الثلاثاء، 15 يناير 2008

محمد فريد وجدي .. المفكر الموسوعي

أمل خيري

محمد فريد وجدييصنف المفكر محمد فريد وجدي ككاتب موسوعي وباحث فلسفي متجرد عاش لفكرته حياته كلها بعيدا عن الأضواء، وقام وحده بإنجاز دائرة معارف القرن العشرين وهي تعد أضخم وأول دائرة معارف عربية شاملة. عرف بغيرته على الإسلام فنذر نفسه للدفاع عنه بكل ما أوتي من علم ومال، وأثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفات لا تزال منهلا للكتاب والباحثين على مر الأعوام.

النشأة والتكوين

ولد محمد فريد وجدي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر على اختلاف في تعيين سنة مولده ما بين 1292هـ أو 1295هـ/ 1875م أو 1878م، وإلى التاريخ الأول ذهب الزركلي في كتابه "الأعلام" بينما يرجح الدكتور طه الحاجري التاريخ الآخر.

وكان مولده بالإسكندرية لأسرة من أصل تركي اتسمت بالمحافظة وكان والده مهتما بالعلم ولديه مكتبة ضخمة في داره تضم العديد من الكتب في سائر مجالات المعرفة.

تلقى وجدي تعليمه بالمرحلة الابتدائية بالإسكندرية حيث تنقل بين ثلاث مدارس خاصة هي "مدرسة إسماعيل حقي" و"مدرسة حمزة قبطان" و"مدرسة مسيو فاليو"، وحينما انتقل والده للعمل بالقاهرة عام 1309هـ/ 1892م، تابع وجدي دراسته بالمدرسة التوفيقية بالقاهرة لكنه - لاختلاف طبيعة الدراسة فيها عما درسه بالإسكندرية - طلب من والده أن يترك المدرسة وأن ينصرف لتحصيل الدراسة بنفسه فوافق والده خاصة بعد أن انتقل لدمياط للعمل كوكيل للمحافظة بها، وهنا انقطعت صلة وجدي بالدراسة النظامية مفضلا القراءة والاطلاع بعد أن قطع شوطا لا بأس به في دراسة اللغة الفرنسية.

وفي دمياط تعرض وجدي لحادث غير مسار حياته وهو حادث الشك في العقيدة والذي خرج منه بسلام زاده وثوقا في العقيدة بعد البحث والاطلاع، وتعلم منه دقة البحث والاستقلال في الفكر. وكان لهذا الحادث أكبر الأثر في فكره حيث بدأ بعده في إصدار المؤلف تلو الآخر مبتدئا بكتاب ألفه وهو لم يتعد السادسة عشرة وأسماه "الفلسفة الحقة في بدائع الأكوان" قدمه لكل من يمر بمثل تجربته التي تعرض لها مستدلا من القرآن والسنة وبأقوال علماء الطبيعة والكيمياء على وجود الله وعجائب صنعه. وقد راج الكتاب ونفدت نسخه في وقت قريب.

واصل بعدها وجدي نتاجه الفكري مرتئيا أن الغرب يروج لحملات الهجوم والتشويه على الإسلام فحاول مخاطبة الغرب وتوضيح ما وقعوا فيه من أخطاء خاصة بحقيقة الإسلام فكتب بالفرنسية كتاب "الإسلام والمدنية".

ولم يطل مقام وجدي بدمياط؛ إذ ما لبث أن انتقل إلى السويس بعد أن انتقل والده لوظيفة وكيل المحافظة بها وأقام بها ست سنوات عاد بعدها للقاهرة.

في ميدان الصحافة

لم يتدرج وجدي في المناصب بل كان صاحب فكرة ونهم للمعرفة، لا يكاد ينتهي من كتاب حتى يشرع في آخر، معتقدا أن الكاتب ينبغي عليه أن يسعى لإثبات أن الإسلام صالح لقيادة الإنسانية؛ لذا فقد اتجه للصحافة، وكانت جرائد اللواء والأهرام والمؤيد ترحب بمقالاته الأدبية وبحوثه العلمية، إلا أنه بعد فترة رأى أن هذه الجرائد أحيانا ما ترفض نشر هذه الدراسات العلمية المتخصصة، فاتجه فكره لإصدار مجلة علمية أسماها "الحياة" وصدر أول عدد منها غرة صفر 1317هـ / 9 من يونيو 1899م وكان غرضه من إصدارها تثبيت أصول الدين في عقول أبنائه بنتائج العلم العصري وإقامة الأدلة العمرانية والفلسفية على أن هذا الدين هو منتهى ما يصل إليه الإنسان من حقيقة الدين وما تدفعه إليه الفطرة.

إلا أنه - نتيجة لظروف مالية - لم يصدر سوى ثمانية أعداد من المجلة ثم توقفت.

وخاض وجدي تجربة الصحافة الخاصة مرة أخرى بإصداره "الدستور" في 11 شوال 1325هـ/ 16 من نوفمبر 1907م، وكان يحرر صفحات الأدب والفكر والاجتماع بالإضافة لكتابته بحوثا خاصة بالفكر الإسلامي.

ولم يتخل وجدي عن المنهج العلمي الدقيق في مقالاته؛ لذا كان يصدر أبحاثه في حلقات، كما كان يجهر بالنقد للأحزاب ولم يستثن الحزب الوطني الذي ينتمي إليه من النقد كلما حاد في مواقفه عن أهدافه، ما جعل الوطنيين يضربون عن شراء الدستور ويحاربون توزيعها، فاضطر لإيقاف إصدارها ورفض كل محاولات المعونات المغرضة التي انهالت عليه لتمويل الجريدة مقابل أن يتكلم بلسان من لا يرتاح لهم، وكان من بين العروض التي تلقاها عرض من جماعة تركيا الفتاة ليكون لسانا عربيا لحركتهم شريطة أن يرفع من صدر الصحيفة كلمة (لسان حال الجامعة الإسلامية) فرفض هذه المعونة مفضلا إغلاق الصحيفة.

كما ظهر نبوغه الأدبي في تحرير صحيفة "الوجديات" التي اعتمد فيها أسلوب المقامة في أغراض فلسفية، وهي عبارة عن مقالات خيالية لتصوير مثل عليا للحياة الفاضلة من منظور اجتماعي ينظر في أدواء الأمم ويعالجها. وتعد هذه الوجديات طليعة القصة الفلسفية.

تطوير مجلة الأزهر

وعلى الرغم من غربته عن الأزهر فإن الإمام المراغي شيخ الأزهر آنذاك عهد إليه برئاسة تحرير مجلة الأزهر لما لمسه فيه من غزارة العلم والتعمق في فهم الدين، وكان ذلك عام 1352هـ/1933م وعمره 55 عاما، وكانت المجلة حينها تسمى "نور الإسلام" ثم تغير اسمها إلى "الأزهر" بعد عام ونصف.

وقد أبدى وجدي نشاطا ملحوظا فتعددت أبواب المجلة وكان يقوم بتحرير أربع مقالات في العدد الواحد بنفسه، وفي عهده انتقلت مجلة الأزهر نقلة هائلة فأخذت تزاحم المقتطف والهلال والرسالة لدى كبار المثقفين الذين كانوا يعتبرونها فيما مضى خاصة بطائفة المعممين، فاختصها أساتذة الجامعات بدراساتهم المنهجية مع لفيف من رجال القضاء والطب والتربية والاجتماع.

ولكنها مع ذلك لم تسلم من نقد الفئة التي لا تعرف الانفتاح العلمي، فكان وجدي يرحب بنشر هذه الانتقادات في المجلة ويقوم بالرد عليها ردا علميا.

وظهرت بعض الملامح الإنسانية لدى وجدي إبان فترة رئاسته لتحرير الأزهر، فقد كان يقوم بتشجيع الطلاب الناشئين ونشر قصصهم وأشعارهم كما كان يقف على الجديد من الكتب ويعرض له - مهما كان كاتبها مغمورا - فيقدمه للقراء وكأنه من كبار الكتاب. وظل وجدي يؤدي مهمته في "الأزهر" حتى قبل وفاته بعامين.

في مواجهة المادية

قضى وجدي قرابة نصف عمره منافحا للمادية والماديين فكان يسارع بشراء ما يصدر باللغة الفرنسية من الكتب التي تروج للنظرية الداروينية ليقوم بتفنيدها والرد عليها، فكتب "على أطلال المذهب المادي" في أربعة أجزاء محاولا هدم كل ما قاله "المطورون" كاشفا حقيقة الصلة بين العلم والدين وموضحا المرامي الباعثة على نهوض البحوث الروحية في وجوه الشكوك المتلاحقة وباذلا جهده في إثبات العالم الروحي ليس فقط ليعتقد الناس ببقاء الروح بل ليدعوهم لصلاح أمرهم في الدنيا.

وتميز أسلوبه بالاستشهاد بكتب كبار علماء الغرب الذين قطعوا شوطا لا بأس به في هذا المجال، لذا يشهد له بالسبق في طرق هذا المجال في الوقت الذي كانت الجامعات الإسلامية تعد الحديث في الروحانيات من قبيل الخرافة؛ ما جعل البعض ينكر عليه هذا الاتجاه.

دائرة معارف القرن العشرين

على الرغم من تعدد مؤلفات محمد فريد وجدي وإنتاجه الفكري في عدة مجالات فإن أعظم إنجاز قدمه للفكر قد تمثل في تأليفه دائرة معارف القرن العشرين.

فقد كان لإجادته الفرنسية واطلاعه على معارف وعلوم العصر من دوائر المعارف العالمية مادة كبرى لتحصيله المعرفي، فكتب "كنز العلوم واللغة" عام 1323هـ/ 1905م والذي كان نواة لمصنفه الضخم فيما بعد، ثم خرجت دائرة المعارف في عشر مجلدات وتحوي تسعة آلاف صفحة قضى في كتابتها ما بين عامي 1328/1336هـ - 1910 /1918م، وهي دائرة معارف عامة تحتوي على فصيح اللغة وخلاصات العلوم العقلية والنقلية والطبيعية والتاريخية والعمرانية إضافة لتراجم مشاهير العلماء وكثير من الفوائد الطبية والعلاجية والوسائل الحيوية التي يحتاج إليها الإنسان في سائر أحواله المعيشية.

وقد انفرد وحده بتأليف هذه الموسوعة التي لا يستطيع أن يقوم بها العشرات بمثل هذه الدقة، ودفعه لذلك أن وجد الميدان خاليا فاقتحمه بمفرده، وتلقف الجمهور الموسوعة بإقبال نادر حيث نفدت طبعتها الأولى سريعا وأعيدت الطبعة الثانية.

ولم يكن وجدي جامعا للمعارف فحسب بل كان يقدم رأيه الخاص في كثير من المسائل، فهو ناقد وموجه وشارح، وبرغم ما بذله وجدي من جهود جبارة في إنجاز هذه الموسوعة فقد صمت ذوو الأقلام عن الإشارة لهذا الجهد الحافل.

تفسير القرآن

تعد محاولة تفسير القرآن من بين أبرز إنجازات فريد وجدي حيث أراد من خلاله أن يعطي الألفاظ العربية حقها من البيان مع بيان أسباب النزول وجعله في شكل المصاحف العادية، فاستكتبه باليد على ورق نباتي وطبعه تحت اسم "صفوة العرفان في تفسير القرآن"، وجعل تفسير كل صفحة في ذيلها ليسهل الرجوع إلى معنى أي لفظ. وهذا الأسلوب الذي ابتكره وجدي صار سنة لكتب التفسير التي طبعت من بعد كالجلالين والبيضاوي وما ألفه المحدثون من بعده.

ولم تقتصر عناية وجدي بالتفسير على المصحف المفسر بل كتب مجموعة من المقالات التفسيرية ألحقها بمقدمة تفسيره، كما اهتم بتفسير الآيات التي استشهد بها في جميع مؤلفاته وذلك لاستناده عليها في مناقشة قضايا الإسلام المختلفة.

كما أولى وجدي قضية المرأة في الإسلام عناية خاصة فكتب "المرأة المسلمة" ردا على كتاب "المرأة الجديدة" لقاسم أمين، مستخدما أسلوب النقد الموضوعي. وقد بدأ وجدي برفض خروج المرأة من البيت في هذا الكتاب لكن فكرته هذه تطورت بعد خمسة وأربعين عاما في بعض مقالاته منتهيا إلى إباحة إعطاء المرأة حق التصويت في الانتخابات وعضوية المجالس النيابية والخروج للعمل مستمدا آراءه من القرآن والسنة والتاريخ الإسلامي.

كما اهتم بكتابة السيرة النبوية وتراجم مشاهير الفكر والأدب، وتميز بالنقد الفني والأدبي فانتقد كتاب "الشعر الجاهلي" لطه حسين.

ويذكر لوجدي أنه تحمل النصيب الأكبر في الدفاع عن الدعوة إلى ترجمة معاني القرآن مع الشيخ مصطفى المراغي، كما يذكر له أيضا استبساله في رفض البدع المنكرة التي ألحقت بالطرق الصوفية.

وكما عاش فريد وجدي في صمت توفي أيضا في صمت بالقاهرة فى جمادى الآخرة 1373هـ / فبراير 1954م، عن عمر يناهز ستة وسبعين عاما قضاها في إثراء الفكر الإسلامي بمؤلفاته الموسوعية التي ما زالت تجذب الباحثين والطلاب لتقديم أطروحاتهم الجامعية عنها.

المراجع

1. صباح إبراهيم بيومي سليمان. محمد فريد وجدي مفكرا إسلاميا، رسالة ماجستير، قسم اللغة العربية بآداب الإسكندرية، 2000م.

2. محمد طه الحاجري. محمد فريد وجدي حياته وآثاره، محاضرات ألقيت على طلبة معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة، 1970م.

3. محمد رجب البيومي. محمد فريد وجدي الكاتب الإسلامي والمفكر الموسوعي، دمشق: دار القلم، سلسلة أعلام المسلمين، 2003م.

4. عباس محمود العقاد. رجال عرفتهم، القاهرة: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع.

5. خير الدين الزركلي. الأعلام، بيروت، دار العلم للملايين، 1406هـ/ 1986م، الجزء السابع.

6. عمر رضا كحالة. معجم المؤلفين، بيروت، دار إحياء التراث العربى، بدون تاريخ، الجزء الحادي عشر.

7. الصيد أبو ديب. الكاتب الإسلامي الكبير محمد فريد وجدي (1878- 1954م) وآثاره الفكرية، المدنية والإسلام نموذجا، مجلة كلية الدعوة الإسلامية، العدد 21 ، 2004م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق