| ||
المحبة في الله من أوثق عُرى الإيمان كما يقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله" (رواه أحمد والحاكم). والأخوة الإيمانية كانت وما تزال هي الرباط الرباني الذي يجمع ما بين الدعاة إلى الله، فما الذي انتاب هذه الروح بين بعض دعاة اليوم؟ ولماذا أصبح الجفاء بديلاً عن رُوح المحبة في الله والأخوَّة الإيمانية؟ |
يقول الداعية الكبير عباس السيسي (رحمه الله): (الدعوة حب- والحب دعوة- ولا دعوة بغير حب)، لكن بين أيدينا الآن استطلاع للرأي شمل عدد 50 من الدعاة والداعيات في مختلف المجالات الدعوية وافق 40% منهم بشدة على تراجع روح الأخوَّة بين الدعاة عن ذي قبل، بينما نسبة 40% تشعر بتناقص هذه الروح إلى حدٍّ ما، بينما لم يختلف مع هذا الرأي سوى 20% من العيِّنة.
ويشعر 70% منهم بتحوُّل العلاقة إلى شبه إدارية، على النقيض فإن حوالي 90% من أفراد العينة قد أكدوا أنهم يلتزمون بواجبات الأخوَّة و10% إلى حدٍّ ما، بينما لم يَذكر أحدٌ منهم أنه مقصِّر من جهته في حقوق الأخوَّة.
أما عن أسباب هذا الجفاء من وجهة نظر أفراد العينة فقد تنوعت، وكان مما ذكره هؤلاء الدعاة منها:
1- كثرة الأعباء الوظيفية والأسرية والدعوية.
2- نقص الإيمان في القلب والركون إلى الدنيا وشهواتها.
3- فتور العزيمة وتثبيط الهمة.
4- الابتعاد عن مخالطة الصحبة الصالحة لفترة طويلة.
5- عدم التماس الأعذار للغير.
6- غياب الفهم والتطبيق الصحيحين للدعوة.
7- البعد عن التخلق بأخلاق النبي والصحابة.
8- تحدث كل طرف عن نفسه وعدم الاستماع للآخرين.
9- الاعتداد بالرأي وعدم الاقتناع بآراء الآخرين.
10- محاولة الظهور والتباهي بالأعمال على حساب العلاقة مع الدعاة.
11- عدم التدريب على العمل الجماعي؛ حيث ينجح الداعية بمفرده ويفشل عندما يجتمع مع غيره.
النضج الدعوي
وحينما عرضنا نتائج هذا الاستبيان على عدد من الدعاة والعلماء تباينت الآراء بين إنكار وجود هذه الظاهرة من عدمه.
فالداعية جازية رمضان تقول: شعرت بالصدمة من نتيجة هذا الاستبيان، فلم أكن أتصور أن يطرأ الفتور أو الجفاء على العلاقات بين الدعاة؛ لأن الأخوَّة والمحبة في الله هما رُوح العمل الدعوي وأصل من أصوله، إلا أن ما يُوحي بهذه الجفوة كثرة المسئوليات والانشغالات، ففي مقتبل حياتنا الدعوية كنا نقضي وقتًا طويلاً في التعارف والتزاور والتواصل، ثم انشغلنا بعد ذلك في الأعباء الشخصية والالتزامات العديدة، فأصبح لا وقتَ لدينا للتزاور والسؤال عن إخواننا، ولكننا ما زلنا نكنُّ لهم في قلوبنا الحب، وعلى كل داعية أن يلتمس لأخيه سبعين عذرًا في تقصيره في السؤال عنه.أما من يشعر بتناقص محبة أخيه في قلبه فأعتقد أن هناك
سببين أساسيين وهما:
1- نقص النضج الدعوي؛ حيث يكون هناك خطأٌ في أساس بناء هذا الداعية؛ لأنه لو فهم أصول دعوته حق الفهم لعلم أن هذه المحبة ركن من أركان دعوته.
2- ضعف الإيمان؛ لأن الصلة بالله هي الجذر الذي إن تمسك بالقلب تصبح جذور الدعوة ثابتة قوية وعلى العكس إن ضعف هذا الجذر فإن الدعوة نفسها يتطرق إليها الوهن فتضعف روح الإخاء ويكون الجفاء.
تراكم الخلافات
أما الداعية الدكتورة عزة لبيب فتؤكد أنَّ معنى الأخوة الحقيقية التي يحبها الله ورسوله التسامح وسلامة القلب من الأحقاد، وهذه أدنى مراتب الأخوة أما أعلاها فهي الإيثار، وأي خلل في هذه المعاني يؤدي لضعف روح الإخاء وظهور بعض الجفاء، وترى أن هذا الجفاء ليس وليد موقف بل هو تراكمات لعدة مواقف من الخلاف العادي في الرأي لم يحسن كل طرف التعامل معها في حينها مع الاهتمام بالفروع وترك الأصول في المسائل الفقهية، إضافةً إلى عدم استحضار النية في معالجة هذا الخلاف بحيث تقدم الأخوة وواجباتها على الانتصار للرأي، وأحيانًا قد يتمثل السبب في الكبر والاستعلاء وعدم المرونة الكافية في التعامل مع هذه الخلافات لذا فإنه من المؤسف القول إن هذا الجفاء هو دليل على سوء الخلق؛ لأن حبيبنا- صلى الله عليه وسلم- حين سُئل عن حسن الخلق فقال: "أن تعفو عمَّن ظلمك، وتصل مَن قطعك، وتُعطي مَن حرمك"، فإذا اختفى العفو والتسامح بين الدعاة، فهذا من سُوء الخلق الذي يورث الجفاء.
وتضيف أن من الأسباب أيضًا الخلل في التربية الإيمانية لهؤلاء الدعاة؛ حيث إنهم لم يستوعبوا الأصول العشرين للإمام البنا، فالأصل الثامن كما ذكره الإمام يقول: (والخلاف الفقهي في الفروع، لا يكون سببًا للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة، ولا بغضاء، ولكل مجتهدٍ أجره، ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف، في ظل الحبِّ في الله، والتعاون على الوصول إلى الحقيقة، من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب)، فهل استوعب الدعاة هذا الأصل الرائع؟!
وقود الدعوةويعود بنا الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد- أستاذ التفسير بجامعة الأزهر- أصل اللغوي لكلمة الداعية فيوضح أن التاء هنا للتكثير والمبالغة وليست للتأنيث، والمعنى أن الداعية هو كثير الدعوة يقوم بها على وجهها الصحيح ويجعلها حرفة حياته، وقد كانت هذه الدعوة وظيفة الأنبياء من قبل؛ ولذلك لا يُسمَّى داعية إلا من كان متخلقًا بأخلاق الدعوة التي يدعو إليها وقائمًا بحقوق الدين الذي ينادي به بين الناس؛ ولذا يجب على الدعاة أن يسود بينهم الفهم المشترك الصحيح والإخاء والمودة والتناصح إلا أننا لاحظنا أنَّ بعضَ الدعاة قد يظهر بينهم فتور في العلاقات، فهذا إن دل فإنه يدل على خللٍ في المنهج فهمًا وتطبيقًا؛ لأنهم جميعًا مجاهدون في كتيبةٍ واحدةٍ هدفها واحد ودينها واحد ووجهتها واحدة، وهي تتقوى بالحب والتآلف لا بالتنابذ والتخالف.
وقد يظهر هذا الفتور نتيجةً لخلل في فهمهم لمبدأ التناصح فنجد من الدعاة مَن ينصح أخاه على رؤس الأشهاد مما يحدث بلبلةً، وبالتالي يُوقع البغضاء والتشاحن، كما أنَّ من الأسباب التي قد تسبب الجفاء بين الدعاة الإصرار على الرأي والاعتداد به وتخطئة الآراء الأخرى، وهذه آفة خطيرة تؤدي للتنابذ المذموم على الرغم من قول الرسول: "رُبَّ مبلغ أوعى من سامعٍ، ورُبَّ حامل فقهٍ إلى مَن هو أفقه منه"، ويعلمنا الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن نأخذ الحكمة من أي جهة فيقول: "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها"، وعند الخلاف يقدم الدليل الشرعي ويخضع الجميع له لا تقدم الأهواء والآراء الشخصية.
الدعوة الحقيقيةوحينما عرضنا نتائج هذا الاستبيان على الدكتور أحمد العسال- مستشار الجامعة الإسلامية في إسلام أباد- قال: لا أعتقد أن هناك داعيةً إلى الله يحب الله ورسوله ويُخلص لهما يشعر بجفاءٍ لأحدٍ من المسلمين عامةً، فضلاً عن إخوانه من الدعاةِ؛ لأن من صفات الرسول- صلى الله عليه وسلم- التي امتدحها الله فيه: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)﴾ (التوبة)، كما امتدح الله المؤمنين في سياق حديثه عن المتشككين في دينهم بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)﴾ (المائدة).ولكن هذه الآفة تصيب فريقًا معينًا من الدعاة ممن لم يصل إلى مرتبة الدعوة الحقيقية؛ لأن الداعيةَ الحقيقي هو رجلٌ يقدم نفسه كله لله؛ لذا فإنه من الخطأ بمكان تعميم الحكم على عامة الدعاة الذين يقتدون برسولهم الكريم الذي قال الله تعالى في حقه: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وقال أيضًا: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران:159).
أما الأسباب التي قد تؤدي لظهور هذا الأمر لدى هؤلاء البعض فكثيرة: فلو نظرنا إلى حال الأمةِ على وجه العموم لوجدناها في حالةٍ غير عادية بسبب شيوع الفكر العلماني الذي انتهى بأنه يريد أن يكون الدين تدينًا فرديًّا، وأن ينسحب من الساحةِ الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهذا بالطبع مخالفٌ لإرادةِ الله بل هو تأثر بالفكرِ الغربي الذي حذَّرنا منه نبي الإسلام من أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان، فيما جاء في الصحيحين أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: "لتتبعن سنن مَن كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه"، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟!"، والدعاة ما هم إلا امتداد لهذه الأمة ويتأثرون بما فيها من أفكار.
أما السبب الثاني فهو أنَّ العملَ الطوعي في بلادنا ما زالت أمامه عقبات كثيرة وفي ظل عدم التواصل والتحاب بين الدعاة وقلة التزاور واللقاءات قد ننشغل بالتغلب على هذه العقبات على حسابِ تحقيقِ معاني الأخوة، وهذا فهم خاطئ؛ لأن التغلب على العقباتِ لن يتأتى إلا بالتماسك والتعاون وتحقيق معاني الأخوة.
غياب الرعاية المؤسسية
إذا أضفنا إلى هذا عدم وجود رعاية مؤسسية ترعى الدعاة وتتبنى مشاكلهم وقضاياهم يتبين لنا حجم الخسارة الكبيرة في مجال الدعوة، ومن المؤسف والمحزن أن تُحل مثلاً جبهة علماء الأزهر بقرارٍ من شيخ الأزهر وهي التي كانت تضم نخبةً من العلماء الأجلاء.
ويضيف الدكتور العسال أيضًا أنَّ من أسبابِ هذا الجفاء نقصان بعض العلائق التي أمرنا الله بها في قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)﴾ (التوبة).
ومن الأسبابِ الخطيرة كذلك القصور في الصلة بالله إضافةً إلى عدمِ الوعي الكامل بما ينبغي على الداعية أن يكون عليه، فرسولنا الكريم لم يترك قيام الليل في حضرٍ أو سفرٍ، وهكذا كان الصحابة من بعده؛ لذلك كان سيدنا عمر بن الخطاب يقول: "إذا أقبلت الناس فأعطها ما تحب من الطاعة، وإذا أدبرت فألزمها الفريضة"، ولذلك نجد أنه من الطاعات العظيمة التي حثنا عليها القرآن الكريم تكرارًا (ذكر الله) فلو انشغل الدعاة بذكرِ الله لما تركوا فرصةً للشيطان أن يُوقع بينهم العداوة والبغضاء؛ لأن الفراغ إن لم تملأه بالطاعة ملأه الشيطان باللغو.
ويرتبط بالسببِ السابق سبب آخر ألا وهو التعلق بالدنيا فهو رأس كل خطيئة، ويدلنا الرسول الكريم على وصفةٍ ناجحةٍ لكسب حب الناس وحب الله فيقول: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" (حديث حسن رواه ابن ماجة وغيره).
لذلك فإن الأنبياء لم يتركوا ميراثًا أو حظًّا من الدنيا وإنما تركوا العلم لذا فإن ضعف ثقافة الداعية قد يكون سببًا من أسباب التعلق بالدنيا والانشغال بالتوافه مما يؤدي للتباغض والشحناء، والإمام البنا لم يقل عنه أنه رجلٌ ربانيٌّ إلا لأنه قد انتصرَ على الغوائل الثلاث "حب المال والجاه والمرأة"، وأذكر موقفًا أيضًا للإمام الندوي رحمه الله أثناء حضورنا مؤتمرًا للسيرة النبوية في قطر أصرَّ على أن يُقيم في فندقٍ متواضعٍ وترك الفندق ذا النجوم الخمس الذي كان محجوزًا له، هؤلاء الدعاة الذين لم يتعلقوا بالدنيا عرفوا معنى الأخوةَ الحقَّة والتزموا بواجباتها.
والسبب الأخير هو كثرة المراء والجدال، وقد حذرنا الرسول فقال: "هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون" (رواه مسلم).
افتقاد روح الجماعة
أما مسألة انشغال الدعاة بواجباتهم الأسرية أو الدعوية فليس لها مجال فأمة محورها المسجد لا يشغلها عن واجب الأخوة شيء إنما الأزمة الحقيقية هنا افتقاد البناء الذي يقوم على التحاب والنقاء، مما يُنتج آفة خطيرة وهي النزعة الفردية لدى كثير من الدعاة الذين يفشلون في تقديمِ عملٍ جماعي، بينما الأصل أنَّ المؤمنين الذين يعملون الصالحات يؤثرون بعضهم على أنفسهم، وبالتالي فإنَّ من أهم الأسباب التي أدَّت لظهور هذه الآفة الافتقاد لروح الجماعة.
ويتذكر الدكتور العسال أنه أثناء وجوده في تركيا وزيارته لبعض المناطق دمعت عيناه من شدةِ الفرح حين كان يجد العلماء التركمان وعلماء من أواسط آسيا وعلماء من العرب قد التقوا جميعًا واجتمعوا في قالبٍ واحدٍ، ويتساءل أين نحن من هؤلاء؟!!
ويعلق على مسألة الفتور التي ذكرها بعض الدعاة فيقول إنَّ الفتور قد يعتري الدعاة في بداية الطريق، أما بعد أن يفتح الله عليهم فإننا نستبعد ذلك، فمن حكمة الله تعالى أن شرع للمؤمن صلوات في اليوم والليلة بدءًا من دلوكِ الشمس إلى غسقِ الليل ليعالج تثبيطَ الهمة في العبادات والطاعات، ويذكرنا بها دائمًا وها هما القرآن والسنة يُذكرانا كل حين بحقوق الأخوة وواجباتها ولكن الخلل في الفهم والتنفيذ.
الاستبيان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق