لبث أن انتقل إلى السويس بعد أن انتقل والده لوظيفة وكيل المحافظة بها وأقام بها ست سنوات عاد بعدها للقاهرة.

في ميدان الصحافة

لم يتدرج وجدي في المناصب بل كان صاحب فكرة ونهم للمعرفة، لا يكاد ينتهي من كتاب حتى يشرع في آخر، معتقدا أن الكاتب ينبغي عليه أن يسعى لإثبات أن الإسلام صالح لقيادة الإنسانية؛ لذا فقد اتجه للصحافة، وكانت جرائد اللواء والأهرام والمؤيد ترحب بمقالاته الأدبية وبحوثه العلمية، إلا أنه بعد فترة رأى أن هذه الجرائد أحيانا ما ترفض نشر هذه الدراسات العلمية المتخصصة، فاتجه فكره لإصدار مجلة علمية أسماها "الحياة" وصدر أول عدد منها غرة صفر 1317هـ / 9 من يونيو 1899م وكان غرضه من إصدارها تثبيت أصول الدين في عقول أبنائه بنتائج العلم العصري وإقامة الأدلة العمرانية والفلسفية على أن هذا الدين هو منتهى ما يصل إليه الإنسان من حقيقة الدين وما تدفعه إليه الفطرة.

إلا أنه - نتيجة لظروف مالية - لم يصدر سوى ثمانية أعداد من المجلة ثم توقفت.

وخاض وجدي تجربة الصحافة الخاصة مرة أخرى بإصداره "الدستور" في 11 شوال 1325هـ/ 16 من نوفمبر 1907م، وكان يحرر صفحات الأدب والفكر والاجتماع بالإضافة لكتابته بحوثا خاصة بالفكر الإسلامي.

ولم يتخل وجدي عن المنهج العلمي الدقيق في مقالاته؛ لذا كان يصدر أبحاثه في حلقات، كما كان يجهر بالنقد للأحزاب ولم يستثن الحزب الوطني الذي ينتمي إليه من النقد كلما حاد في مواقفه عن أهدافه، ما جعل الوطنيين يضربون عن شراء الدستور ويحاربون توزيعها، فاضطر لإيقاف إصدارها ورفض كل محاولات المعونات المغرضة التي انهالت عليه لتمويل الجريدة مقابل أن يتكلم بلسان من لا يرتاح لهم، وكان من بين العروض التي تلقاها عرض من جماعة تركيا الفتاة ليكون لسانا عربيا لحركتهم شريطة أن يرفع من صدر الصحيفة كلمة (لسان حال الجامعة الإسلامية) فرفض هذه المعونة مفضلا إغلاق الصحيفة.

كما ظهر نبوغه الأدبي في تحرير صحيفة "الوجديات" التي اعتمد فيها أسلوب المقامة في أغراض فلسفية، وهي عبارة عن مقالات خيالية لتصوير مثل عليا للحياة الفاضلة من منظور اجتماعي ينظر في أدواء الأمم ويعالجها. وتعد هذه الوجديات طليعة القصة الفلسفية.

تطوير مجلة الأزهر

وعلى الرغم من غربته عن الأزهر فإن الإمام المراغي شيخ الأزهر آنذاك عهد إليه برئاسة تحرير مجلة الأزهر لما لمسه فيه من غزارة العلم والتعمق في فهم الدين، وكان ذلك عام 1352هـ/1933م وعمره 55 عاما، وكانت المجلة حينها تسمى "نور الإسلام" ثم تغير اسمها إلى "الأزهر" بعد عام ونصف.

وقد أبدى وجدي نشاطا ملحوظا فتعددت أبواب المجلة وكان يقوم بتحرير أربع مقالات في العدد الواحد بنفسه، وفي عهده انتقلت مجلة الأزهر نقلة هائلة فأخذت تزاحم المقتطف والهلال والرسالة لدى كبار المثقفين الذين كانوا يعتبرونها فيما مضى خاصة بطائفة المعممين، فاختصها أساتذة الجامعات بدراساتهم المنهجية مع لفيف من رجال القضاء والطب والتربية والاجتماع.

ولكنها مع ذلك لم تسلم من نقد الفئة التي لا تعرف الانفتاح العلمي، فكان وجدي يرحب بنشر هذه الانتقادات في المجلة ويقوم بالرد عليها ردا علميا.

وظهرت بعض الملامح الإنسانية لدى وجدي إبان فترة رئاسته لتحرير الأزهر، فقد كان يقوم بتشجيع الطلاب الناشئين ونشر قصصهم وأشعارهم كما كان يقف على الجديد من الكتب ويعرض له - مهما كان كاتبها مغمورا - فيقدمه للقراء وكأنه من كبار الكتاب. وظل وجدي يؤدي مهمته في "الأزهر" حتى قبل وفاته بعامين.

في مواجهة المادية

قضى وجدي قرابة نصف عمره منافحا للمادية والماديين فكان يسارع بشراء ما يصدر باللغة الفرنسية من الكتب التي تروج للنظرية الداروينية ليقوم بتفنيدها والرد عليها، فكتب "على أطلال المذهب المادي" في أربعة أجزاء محاولا هدم كل ما قاله "المطورون" كاشفا حقيقة الصلة بين العلم والدين وموضحا المرامي الباعثة على نهوض البحوث الروحية في وجوه الشكوك المتلاحقة وباذلا جهده في إثبات العالم الروحي ليس فقط ليعتقد الناس ببقاء الروح بل ليدعوهم لصلاح أمرهم في الدنيا.

وتميز أسلوبه بالاستشهاد بكتب كبار علماء الغرب الذين قطعوا شوطا لا بأس به في هذا المجال، لذا يشهد له بالسبق في طرق هذا المجال في الوقت الذي كانت الجامعات الإسلامية تعد الحديث في الروحانيات من قبيل الخرافة؛ ما جعل البعض ينكر عليه هذا الاتجاه.

دائرة معارف القرن العشرين

على الرغم من تعدد مؤلفات محمد فريد وجدي وإنتاجه الفكري في عدة مجالات فإن أعظم إنجاز قدمه للفكر قد تمثل في تأليفه دائرة معارف القرن العشرين.

فقد كان لإجادته الفرنسية واطلاعه على معارف وعلوم العصر من دوائر المعارف العالمية مادة كبرى لتحصيله المعرفي، فكتب "كنز العلوم واللغة" عام 1323هـ/ 1905م والذي كان نواة لمصنفه الضخم فيما بعد، ثم خرجت دائرة المعارف في عشر مجلدات وتحوي تسعة آلاف صفحة قضى في كتابتها ما بين عامي 1328/1336هـ - 1910 /1918م، وهي دائرة معارف عامة تحتوي على فصيح اللغة وخلاصات العلوم العقلية والنقلية والطبيعية والتاريخية والعمرانية إضافة لتراجم مشاهير العلماء وكثير من الفوائد الطبية والعلاجية والوسائل الحيوية التي يحتاج إليها الإنسان في سائر أحواله المعيشية.

وقد انفرد وحده بتأليف هذه الموسوعة التي لا يستطيع أن يقوم بها العشرات بمثل هذه الدقة، ودفعه لذلك أن وجد الميدان خاليا فاقتحمه بمفرده، وتلقف الجمهور الموسوعة بإقبال نادر حيث نفدت طبعتها الأولى سريعا وأعيدت الطبعة الثانية.

ولم يكن وجدي جامعا للمعارف فحسب بل كان يقدم رأيه الخاص في كثير من المسائل، فهو ناقد وموجه وشارح، وبرغم ما بذله وجدي من جهود جبارة في إنجاز هذه الموسوعة فقد صمت ذوو الأقلام عن الإشارة لهذا الجهد الحافل.

تفسير القرآن

تعد محاولة تفسير القرآن من بين أبرز إنجازات فريد وجدي حيث أراد من خلاله أن يعطي الألفاظ العربية حقها من البيان مع بيان أسباب النزول وجعله في شكل المصاحف العادية، فاستكتبه باليد على ورق نباتي وطبعه تحت اسم "صفوة العرفان في تفسير القرآن"، وجعل تفسير كل صفحة في ذيلها ليسهل الرجوع إلى معنى أي لفظ. وهذا الأسلوب الذي ابتكره وجدي صار سنة لكتب التفسير التي طبعت من بعد كالجلالين والبيضاوي وما ألفه المحدثون من بعده.

ولم تقتصر عناية وجدي بالتفسير على المصحف المفسر بل كتب مجموعة من المقالات التفسيرية ألحقها بمقدمة تفسيره، كما اهتم بتفسير الآيات التي استشهد بها في جميع مؤلفاته وذلك لاستناده عليها في مناقشة قضايا الإسلام المختلفة.

كما أولى وجدي قضية المرأة في الإسلام عناية خاصة فكتب "المرأة المسلمة" ردا على كتاب "المرأة الجديدة" لقاسم أمين، مستخدما أسلوب النقد الموضوعي. وقد بدأ وجدي برفض خروج المرأة من البيت في هذا الكتاب لكن فكرته هذه تطورت بعد خمسة وأربعين عاما في بعض مقالاته منتهيا إلى إباحة إعطاء المرأة حق التصويت في الانتخابات وعضوية المجالس النيابية والخروج للعمل مستمدا آراءه من القرآن والسنة والتاريخ الإسلامي.

كما اهتم بكتابة السيرة النبوية وتراجم مشاهير الفكر والأدب، وتميز بالنقد الفني والأدبي فانتقد كتاب "الشعر الجاهلي" لطه حسين.

ويذكر لوجدي أنه تحمل النصيب الأكبر في الدفاع عن الدعوة إلى ترجمة معاني القرآن مع الشيخ مصطفى المراغي، كما يذكر له أيضا استبساله في رفض البدع المنكرة التي ألحقت بالطرق الصوفية.

وكما عاش فريد وجدي في صمت توفي أيضا في صمت بالقاهرة فى جمادى الآخرة 1373هـ / فبراير 1954م، عن عمر يناهز ستة وسبعين عاما قضاها في إثراء الفكر الإسلامي بمؤلفاته الموسوعية التي ما زالت تجذب الباحثين والطلاب لتقديم أطروحاتهم الجامعية عنها.

المراجع

1. صباح إبراهيم بيومي سليمان. محمد فريد وجدي مفكرا إسلاميا، رسالة ماجستير، قسم اللغة العربية بآداب الإسكندرية، 2000م.

2. محمد طه الحاجري. محمد فريد وجدي حياته وآثاره، محاضرات ألقيت على طلبة معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة، 1970م.

3. محمد رجب البيومي. محمد فريد وجدي الكاتب الإسلامي والمفكر الموسوعي، دمشق: دار القلم، سلسلة أعلام المسلمين، 2003م.

4. عباس محمود العقاد. رجال عرفتهم، القاهرة: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع.

5. خير الدين الزركلي. الأعلام، بيروت، دار العلم للملايين، 1406هـ/ 1986م، الجزء السابع.

6. عمر رضا كحالة. معجم المؤلفين، بيروت، دار إحياء التراث العربى، بدون تاريخ، الجزء الحادي عشر.

7. الصيد أبو ديب. الكاتب الإسلامي الكبير محمد فريد وجدي (1878- 1954م) وآثاره الفكرية، المدنية والإسلام نموذجا، مجلة كلية الدعوة الإسلامية، العدد 21 ، 2004م.

الأربعاء، 2 يناير 2008

مصطفى صبري .. شيخ الإسلام في الدولة العثمانية

أمل خيري

مصطفى صبرييعد شيخ الإسلام مصطفى صبري أحد أعلام الفكر الإسلامي المعاصر الذين قاوموا التبعية الفكرية للغرب وثقافته، وتصدى لتيارات التحلل والكفر والإلحاد مسخرا قلمه وفكره لفضح مؤامرات الكماليين للنيل من الخلافة الإسلامية في الدولة العثمانية قبل أفولها، مضحيا في سبيل ذلك بكل ما يملك.

النشأة والتكوين

ولد مصطفى صبري ببلدة توقاد بالأناضول لأسرة عريقة في النسب التركي يوم 12 من ربيع الأول 1286هـ، وقد نشأ وتربى في بيت علم وفضل فحفظ القرآن الكريم كاملا ولما يتجاوز العاشرة من عمره وكان والده يشجعه على طلب العلم حتى أنه كان يجمع علماء بلدته في بيته ويطلب منهم أن يناقشوا ولده فيما تعلمه في المدرسة.

وفي هذه البيئة الخصبة ظهرت أمارات النبوغ على مصطفى فدرس علوم القرآن والسنة والقراءات والتفسير والفقه وأصوله على أيدي كبار العلماء والفقهاء، واستفاد كثيرا من تلمذته على يد الشيخ "أحمد أفندي زولبيه زاده" فحصل على الابتدائية من بلدته، ثم انتقل إلى قيصرية بالأناضول، فدرس العلوم الشرعية على يد الشيخ "محمد أمين الدوريكي"، وبعد انتقاله للآستانة أتم دراسته المترتبة لعلوم الشريعة على يد الشيخ "أحمد عاصم الكوملجنوي" وكيل الدرس في المشيخة الإسلامية، وفي هذه الأثناء أظهر مصطفى صبري تفوقا على أقرانه وجذب انتباه مشايخه لنبوغه وسعة أفقه وقوة حافظته، حتى أن أستاذه الكوملجنوي قد زوجه ابنته بعد ما أجازه لشدة إعجابه به.

