فمن أهم مساوئ التطبيع إزالة الحاجز النفسي بين اليهود والمسلمين؛ الأمر الذي يجعل المصري المسلم العربي يتقبل وجود دولة يهودية بجواره يعادي من يقاومها ويعتبره إرهابيا، لهذا كان أحد شروط الصهاينة في اتفاقيات السلام محو كل ما من شأنه تعميق العداء مع اليهود سواء في الكتب أو الصحف أو المناهج المدرسية، من حذف للآيات التي تفضح صفات اليهود أو منع عرض أية برامج أو دراما تركز على طبائع اليهود الخسيسة ونشر ثقافة التطبيع والتعايش، الأمر الذي أدى لتمييع القضية لفلسطينية وشق الصف العربى.
أما الأمر الأكثر خطورة -في نظري- فكان العمل على نشر الفساد والرذيلة في المجتمع العربي لمحو مكونات الهوية الإسلامية والثقافة العربية الأصيلة، وتغيير سمات العربي الأصيل صاحب النخوة والكرامة والإباء والإنصاف والعقل الراجح والصدق، ليتحول إلى مسخٍ يهوى الفساد والضيم والخنوع والكذب والتضليل والاكتفاء بملذات الدنيا.
من هنا بدأت بافتراضية صادمة قليلا تحتاج للنقاش والدراسة: هل اكتسب الشعب المصري من صفات اليهود بعد التطبيع؟، وهل انتقلت بعض صفات اليهود المميزة لهم إلى بعض المصريين عبر بوابة التطبيع؟
وبما أن صفات اليهود التي تحدث عنها القرآن كثيرة أكتفي بصفة واحدة, ذمها القرآن وهي صفة (سماعون للكذب)، فلماذا أصبح المصريون شركاء لليهود في هذه الصفة البغيضة؟
سماعون للكذب
يقول تعالى في سورة المائدة ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)﴾.
توضح الآيات إحدى صفات اليهود المميزة وهي (سماعون للكذب)، وسمَّاعون جمع سَمَّاعٍ، وهي صيغة مبالغة من سامع، فهو لم يسمع مرة واحدة بل هو كثير السمع، يعرف أن ما يستمع إليه كذب ولكنه مع ذلك لا يكف عن معاودة الاستماع للكذب حتى يصير الاستماع للكذب من طبائعه وعاداته اللصيقة.
ولم تُعرف أمة من الأمم بهذه الصفة غير اليهود، ومع ذلك وصف القرآن فئة أخرى بهذه الصفة وهم المنافقون الذين يتخذون سماع وقبول وترويج الكذب ديدنا لهم؛ فالكذب والاستماع للكذب من الصفات المتناقضة مع الإيمان ولا يمكن أن يجتمع الإيمان والكذب في قلب المؤمن؛ لذا قرنت الآيات بين المنافقين (الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) وبين اليهود (من الذين هادوا) لاشتراكهما في اعتياد سماع الكذب والسماع لقوم آخرين ثم تحريف الكلم عن مواضعه.
ولا يختلف اثنان الآن على انتشار هذه الصفة بين كثير من المصريين الذين يستمعون إلى الكلام الكاذب من الإعلام الموجه وإلى الكاذبين من الإعلاميين، فيقبلوا به ويصدقونه ويروجونه بل ويثنون على قائله، فقط لأنه يحقق مصلحتهم أو يؤيد وجهة نظرهم، ما يعني أنهم يصدقونه ويسمعونه لأنه يوافق هوى في نفوسهم.
وقد حذرت آيات أخرى من اندساس فئة من المنافقين في صفوف المسلمين يسعون لنشر الفتنة, ومع ذلك من الناس من هم سماعون لهم رغم كذبهم ونفاقهم، فقال تعالى في سورة التوبة ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ التوبة (47(.
قال الحافظ ابن كثير –رحمه الله- و(فيكم سمّاعون لهم)، أي: مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدي هذا إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير.
وقال الطبري -رحمه الله- "اختلف أهل التأويل في تأويله: فقال بعضهم: وفيكم سماعون لحديثكم لهم، يؤدُّونه إليهم، عيون لهم عليكم، وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفيكم من يسمع كلامهم ويُطيع لهم".
وقال عبد الرحمن السعدي رحمه الله في "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان": "وَفِيكُمْ أناس ضعفاء العقول (سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي: مستجيبون لدعوتهم يغترون بهم، فإذا كانوا هم حريصين على خذلانكم، وإلقاء الشر بينكم، وتثبيطكم عن أعدائكم، وفيكم من يقبل منهم ويستنصحهم. فما ظنك بالشر الحاصل من خروجهم مع المؤمنين، والنقص الكثير منهم، فللّه أتم الحكمة حيث ثبطهم ومنعهم من الخروج مع عباده المؤمنين رحمة بهم، ولطفا من أن يداخلهم ما لا ينفعهم، بل يضرهم".
وقال صاحب المنار "وفيكم سماعون لهم أي: وفيكم أناس من ضعفاء الإيمان أو ضعفاء العزم والعقل كثيرو السمع لهم؛ لاستعدادهم لقبول وسوستهم، وقيل: أناس نمامون يسمعون لأجلهم ما يعنيهم ".
لماذا يسمعون الكذب؟
فما الذي جعل بعض المصريين رغم كل التضليل الإعلامي والتحريض على الفتنة يحبون سماع الكذب المفضوح، بحيث تغلغل في أعماق قلوبهم وأشربوه، وأضحوا يتلذذون ويطربون لسماعه، ويسعون جاهدين للبحث عنه؟
يجيب عن هذا السؤال الشهيد سيد قطب؛ فقد قال في الظلال "سماعون" بما يشي بأن هذه أصبحت خصلة لهم تهش نفوسهم لسماع الكذب والباطل وتنقبض لسماع الحق والصدق، وهذه طبيعة القلوب حين تفسد وعادة الأرواح حين تنطمس، ما أحب كلمة الباطل والزور في المجتمعات المنحرفة وما أثقل كلمة الحق والصدق في هذه المجتمعات، وما أروج كلمة الباطل في هذه الآونة، وما أشد بوار الحق في هذه الفترات الملعونة"
إذًا السبب هو فساد القلوب وانطماس الأرواح وانحراف المجتمعات، وما ذلك إلا لاتباع الهوى وتغليب حظ النفس، قال تعالى ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾ (الفرقان43)، وقال: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ (الجاثية 23)، فبينت الآيات أن عاقبة اتباع الهوى تتمثل في طمس البصر والبصيرة بحيث يصبح الإنسان في هذه الحالة كالأنعام بل أضل، قال تعالى ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف 179).
في حين حذرنا القرآن ليس فقط من اتباع الهوى بل من طاعة من يتبع هواه ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ (الكهف 28).
كما حذرنا من محترفي الكذب الذين يلحنون القول ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد 30)، وحذرنا من أن بعض شياطين الإنس والجن يزينون القول حتى يفتتن بهم الناس ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ (الأنعام 112).
وعلى الرغم من تحذيرات القرآن الكثيرة للمسلمين من أمثال هؤلاء الذين يزخرفون القول والذين أوتوا من فصاحة اللسان وبلاغة البيان مع فساد قلوبهم في آيات كثيرة من بينها ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ (البقرة 204)، وكذلك ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (المنافقون 4). وقال تعالى ﴿قُتل الخراصون﴾ (الذاريات 10) أي لعن الكذابون أصحاب القول المختلف.
وما جاء هذا التحذير إلا لأن هؤلاء الذين يلحنون القول سيكونون أول من يتبرأ من الذين سمعوا لهم واتبعوهم يوم القيامة ﴿قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾ (القصص 63).
وعلى الرغم من كل هذا الذم لسماع الكذب أو اتباع الخراصين فهل تعلم أن معظم هؤلاء الإعلاميين ومروجي الكذب والفتن قد خاضوا في آيات الله واستهزأوا بها وخاضوا في أعراض الصحابة وافتروا الكذب على الإسلام، بل لم يسلم الرسول صلى الله عليه وسلم من سخريتهم، والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى، لكن نسوق بعضها للتذكرة فقط:
قال عمرو أديب في برنامج "القاهرة اليوم": "لن تحكمنى آية من آيات الله أو شيخ، فلن يكون للدين سيطرة على الدولة، والسيادة للقانون فقط ولن أقبل بغير هذا"، كما قال معلقا على وصف بعض أتباع النظام السابق بـ(الفلول): "لماذا لم يقال عن عمر بن الخطاب أنه من الفلول عندما دخل الرسول مكة، ولم نسمع عن خناقة بين الكفار والمسلمين وقتها" وهو ما يعد استهزاءً بصحابة النبى الكرام.
وتساءل خالد منتصر "ما دخل الله في السياسة؟"
وقال عادل حمودة على قناة النهار معقبا على الوقفات الاحتجاجية على الفيلم المسيء للرسول: "الرسول ليس مصري الجنسية حتى تتحرك السفارة المصرية للدفاع عنه".
أما إبراهيم عيسى فقد قاد حملة شعواء على الصحابي الجليل أبي هريرة، كما سخر من آيات الله فقال "هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ"، ثم سخر واستهزأ بحركات جسده وبكلامه من كتاب الله عز وجل قائلاً: "سلطانيّة سلطانيّة ده سلطانية محمد مرسي"، كما سخر من أذان المسلمين عبر مكبرات الصوت، وخاض في كثير من الصحابة.
ولا يتسع المقام هنا لعرض كم السخريات الهائلة من الإسلام ورموزه التي عرضها باسم يوسف.
هذه الأمثلة وغيرها تؤكد حقيقة أن كثيرًا من إعلاميي الضلال سخروا من الإسلام ورموزه وتهكموا على كتاب الله وافتروا الكذب على الصحابة، إلا أن المشكلة ليست فيهم بقدر ما هي في السماعين لهم، رغم تحذير القرآن من الاستماع لمثل هؤلاء، بل نهى القرآن عن حضور مثل هذه المجالس ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ (النساء 140)، وهو تحذير شديد اللهجة؛ حيث جعل المستمع لمن يستهزأ بآيات الله شريك معه في الوزر والمصير؛ ليجتمع الكافر الذي يكفر بآيات الله ويستهزأ بها مع المنافق الذي استمع إليه ولم يترك هذه المجالس.
كن كالنجاشي
تذكر كتب السيرة بعضَ صنوف الحرب الإعلامية التي مارستها قريش ضد نبي الإسلام، والترويج لكثير من الأكاذيب بحقه وبحق دعوته، لكن مع ذلك نذكر موقفا حكيما للنجاشي ملك الحبشة وكيف واجه هذه الأكاذيب، فبعد هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة أرسلت قريش عمرو بن العاص الذي دخل على النجاشي، فقدم له الهدايا العظيمة ثم بدأ خطبته بتسفيه المهاجرين عنده بقوله "أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء"، ثم حاول أن يوغر صدر النجاشي عليهم وتصويرهم كمارقين لجئوا إليه ولم يؤمنوا بدينه فقال "فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدينٍ ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت"، ثم لوح له بإمكانية قطع العلاقات مع دولته من قبل أشراف مكة الذين أرسلوه فقال "وقد بعثَنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم؛ فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه"، وفي عبارته هذه لفتة إلى أن أشراف مكة هؤلاء هم الأوصياء على هؤلاء المهاجرين والأحق بهم.
وبالطبع مهد عمرو بن العاص لمهمته هذه في إقناع النجاشي بتقديم الهدايا للبطارقة وحاشية الملك حتى إنهم تدخلوا في الحديث ليقنعوه برد المهاجرين فقالوا "صدقا أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم".
وعلى الرغم من ذلك, ولأن النجاشي ملك عادل لا يُظلم عنده أحد، فإنه لم يتأثر بالأكاذيب التي ساقها ابن العاص؛ فقد رأى من بين هؤلاء المهاجرين أشرافا من قريش وليس غلمان سفهاء فقال كلمته الشهيرة "لا والله، لا أسلمهم إليهما، ولا يُكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوَهم فأسألهم مما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني".
لم ينخدع إذًا النجاشي بحديث سفير قريش بل أعمل عقل وحكمته ليوازن كلامه وفي الوقت نفسه استمع إلى الطرف الآخر حتى يصير حكمه عادلا.
الأمر الأكثر غرابة أنه حتى في عهد الجاهلية كان الرجل يخاف أن يؤثر عنه كذب فتضيع هيبته بين الناس، ونتذكر موقف أبي سفيان بن حرب مع هرقل حين استدعاه ليسأله عن النبي ومعه تجار من مكة فقال قولته الشهيرة "فوالله لولا الحياء من أن يؤثر أصحابي عني الكذب لكذبته حين سألني عنه، ولكني استحييت أن يؤثروا الكذب عني فصدقته!".
هكذا الجاهليون يستحون من الكذب، وهكذا الملك النصراني لا تنطلي عليه الأكاذيب، فمال بال كثير من المصريين يتعمدون الكذب ويهشون له ويستمعون إليه تماما كاليهود؟!، هل تأثروا بالفعل بصفات اليهود بعد التطبيع؟ وصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم "لَتَتّبِعُنّ سَنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْراً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ حَتّىَ لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبَ لاَتّبَعْتُمُوهُمْ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ آلْيَهُودُ وَالنّصَارَىَ؟ قَالَ "فَمَنْ؟".
http://www.alamatonline.net/l3.php?id=69843