باتريشيا كرون، الدنمركية المولد البريطانية النشأة، تمثل نموذجا متشددا ينتمي للمدرسة الاستشراقية المتعصبة في العصر الحديث، فهي تتسم بالتشدد والتعصب واغتصاب الحقيقة وتلك أكبر ممثل للأخطاء المنهجية، فتعمد إلى اجتزاء النصوص، واللعب بالألفاظ، بل تغيير الحروف، رغم معرفتها أو ادعائها المعرفة الكاملة للغة العربية.
هذه الشخصية كرست جهدها وبحثها للقدح في الإسلام والنيل من ثوابته والتشكيك في مصادره بأسلوب مغلف بقالب البحث العلمي المحايد، ولكنها فشلت في الحياد تماما ولم تستطع التخلي عن نبرات العداء والكراهية التي تقطر من كتاباتها.
ولدت باتريشيا كرون في الدانمارك، وفيها أنهت تعليمها الأساسي، ثم انتقلت إلى بريطانيا، وأكملت دراستها الجامعية والعليا في جامعة لندن، وحصلت منها على الدكتوراه من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية عام 1974.
عملت في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن من عام 1974 إلى 1977، وبعدها عملت على مدى عشرين عاما في جامعة كمبريدج البريطانية حتى 1997 حيث انتقلت بعدها للعمل في معهد الدراسات العليا المتقدمة في جامعة برنستون الأمريكية.
لها أكثر من عشرة كتب منشورة في التاريخ والحضارة الإسلامية واشتركت في إصدار سلسلة دراسات عن: القانون الإسلامي والدراسات الاجتماعية وهي عضو في مجلس إدارة خمس دوريات تاريخية من بينها موسوعة الفكر السياسي، وهي عضو في الجمعية الفلسفية الأمريكية، وأستاذ فخري في كلية اللاهوت في جامعة آرهوس.
وهي تجيد اللغة العربية إجادة تامة إلى جانب العبرية واللاتينية واليونانية والفرنسية والألمانية، وقد منحت مؤخرا شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة كوبنهاجن، ولها العديد من المحاضرات والدورات التدريبية حول الإسلام وتاريخه.
مكة.. على البحر الميت !
يعد كتاب "تجارة مكة وظهور الإسلام" من أشهر مؤلفات كرون، صدر عن جامعة أكسفورد وانتشر بين جامعات بريطانيا ويكاد يكون كتابا رئيسيا في أيدي طلبة أقسام التاريخ في الغرب.
احتوى الكتاب على أفكار وآراء بدت بعيدة تماما عن الوقائع التاريخية والأثرية الموثقة والمستقرة إضافة لازدرائها لبعض مفاهيم الإسلام وتوصلت فيه باتريشيا لعدد من النتائج الخطيرة من أهمها:
أولا: رفض ما هو ثابت تاريخيا وجغرافيا حيث ادعت أن مكة لا تقع في مكانها المعروف والمستقر بل تحركها من مكانها على الخريطة؛ فمكة حسب باتريشيا تقع على البحر الميت.
ثانيا: التشكيك في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حيث ادعت أن دعوته لم تظهر في مكة بل في شمال الحجاز، وأن قريشا ارتبطت بشمال الحجاز لا مكة كما هو معروف وثابت، وبذلك فهي لا تهدم تجارة مكة العالمية فقط بل تحاول هدم أساس من أسس الدعوة الإسلامية وهو انطلاقها من مكة.
ثالثا: التشكيك في المصادر الإسلامية حيث تعمدت إغفال المصادر الأساسية التي تناقض آراءها، وطرحت نتائج بلا ذكر لمصادرها، واتهمت المستشرقين الذين خالفوها الرأي بأخذهم من المصادر الإسلامية على علاتها.
رابعا: نفت اتجاه الحجيج قبل الإسلام إلى مكة والبيت الحرام وادعت أنهم كانوا يتجهون للأسواق القريبة منها وهي عكاظ وذو المجاز ومجنة، وقامت بشرح مناسك الحج الجاهلي والإسلامي متعمدة إهمال ذكر الطواف والتلبية.
خامسا: رفضت الاعتراف بدور قريش في تجارة الشرق العالمية وأصرت على تهميش دورها ووصفته بالدور المحلي، رافضة لتفسير المفسرين لسورة قريش التي تؤكد الاتجاه الدولي في تجارة قريش قبل الإسلام.
سادسا: استخدمت أسلوب السخرية والتهكم لإقناع القارئ بفكرتها عن العرب بوصفهم بالبرابرة، والمسلمين بأنهم وكر لصوص.
سابعا: حاولت التشكيك في تاريخ معركة بدر الكبرى الثابت وقوعها في السنة الثانية للهجرة بخلط الحقائق وتكذيب المصادر الإسلامية عن تاريخ هذه المعركة.
وخلال صفحات الكتاب استخدمت أساليب مراوغة وتحايل لتخلط على القارئ المعاني وتطمس الحقائق، وقامت بتغطية مغالطاتها بثوب من البحث العلمي التاريخي.
وقد أحسنت صنعا الدكتورة آمال الروبي بترجمة الكتاب للعربية وتفنيد مزاعم كرون والرد عليها بأسلوب علمي ونشر الكتاب في إطار المشروع القومي للترجمة الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة المصري.
هاجريون لا مهاجرون !
أما كتابها التالي حسب الشهرة فهو كتاب الهاجرية أو الهاجريون والذي اشتركت في تأليفه مع البروفيسور مايكل كوك (أستاذ التاريخ الإسلامي وأحد تلاميذ البروفيسور برنارد لويس) وحاول هذا الكتاب إعادة كتابة التاريخ الإسلامي بالاعتماد على المصادر غير الإسلامية ورفض المصادر الإسلامية دون أي تبرير. وفي هذا الكتاب توصلا إلى أن المهاجرين ينتسبون إلى السيدة هاجر وليس إلى الهجرة من مكة إلى المدنية.
وقد صرح مؤلفا الكتاب أن أي مسلم لن يقبل النتائج التي توصلا إليها ليس لأن هذه النتائج تقلل من الدور التاريخي للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لأنها تقدمه في دور يختلف كلياً عما يعرفه المسلمون تقليدياً. كما ذكرا أن كتابهما كتب من قبل الملحدين للملحدين، ومما يثير السخرية أنهما اعترفا أيضا أن المسلم الذي في قلبه مثقال حبة من خردل من الإسلام لن يجد صعوبة في رفض الكتاب كليا!.
بل يذكر علي خان أستاذ القانون في جامعة واشبورن بكانساس أن مؤلفي الكتاب قد اعترفا له صراحة في بعض المقابلات الشخصية أن هذا الكتاب لم يكن سوى فرضية لم تثبت صحتها وفي حين تبرأ مايكل كوك مما جاء في الكتاب وذكر أن ما توصلا إليه كان زعما خاطئا وحان الوقت لإعادة التفكير فيه، فإن كرون كانت أكثر صراحة في رفض الأطروحات التي قدمتها فيه فقالت إن الكتاب صدر في عام 1977 وأن حماسة الشباب دفعتهما لكتابته، وأن فرضياته لم تكن صحيحة ولا جيدة.
محمد والقرآن.. في دائرة الاتهام !
في مقال آخر بعنوان "محمد الذي لا نعرفه" بدأت تسوق الحجج والبراهين التي تحمل في طياتها الكثير من المراوغات والمغالطات لتصل في النهاية لنفي نبوة الرسول، فهي تنفي وجود مصادر عن هذا النبي باستثناء المصادر الإسلامية (التي لا تعتد بها)، حتى القرآن الكريم لم يذكر الكثير عن النبي ولا عن حياته كما ذكر تفصيلا عن أنبياء آخرين سبقوه.
كما تدعي أن القرآن مليء بالمغالطات فهو يصف مشركي مكة بأنهم مزارعون يزرعون القمح والعنب والزيتون بينما مكة كانت قفرا لا تنمو فيها زراعات باستثناء النخيل.
يتضح هنا بالطبع مدى جهلها بالعربية رغم إجادتها لها فهي لا تفهم المعاني ولا تكلف نفسها عناء قراءة تفسير الآيات في كتب المفسرين فهي تشير إلى الآية الأخيرة من سورة الفتح "وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ" ولا ندري من أين أتى تفسيرها للآية لتؤكد أن القرآن وصف مشركي مكة بالمزارعين؟ ، والآية تتناول بشارة التوراة والإنجيل بمحمد وأصحابه وتشبيههم في الإنجيل بالزرع الذي بدأ ضعيفا ثم اشتد وقوي عوده وكما ذكر ابن كثير في تفسيره (أَيْ فَكَذَلِكَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آزَرُوهُ وَأَيَّدُوهُ وَنَصَرُوهُ فَهُمْ مَعَهُ كَالشَّطْءِ مَعَ الزَّرْع)، فما علاقة الآية بوصف المشركين بأنهم مزارعون؟!
وهي تشكك في قبول القرآن كمصدر تاريخي باعتبار أنه لم يدون إلا بعد وفاة النبي، كما أن النسخ الأولى منه كانت غير منقوطة أو مشكَّلة لتستنتج أن الكلمات المكتوبة ربما تحمل معاني أخرى غير التي وصلتنا بعد إتمام تنقيط الحروف وتشكيل الكلمات، وهي بالطبع لا تعترف بتلقي الأمة للقرآن بالمشافهة وتواتره بالإجماع، وفي نفس الوقت ترى أن ألفاظ القرآن مبهمة وغامضة وتستعصي حتى على المفسرين وهي تقول ذلك دون أن تحدد من هؤلاء المفسرين الذين استعصى عليهم فهم القرآن أو ما هي المصادر التي اعتمدت عليها في تأكيد هذه الحقيقة؟.
تمضي باتريشيا قدما في التشكيك حول وجود النبي من خلال حقيقة أن صورته لم تنقش على عملات في ذلك الزمن، وأي دارس لتاريخ النقود في الإسلام يمكنه أن يرد عليها ببساطة بل ويكذب ادعاءاتها التي سبق وذكرتها بخصوص مكة وتجارتها قبل الإسلام.
فقد عرفت الجزيرة العربية قبل الإسلام العديد من أنواع النقود وتبادلت العملات المتنوعة خلال رحلات قريش للشام واليمن فكانت تحصل على النقود الحميرية من اليمن والنقود البيزنطية من الشام وكانت ترد إليها أيضا النقود الساسانية من العراق.
وحين جاء الإسلام أقر النبي التعامل بهذه النقود ولم يقم بسك عملات جديدة وسار أبو بكر الصديق على نهجه حتى جاء عمر بن الخطاب فقام بعدة إصلاحات نقدية كتوحيد أوزان العملات وإضافة كلمات عربية ، أما أول من نقش اسمه على السكة فكان معاوية وكان ينقشها باللغة الفهلوية ولم يتم تعريب وسك النقود على الطراز الإسلامي إلا في عهد عبد الملك بن مروان.
ومن تتبع هذه الحقائق الثابتة تاريخيا كيف يسوغ القول بالتشكيك في وجود النبي لعدم نقش اسمه على العملة الإسلامية، وهي التي لم تسك إلا في العقد السابع بعد الهجرة؟، أي لم توجد نقود إسلامية في عهد النبي حتى ينقش عليها اسمه.
وتستمر المستشرقة كرون في المغالطات لتؤكد على تناقض القرآن وخطأ المؤرخين في تحديد مكان مكة فها هو القرآن يخبر المشركين في سورة الصافات عن قوم لوط "وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ" ومن المعروف أن قوم لوط كانوا بمنطقة البحر الميت فكيف يمكن لساكني مكة أن يمروا على هذه الديار في الصباح والمساء إلا إذا كانت مكة نفسها تقع على البحر الميت؟
وفي إجماع المفسرين على أن هذا المرور الذي ذكرته الآيات ليس مرورا يوميا بل في أسفارهم نهارا وليلا وقال قَتَادَة في تفسير الآية "نَعَمْ وَاَللَّه صَبَاحًا وَمَسَاء يَطَئُونَهَا وَطْئًا , مَنْ أَخَذَ مِنْ الْمَدِينَة إِلَى الشَّام , أَخَذَ عَلَى سَدُوم قَرْيَة قَوْم لُوط" ، وفي هذا التفسير دلالة ليس فقط على موضع مكة بل وتأكيد على عالمية تجارتها التي تنفيها كرون.
نشأة الإسلام
اشتركت كرون مع جوناثان بيركي في تأليف كتاب بعنوان "تشكيل الإسلام" قاما فيه بالبحث في تاريخ الشرق الأدنى خلال الأعوام 600 :1800م بدراسة المشهد الديني قبل الإسلام ثم في صدر الإسلام مرورا بالدولة الأموية والعباسية ليؤكدا على أن الإسلام لم يظهر ويتشكل مرة واحدة بل كان تشكيله جزءا من عملية تدريجية طويلة تطورت فيها التشريعات الدينية، وأن أهم سمات الإسلام اكتسبها في فترة العصور الوسطى.
وبنفس الطريقة اشتركت مع تشيس روبنسون في كتاب "التأريخ الإسلامي" ليبحثا في كيف فهم المسلمين ماضيهم وكيف كانوا يكتبون التاريخ وأهم مشاكل الكتابة التاريخية العربية الإسلامية وتوظيف المسلمين للتاريخ سياسيا واجتماعيا منذ القرن الثامن حتى بداية القرن السادس عشر الميلادي، ولا يخفى ما في هذين الكتابين من إشارات خفية لزيف التاريخ الإسلامي ومصادره باعتبار أنه من اختراع المسلمين أنفسهم.
ففي مقال لها على موقع " أوبن ديموكراسي " بعنوان "الجهاد: الفكرة والتاريخ" قدمت دراسة من أربعة أجزاء تناولت فيها مفهوم الجهاد الإسلامي من حيث نشأته، معتبرة أن نشأة الجهاد في الإسلام ارتبطت به منذ البداية من خلال نوعين من الحروب: ما أسمته بالحروب التبشيرية والتي تعني اتباع الدولة الإسلامية لسياسة العنف الحربي لنشر الدين الإسلامي في أرجاء العالم حيث انتشرت الجيوش لفرض الإسلام في كل مكان.
والنوع الثاني ما كان موجها للكفار الذين رفضوا الإسلام فهؤلاء يُقابلون بالعنف والقتل فيما عدا أهل الذمة في حالة قبولهم بدفع الجزية، أما لو رفضوا فإنهم يقابلون بالقتل أيضا.
وتسوق كرون مقارنة غريبة بين التبشير الإسلامي كما أسمته وبين التبشير المسيحي؛ إذ إن المبشرين المسيحيين انطلقوا مع الجيوش الغربية لغزو الدول الإسلامية كمبشرين سلميين ومدنيين لا كجنود، بينما الجنود المسلمون (الفاتحون) هم في الوقت نفسه مبشرون (دعاة).
هذا هو الفرق بين الإسلام والمسيحية، حيث الخلط بين الجهاد والدعوة في الإسلام لتصل إلى الادعاء بأن الإسلام هو دين عنف لا سلم، وينشر دعوته بالسيف لأن دعاته هم جنوده، كما تدعي أن الحروب الصليبية تتباين عن حروب الإسلام في أن الأولى لم تكن حروبا توسعية أو لتنصير المسلمين بل كانت فقط لاستعادة الأراضي المقدسة.
وتحاول كرون دائما إقناع القارئ أن تشريع الجهاد في الإسلام مر بمرحلتين متباينتين: الأولى فترة الضعف في مكة حيث لم يشرع الجهاد، والثانية فترة القوة بالمدينة؛ لذا تطرح سؤالا متكررا على ألسنة المستشرقين: هل الإسلام انتشر بحد السيف؟ لتجيب بلا تردد وبقوة: نعم. فالإسلام يريد جر الناس للجنة بالسلاسل على حد قولها! ثم يزعم أنه دين عالمي.
وتأتي بأقوال منسوبة لمجهولين دون أن تفصح عن مصادرها لتؤكد أن كثيرا من الفلاسفة شككوا في صحة الإسلام حيث قالوا إن كان الإسلام دينا بالفعل ونبيه المزعوم نبيا بحق لم يكن لينشر هذا الدين بالسيف؛ لأن الأنبياء لا يبعثون بالسيف بل بالرحمة.
تمضي باتريشيا في ادعاءاتها لتصل إلى أن الزمان دار دورته وعاد المسلمون اليوم سيرتهم الأولى من الضعف بعد فقدانهم السيادة الإسلامية على كثير من الأراضي مثل الأندلس وهنا ينقسم الفقهاء إلى فريقين: فريق أسمته الأصوليين أو المتشددين الذين يرون الجهاد ضرورة من أجل استعادة الأراضي السليبة وحتى يدخل الجميع في الإسلام، وفريق يرى أن يعود المسلمون كما كانوا في مكة فيستسلمون لحكم الكفار وإن كان ولا بد من المقاومة فليهاجروا إلى مكان آخر حتى يصبحوا في موضع قوة مرة أخرى فيعودوا لنشر الإسلام.
هذه الادعاءات جميعها من قبل كرون لا أساس لها من الصحة وتفتقر للعلمية فهي تارة تعتمد على مصادر مجهولة وأقوال منسوبة لمجهولين لتأكيد ادعاءاتها، وتارة تجتزئ النصوص القرآنية لتتوافق مع آرائها وتصوغ الحجج والدلائل من مصادر غير إسلامية لتعضيد فكرتها وتتجاهل النصوص والمصادر التي تتناقض مع رؤيتها.
فتشريع الجهاد جاء متدرجا على نمط كثير من الأحكام كتحريم الخمر والربا وغيرها فكانت سنة التدرج في الأحكام من سمات التشريع الإسلامي وليس ارتباطا بضعف المسلمين أو قوتهم، وهناك الكثير من المستشرقين المنصفين الذين فندوا مقولة انتشار الإسلام بالسيف وردوا على ادعاءات مماثلة ليس هذا محلها.
لا إكراه في الدين
على نفس النهج ألقت كرون محاضرة لها في جامعة فرايبورج عام 2007 حول الإكراه الديني في الإسلام ومن ثم تحولت المحاضرة إلى مقال نشر على موقع أوبن ديموكراسي في نوفمبر 2009 يحمل عنوان "لا إكراه في الدين" حاولت فيه تناول مفهوم الحرية الدينية والإكراه الديني في الإسلام من منظور تاريخي اعتمدت فيه على جهل القارئ الغربي بحقائق الإسلام، حيث ساقت العديد من البراهين التي تدلل على غياب الحرية الدينية في الإسلام سواء على مستوى النص أو الممارسة، وتنوعت هذه البراهين بين نصوص قرآنية وأدلة عقلية.
فساقت الآيات التي تخدم فكرتها حول الأمر بقتال المشركين، كما تؤكد على أن العلمانية هي الشرط الضروري لقيام تعددية دينية، وفي ظل غياب العلمانية في الإسلام تنعدم الحرية الدينية ويظل الإكراه على دخول الإسلام فقط.
وهي تعتمد في هذا المقال على نفس الأسلوب من اجتزاء للنصوص وإخراجها من سياقها، وسوق تفسيرات للآيات بلا ذكر أسماء المفسرين أو كتب التفسير التي استمدت منها هذه التفاسير، وفي نفس الوقت تتجاهل آيات كثيرة أخرى في القرآن تؤكد حقيقة الحرية الدينية وقبول التعددية الدينية في الدولة الإسلامية على مستوى النص، كما تتجاهل الحقائق التاريخية التي تؤكد وجود التعددية الدينية وتعايش غير المسلمين في الدولة الإسلامية على مستوى الممارسة.
الخلافة والحكم
قدمت كرون للمكتبة الغربية عدة كتب حول الحكم والخلافة والدولة في الإسلام ففي كتاب "الفكر السياسي الإسلامي في العصور الوسطى" تحاول إلقاء الضوء على مفهوم الخلافة والحكم والدولة والسياسة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرورا بعهد الخلفاء الراشدين ثم بني أمية ثم العباسيين، وتصف في كتابها أحداث الفتنة بعد مقتل عثمان على أنها حرب أهلية وتشبه استشهاد عثمان بإعدام تشارلز الأول أثناء الحرب الأهلية البريطانية أو لويس السادس عشر أثناء الثورة الفرنسية.
فتريد تصوير الأمر على أنه حرب أهلية دارت رحاها بين المسلمين وحاول فيها الإصلاحيون التخلص من رموز الحكم السالف، إلا أن الاختلاف بين عثمان وبين هذين الملكين أنه لم يخضع لمحاكمة رسمية كما أن قاتليه لم يشرعوا في إقامة نظام سياسي مختلف بل على العكس قاموا باختيار الخليفة الرابع من أقارب النبي وتصوير علي بن أبي طالب على أنه مناوئ لسلفه سعى لانتزاع السلطة منه ليرد الخلافة لبيت النبي.
وفي كتابها "خليفة الله" تؤصل للتفرقة بين الفكر السني والشيعي حول الخلافة من حيث إن الخليفة قد ورث السلطة السياسية والدينية عن رسول الله في الفكر الشيعي، بينما في الفكر السني للخليفة سلطة سياسية فقط ولم تورث النبوة، وتقوم كرون في هذا الكتاب بالخلط بين مصطلحي "خليفة الله" وهو عنوان الكتاب و"خليفة رسول الله" وهو ما يدور حوله موضوع الكتاب.
كما ألفت كتابيها "من القبائل العربية إلى الإمبراطورية الإسلامية: الجيش والدولة والمجتمع في الشرق الأدنى"، "العبيد على الخيول: تطور نظام الحكم الإسلامي"، وفي هذين الكتابين تشرح التطور الذي مر به العرب الذين أسلموا مع نبيهم من كونهم عبيدا وقبائل متفرقة إلى أن أصبحوا إمبراطورية كبيرة تغزو العالم على الخيول وبقوة السيف، والغريب أن كرون تعتبر هذين الكتابين مناقضين لكتابها "الهاجريون" لأن الأخير يرفض المذهب الإسلامي بينما الكتابان الآخران يتأسسان عليه.
ففي كتابها "العبيد فوق الخيول" قدمت دراسة عن ظاهرة تراجع الجند، ولماذا كان الحكام يختارون الجنود من الأرقاء والعبيد، وتوصلت إلى أن الدولة الإسلامية لم تتضح معالمها الكاملة إلا في خلافة عبد الملك بن مروان، وربما كان هناك بعض ملامح شكلية للدولة في زمن معاوية بن أبي سفيان، وما سبق على هذه الفترة لا تتوافر حوله مصادر كافية أو وثائق أساسية.
وهو ما يقود كرون لاستنتاجها أن تاريخ نشأة الإسلام لا يعتمد على وثائق ومصادر مؤكدة، بل مجرد مصادر أدبية متناقضة سواء برديات أو نقوش على النقود أو روايات قرآنية (والتي سبق القول إنها لا تعترف بها كمصدر موثوق فيه بل هي مصادر أدبية ثانوية).
كتاب آخر يحمل عنوان "القانون الروماني والإسلامي" حاولت فيه مراجعة أفكار جوزيف شاخت حول نشأة الشريعة الإسلامية ومصادرها لتخلص من دراستها أن القوانين الرومانية والتشريعات اليهودية التلمودية تمثل المصادر الأولى للشريعة الإسلامية، وخطورة هذا الاستنتاج تكمن في تأكيدها على أن نشأة الفقه في البصرة والكوفة والحجاز والشام لم تبدأ إلا في القرن الثاني الهجري، وبالتالي فإن النص القرآني أو النبوي لم ينشأ إلا في هذا القرن، وبالتالي فكل نصوص القرآن والسنة النبوية لم تدون إلا بعد وفاة النبي بزمان مما ينفي قدسيتها ويجعلها من وضع المتأخرين من علماء الكلام.
أخطاء منهجية
وعلى الرغم من إجادة كرون للغة العربية فإنها عندما تنقل الكلمات العربية إلى الحروف اللاتينية تنقلها بطريقة متقطعة بحيث تتداخل حروف الكلمات مما يحدث تغييرا في المعنى، وكثيرا ما تخلط بين حرفي B,H مما يحدث تغيرا في المبنى والمعنى لمن لا يجيد العربية، كما أنها كثيرا ما تخطئ في الإشارة إلى السور والآيات القرآنية، وهي دائمة التشكيك في المصادر الإسلامية معتبرة إياها من المصادر الأدبية الثانوية.
وكثيرا ما تحاول كرون تشتيت القارئ بالإتيان بروايات متعددة حول نفس الواقعة لتوهم القارئ أن ثمة تعارضا بين الروايات، ولكنها تتوقف عند هذا الحد ولا تمضي للخطوة التالية التي يجب على الباحث المنصف أن يتبعها ألا وهي دحض الروايات وبيان الصحيح منها والخاطئ، ولكن توقف كرون يشير إلى هدفها المتمثل في تلبيس الحقائق وتضليل القارئ دون رغبة حقيقية في كشف مدى صحة الروايات من عدمه لتصل باستنتاجاتها لرفض المصادر كلها طالما بها تناقض.
ومن الأخطاء المنهجية التي تنتشر في كتابات كرون أنها تبدأ غالب كتبها بفرضية لا تستند على أي أساس في مقدمة الكتاب إلا أنها مع صفحات الكتاب تتعامل مع هذه الفرضية على أنها حقيقة واقعة وتبني استنتاجاتها عليها على الرغم من عدم قيامها بإثبات صحة هذه الفرضية، وهي بهذا تستخف بعقول القراء الذين يعتقدون أنها ربما أثبتت افتراضاتها في مواضع أو كتابات أخرى وهي تعتمد على هذا الاعتقاد كثيرا .
ومن المعروف أن عمل المؤرخ يرتبط بتحليل الأحداث التاريخية إلا أن كرون لا تكتف بتحليل الأحداث بل تضع فرضيات تخيلية كأن تسأل ماذا لو قامت دعوة النبي في المدينة بدلا من مكة؟، ويكمن الخطأ في مثل هذه الفرضيات في أنها تقود المؤرخ لسلسلة من الافتراضات الخيالية التي لا ينبني عليها حكم.
وفي كثير من الأحيان ترفض كرون إحدى الروايات أو المصادر ثم تستشهد في موضع آخر بنفس الرواية التي سبق ونفت صحتها؛ لأن بها ما يؤيد ادعاءاتها، فعلى سبيل المثال ترفض قبول ما أسمته بالرواية التقليدية حول حياة النبي صلى الله عليه وسلم وما ذكر فيها من قيام قريش بعرض المال والملك على النبي ليكف عن دعوته، ولكنها في موضع آخر تقبلها كما هي كما لو كانت رواية صحيحة في نظرها لتستنتج أن مشركي قريش قد فهموا حقيقة ما يرنو إليه النبي من ملك وسلطة وإلا ما كانوا عرضوا عليه هذا العرض؛ لأنهم فهموا أن قبول دعوته معناها قبولهم له كحاكم لا كرجل يهتم بأمور الآخرة.
ويتضح من ذلك أن كرون بنت استنتاجها الذي توصلت إليه على استقطاع جزء من رواية سبق ونفت صحتها كليا، فلا مانع لديها من قبول الرواية التي ترفضها وتنفي صحتها طالما أن بها تأييدا لفكرتها.
وتبقى باتريشيا كرون نموذجا يمثل التيار الاستشراقي المتعصب في العصر الحديث، والتي تنتمي للمدرسة التاريخية المجاهرة بتعصبها ضد الإسلام والمعتمدة على ليِّ أعناق النصوص القرآنية واجتزائها من سياقها ورفض الاعتماد على المصادر الإسلامية، وتشويه الحقائق التاريخية بالاعتماد على مصادر غربية متحيزة لتضليل القارئ الغربي، وتشويه صورة الإسلام في إطار مغلف بثوب من البحث العلمي المحايد.
http://www.islamonline.net/ar/IOLStudies_C/1278407153881/1278406720653/IOLStudies_C