وقد تعددت مصادر التكوين الفكري لمصطفى صبري والتي من أهمها أسرته وشيوخه في صباه، إضافة إلى البيئة الدينية التي نشأ فيها، فالشعب التركي متدين بطبعه. وقد ساعدته نشأته في هذه البيئة المحافظة التي انتشرت فيها الكتاتيب ومعاهد العلم على ثراء روافده الفكرية، كما كان ولعه بالاطلاع والقراءة رافدا آخر لثقافته حيث كان لا ينفك عن ارتياد مكتبات الآستانة ليقرأ في جميع المجالات الفكرية، كما أن أسفاره وتنقلاته بين بلاد المشرق والمغرب التي اضطر إليها بسبب جهاده السياسي - الذي جعله مطلوبا للقتل في بلاده - قد ساهمت في إثراء فكره.

استأنف مصطفى صبري مسيرته العلمية بالآستانة حين تقدم لامتحان التخرج المسمى (رؤوس) للأستاذية عام 1307هـ/ 1890م واجتازه ونال شهادة العالمية بدرجة متفوق جدا، فأصبح مدرسا عاما في جامع السلطان محمد الفاتح، الذي كان له وقتها أرفع مكانة في الدولة العثمانية، وصارت له حلقة علم وهو لم يتجاوز الثانية والعشرين، وظل مدرسا لسنوات طويلة أجاز خلالها خمسين طالبا.

ثم انتقل للإمامة والتدريس بجامع الآثارية في بشكطاش، فمدرسا للتفسير في مدرسة الواعظين ثم بكلية الإلهيات بجامعة الآستانة، ونقل بعدها للتدريس في مدرسة المتخصصين حيث درس فيها صحيح مسلم. وفي عام 1336هـ/ 1918م عين مدرسا للحديث الشريف بالمدرسة السليمانية.

في قصر السلطان

اشتهر مصطفى صبري منذ صباه الباكر بقوة الحجة والجرأة في المواجهة، فكان خطيبا مفوها حتى أنه اختير عضوا من خطباء الدروس في حضرة السلطان عبد الحميد الثاني، وكان أصغر الأعضاء، وقد أثار انتباه السلطان عبد الحميد بحدة ذكائه وقوة حافظته ومجاراته كبار العلماء؛ ما حدا به إلى إصداره قرارا بتعيينه قيما عاما لمكتبته الخاصة الضخمة، كما منحه وساما عثمانيا ومجيديا من الدرجة الرابعة.

واستمر تقدير السلطان عبد الحميد لمصطفى صبري فعينه في منصب مدير القلم الخاص للسلطان ومنحه ميدالية اللياقة الذهبية ووساما عثمانيا آخر من الدرجة الرابعة.

وحينما اجتمع علماء الآستانة منتصف رجب 1326هـ/ 12-8-1908م لتأسيس "الجمعية العلمية الإسلامية" بهدف التوسع في إنشاء المدارس الدينية وإحيائها في الدولة العثمانية انتخب صبري رئيسا لمجلس إدارة الجمعية بعد حصوله على 112 صوتا من إجمالي 113 عضوا أي على أصوات كل العلماء فيما عدا صوته هو.

وقد أصدرت هذه الجمعية مجلة علمية إسلامية باللغة التركية سميت "بيان الحق" ورأس صبري تحريرها لسنوات طويلة. كما اختير عضوا من أعضاء "دار الحكمة الإسلامية" وهي مؤسسة علمية إسلامية تابعة للمشيخة الإسلامية.

وظل صبري يترقى في مناصبه حتى وصل لأعلى منصب في درجات السلم العلمي الديني في الدولة العثمانية، وهو منصب شيخ الإسلام في عهد السلطان "وحيد الدين"، الذي ساهم فيه بدور علمي ديني وأيضا سياسي، حيث مكنه هذا المنصب من الإحاطة بالملابسات السياسية التي تحيط بالخلافة الإسلامية فبدأ بالكشف عن خطط القوى والمنظمات المعادية للإسلام وساهم في توجيه سياسة الدولة والمناداة بتحكيم شرع الله.

ومع تواصل نشاط مصطفى السياسي اختير عضوا في مجلس النواب العثماني عن بلدته "توقاد" واستطاع في المجلس أن يكشف لأول مرة عن المؤامرات الصهيونية التي دبرت للقضاء على الدولة العثمانية.

كما شارك في تأسيس حزب الحرية والائتلاف في مواجهة حزب الاتحاد والترقي الذي كان يهدف للقضاء على الخلافة الإسلامية، وصدر بعدها قرار بتعيينه عضوا مدى الحياة في مجلس الأعيان العثماني ورئيسا لمجلس شورى الدولة.

وأثناء مؤتمر الصلح بباريس تولى صبري منصب الصدارة العظمى بالنيابة بدلا من الداماد فريد باشا الذي سافر لحضور المؤتمر.

شاهد على المأساة

شهد مصطفى صبري الاضطرابات التي مرت بها الدولة العثمانية أواخر عهدها فنهض وشمر عن ساعد الجد ليقاوم ويناضل لإحياء الأمة حيث تنبه لخطورة سقوط الخلافة على الأمة الإسلامية كلها وليس على الدولة التركية فحسب فجد في مقاومة الاتحاديين والكماليين وزادت مقاومته بعد إسقاط الخلافة نهائيا وكشف عن تواطؤ الكماليين مع الإنجليز وعارض كل إجراءاتهم العلمانية كإلغاء المحاكم الشرعية والمعاهد الدينية ونبذ الحروف العربية، وكان لهذه المقاومة الأثر في جعله مطلوبا للقتل من قبل الكماليين فاضطر للخروج وأسرته من تركيا بحرا متجها إلى مصر التي لم تحسن وفادته حيث قامت القنصليات التركية بمشاركة اليهود والإنجليز بمضايقته وإثارة الشعب المصري ضده، وشنت الصحف هجوما عليه تتهمه فيها بالخيانة وبيع الوطن للإنجليز، حيث كان المصريون وقتها مخدوعين بالانقلاب الكمالي حتى أن الشاعر أحمد شوقي كتب شعرا يمتدح به أتاتورك فرد عليه صبري بخطاب انتقادي نشره في جريدة المقطم؛ ما أثار عليه حفيظة المصريين من محبي أمير الشعراء، فاضطر للخروج من مصر متجها لبلاد الحجاز بدعوة من الشريف حسين وكانت صحة أسرته قد تأثرت بجو البلاد، فظل يتنقل حتى استقر في النهاية في تراقيه الغربية اليونانية في مدينة كلمنجة (Gomalcine) ذات الأقلية التركية المسلمة، وظل فيها خمس سنوات أصدر فيها جريدة "يارين" وتعني: الغد؛ تفاؤلا بغد إسلامي مشرق. وبدأ في نقد النظام الكمالي وحركة التغريب، وأخذ يحلل مصائب العالم الإسلامي، ووزعت الجريدة في أنحاء العالم الإسلامي حتى أنها دخلت تركيا سرا.

ثم ما لبثت الجريدة أن توقفت عن الصدور وأخرج صبري من اليونان بتحريض من الكماليين، فعاد مرة أخرى لمصر عام 1350هـ/ 1932م، وفي هذه المرة لاقى الترحيب من المصريين بعد أن انكشفت لهم الحقائق المتعلقة بأتاتورك وتكشف لهم إخلاص الرجل وصدق حدسه، فأصبح صبري مرجعا لاستشارة كثير من كبار العلماء والمفكرين والمثقفين، كما اجتازته وزارة الأوقاف المصرية ليكون عضوا في لجنة النهوض بالمساجد.

مشروعه الفكري

وتعد فترة إقامته الأخرى في مصر من أخصب مراحل مسيرته الفكرية، حيث اعتزل العمل السياسي وتفرغ للجهاد العلمي فكتب العديد من المقالات في الأهرام والمقطم والأخبار ومنبر الشرق والهداية الإسلامية والفتح والجامعة الزيتونية، وأخذ على عاتقه صد هجمات عنيفة كانت موجهة ضد الإسلام وعقائده الغيبية وصد هجمات المحرفين للإسلام باسم التحديث والعصرية، كما تميز بعنفه وشدته مع خصومه المتأثرين بالفكر الغربي ومجاهرته بالنقد لهم.

وساهم في نقاش العلماء والأدباء العصريين الذين يقدمون العلم المادي على الكتاب والسنة، والمولعين بتقليد الغرب وإنكار الأمور الغيبية، ونادى بتطبيق الشريعة، وفصل القول في مضار العلمانية.

كما عارض ترجمة القرآن الكريم ونبه على ما يترتب عليها من أخطار كثيرة وعارض الاتجاه الداعي لفتح باب الاجتهاد في الفقه على مصراعيه وناقش قضية العقل بين الدين والعلم، كما تناول مسألة الخلافة وفصل الدين عن الدولة وانتقد ادعاءات علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم".

ويعد موضوع الخلافة المشروع الفكري الأول لمصطفى صبري الذي تصدى له فانبرى في الدفاع عن نظام الخلافة وتوضيح الوبال الذي حاق بالمسلمين جراء إلغائها.

وواجه صبري فتنة سفور المرأة والمناداة بتحريرها ومساواتها مع الرجل، فوضح موقف الإسلام من المرأة وحقوقها وواجباتها مناديا المرأة بالتمسك بالحجاب، ورد على ادعاءات قاسم أمين وفند مزاعمه، وذلك في كتابه "قولي في المرأة".

وكشأن سائر علماء تركيا كان صبري ماتريديا في مسألة أفعال العباد قبل انتقاله لمصر، لكنه حين عكف على دراسة هذه المسألة تبين له رجحان مذهب الأشاعرة فتحول عن الماتريدية وآلى على نفسه بيان حقيقة المسألة في كتابه "موقف البشر تحت سلطان القدر".

ويعد مصطفى صبري مدرسة فكرية قائمة بذاتها يغلب على مؤلفاته الطابع العلمي والبحث العميق، وبلغت مؤلفاته 17 كتابا منها المطبوع والمخطوط ومنها ما كتبه باللغة التركية وما كتبه باللغة العربية، وقد استلهم كتبه من الأحداث السياسية والاجتماعية والفكرية التي عايشها، واتسم بالتحليل المنطقي للأفكار والقضايا وغلبة الطابع النقدي التحليلي حتى أن كتبه تعد في نفسها سجلا حافلا بالحياة الفكرية المعاصرة.

ومن أشهر كتبه باللغة التركية: "المجددون الدينيون" و"الإمامة الكبرى" الذي ضمن فيه أفكاره عن الخلافة الإسلامية وكشف عن خفايا مجهولة عن الحالة العامة أواخر الدولة العثمانية. ويعد كتابه "النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة" هو النسخة العربية لهذا الكتاب.

أما آخر ما كتبه أثناء شيخوخته فهو كتابه "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين" والذي يعد موسوعة في علم أصول الدين ضمنه خلاصة آرائه الفقهية والفلسفية والسياسية والاجتماعية، وكشف فيه عن الأخطار التي تحيط بالمشرق الإسلامي جراء موجات الإلحاد والغزو الفكري، وهدم فيه أساس مذهب وحدة الوجود.

إلا أنه يؤخذ على مصطفى صبري انحيازه لمذهب الأشاعرة ودفاعه الحار عن علم الكلام الذي تأثر به في دراسته، وإسرافه في تقديم العقل والمنطق ومبالغته في الدفاع عنهما، إضافة إلى عدم اهتمامه بالتبويب والتقسيم في الكتابة والتأليف. إلا أنه مع ذلك يظل من أهم أعلام الفكر الإسلامي.

وفاته

انتقل صبري أواخر أيامه للإسكندرية وهناك أصيب بالتهاب حاد في المسالك البولية وأجريت له عملية جراحية عانى بعدها من الآلام فعاد للقاهرة وأدخل المستشفى وساءت حالته الصحية وتوفي صبيحة الجمعة 7 من رجب 1373هـ/ 12-3-1954م عن عمر يناهز 86 عاما، عامر بالكفاح والجهاد بالقلم واللسان. وشيعت جنازته صباح اليوم التالي وحضرها كبار علماء الأزهر ودفن بالدراسة.

وكان لوفاته صدى كبير إذ فقد به العالم الإسلامي رمزا من رموز الخلافة الإسلامية وآخر مشايخ الدولة العثمانية.

المصادر:

1. خير الدين الزركلي: الأعلام، بيروت، دار العلم للملايين، 1986م، الجزء السابع.

2. عبدالله الطنطاوي: الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، مجلة المنار، العدد 79، صفر 1425هـ.

3. د. مفرح بن سليمان القوسي: مصطفى صبري المفكر الإسلامي والعالم الإسلامي وشيخ الإسلام في الدولة العثمانية سابقا، دمشق، دار القلم، 2006م.