(فاسْتخف قوْمهُ فأطاعُوهُ إنهُمْ كانُوا قوْما فاسقين) (الزخرف 54)
مررت على هذه الآية مئات المرات في القرآن الكريم، وكل مرة أتعجب كيف يمكن أن يستخف طاغيةٌ قومه؟ وكيف يمكن أن يطيع قومٌ ما طاغيةً بكل أريحية؟ ولماذا شعب مصر الوحيد الذي اقترن بهذه الصفة في القرآن؟ لكن شاء الله أن يجعلني أحيا هذه اللحظات التي تتجسد فيها أمامي عملية صناعة الطغاة واستخفافهم بأقوامهم، بل ورأيت تصفيق هؤلاء القوم للطاغية وهتافهم باسمه وليس مجرد طاعته، ببساطة لأنهم قوم فاسقون!
عفوا، ليس هذا تجنيًا مني عليهم بل هو وصف القرآن الكريم لهم، (فاسْتخف قوْمهُ فأطاعُوهُ إنهُمْ كانُوا قوْما فاسقين)، فما هو الفسق؟
الفسق في اللّغة: الخروج عن الشيء أو القصد, وكذلك الخروج عن الطّاعة، وعن الدّين، وعن الاستقامة، وهو أيضا الفجور. والفسق في الأصل خروج الشّيء من الشّيء على وجه الفساد، ومنه قولهم: فسق الرّطب: إذا خرج عن قشره، وفسقت الفأرة عن جحرها إذا خرجت منه.
أما في الاصطلاح فالفسق هو: العصيان وترك أمر الله تعالى، والخروج عن طاعته، وعن طريق الحق، قال الشّوكانيّ: هو الخروج عن الطّاعة وتجاوز الحدّ بالمعصية. ويقال رجل فاسق: أي عصى وجاوز حدود الشرع، ومعنى فسق عن أمر ربه؛ أي خرج عن طاعته، وفي الموسوعة الفقهية: الفسق هو الخروج عن طاعة الله بارتكاب كبيرة من كبائر الذنوب، أو الإصرار على صغيرة؛ فمن قارف كبيرة ولو واحدة، أو أصر على صغيرة من نوع واحد، أو على صغائر مختلفة، فسق وسقطت عدالته.
من هنا يطلق الفسق على من خرج عن طاعة اللّه عزّ وجلّ، سواء كان خرج بكفر، أو خرج بعصيان، ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»، فالسباب هنا نوع من المعاصي، فكل من خرج عن طاعة الله بارتكاب المعاصي يدخل في زمرة الفاسقين.
طاعة الله وطاعة الطغاة
يتبين من ذلك أن الفسق هو نقيض طاعة الله، ومن هنا ظهر لي الرابط الذي كنت أبحث عنه بين إطاعة الطغاة وبين الفسق؛ فالذي يطيع الله لا يمكنه أبدا أن يطيع الطغاة، والطائع للطغاة لا يمكنه أبدا أن يكون طائعا لله, وهو ما لخصته الآية بالفسق، فقوله تعالى (إنهم كانوا قوما فاسقين) توضح سبب وعلة طاعة هؤلاء القوم للطاغية وقابليتهم لأن يكونوا موضع استخفافه؛ فلا تجتمع طاعة الله وطاعة الطغاة في قلب عبد مؤمن.
يقول صاحب الظلال "وما كان فرعون بقادر على أن يستخف قومه فيطيعوه، لو لم يكونوا فاسقين عن دين الله. فالمؤمن بالله لا يستخفه الطاغوت، ولا يمكن أن يطيع له أمراً، وهو يعلم أن هذا الأمر ليس من شرع الله".
أما الرابط الثاني -والله أعلم- فإن الطاغية نفسه لا يمكن إلا أن يكون ظالما فاسقا، ومن ثم فإن من يطيعه فاسق مثله، فقد ارتكن إلى ظالم، وقال تعالى (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تصاحب إلاّ مؤمناً ولا يأكل طعامك إلاّ تقيّ"، وقوله: "الرّجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"، وقوله "من أحب قوما حشر معهم".
وقد ورد النّهي عن مخاطبة الفاسق والمبتدع ونحوهما بالسيّد ونحوه من الألقاب الّتي تدلّ على تعظيمه، لأنّ في ذلك تعظيم من أهانه اللّه تعالى، بل لقد نصّ المالكيّة والشّافعيّة على أنّ الجلوس مع الفاسق إيناساً له يعدّ من صغائر الذّنوب الّتي تغفر بالحسنات..
كما اتّفق الفقهاء على عدم قبول شهادة الفاسق، لقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ)، ولقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا).
وفي الآخرة مصير الفاسق حدده الله تعالى في قوله ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾.
كيف يتم الاستخفاف؟
قال ابن الأعرابي في معنى قوله تعالى (فاستخف قومه): فاستجهل قومه فأطاعوه لخفة أحلامهم وقلة عقولهم، يقال: استخفه الفرح أي: أزعجه، واستخفه أي: حمله على الجهل، ومنه: ولا يستخفنك الذين لا يوقنون. وقيل: استفزهم بالقول فأطاعوه على التكذيب. وقيل: استخف قومه أي: وجدهم خفاف العقول. وقيل: استخف قومه وقهرهم حتى اتبعوه، يقال: استخفه خلاف استثقله، واستخف به أهانه.
من هذه المعاني التي أوردها ابن الأعرابي يمكن القول إن الاستخفاف بالقوم يشمل معنى استجهالهم أي حملهم على الجهل ودعوتهم للغواية لخفة عقولهم أو الاستهانة بهم لضعة شأنهم، فإما أنه وجدهم خفاف العقول فدعاهم إلى الغواية فأطاعوه، أو وجدهم صغيري الشأن فاستصغر شأنهم وقهرهم وأهانهم.
وسواءٌ كان الاستخفاف بهم لضعف عقولهم أو قلة شأنهم فإن النتيجة أنه دعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له!
ومن هنا جاء الارتباط بين الاستخفاف والفسق أي الخروج عن طاعة الله، يقول صاحب الظلال:
"واستخفاف الطغاة للجماهير أمر لا غرابة فيه؛ فهم يعزلون الجماهير أولا عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها، ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة، ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين!
ولا يملك الطاغية أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون على طريق، ولا يمسكون بحبل الله، ولا يزنون بميزان الإيمان. فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح".
ماذا تفعل لو كنت طاغية؟
حاولت أن أضع نفسي موضع من يرغب أن يكون طاغية يأمر قومه فيطيعوه ويستخف بهم فيسارعون لنيل رضاه فوجدت أن الطريق يحتاج لخطوات:
عزل الجماهير عن سبل المعرفة الصحيحة (إغلاق فضائيات- مصادرة صحف- قصف أقلام...)، طبعا ما عدا المملوكة أو التابعة لي.
توجيه الجماهير من خلال مفهوم (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) وذلك عبر خطة ممنهجة من الشئون المعنوية والمخابرات لتوحيد الخطاب في الصحف والفضائيات المملوكة أو التابعة بحيث لا تحيد عنها، لأتمكن من قلب الحقائق وتزييفها كما يحلو لي، ألست أنا مصدر الإلهام الأوحد؟!
شغل الناس بالتوافه من الأمور، وإبعاد الدين عن كل مظاهر الحياة وإضعاف الوازع الديني، (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) فنسيان الله يؤدي لأن ينسى البشر أنفسهم أي ينسون الغاية الحقيقة من خلقهم وهي عبادة الله وطاعته، ومن ثم ينتقلون من الطاعة إلى الفسق الذي ييسر للطاغية أن يستخف بهم ليكونوا طوع أمره، فيفعل المنكرات والكبائر فيصفقون له، ويبررون له.
نزع المعاني الإنسانية في القلوب، وشحن النفوس ضد عدو مصطنع داخلي أو خارجي لتهيئة العقول لتقبل فكرة سحقه والقضاء عليه، بحيث يصل لمرحلة التشفي والفرح كلما رأى أحد هؤلاء الأعداء مقتولا أو معتقلا أو مهانا فينشغل في هذا الشعور, فأجعله يتوحد شعوريا معي كلما بطشت بهذا العدو ويبرر لي أفعالي، فلا يتمكن من رؤية ما أفعله به هو شخصيا من خنق لحريته وحين يتنبه يكون قد فات الأوان. أبدى أحد الإخصائيين النفسيين منذ عام تخوفه من إطلاق كلمة (الخرفان) على الإخوان المسلمين وأدرك أن الأمر ليس صدفة بل ربما يكون خطة ممنهجة لتهيئة الوعي العام بأن هؤلاء بالفعل خراف وليسوا بشرا مما يسهل عليه بعد ذلك قبول ذبحهم بل ويفرح ويتشفى ويبرر قتلهم بنفس الحجج التي ظل على مدى عام كامل يسمعها من الإعلام الموجه، أليسوا خرافا والخراف تذبح؟!
تخويف الجماهير من الفوضى والإرهاب عن طريق إشاعتهما بكثرة، ثم أعدهم بإعادة الأمن والقضاء على الفوضى والإرهاب إن أطاعوني ومنحوني كل الصلاحيات اللازمة، فيرتموا تحت أقدامي ويأتوني من أول غمزة!
أستخدام سلاح التجويع, فالجماهير العريضة لا تخاف على شيء قدر خوفها على رزقها وطعامها، (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ)، فألقي في روعهم أني المتحكم في صنبور الرزق والطعام وأن بإمكاني وحدها فتحها أو إغلاقها فيهرعون إلي يقبلون التراب تحت قدمي.
التلاعب بالمصطلحات وطمس الحقائق وتزييف العلم، فلابد لي من الاستعانة بزمرة من المحللين والفقهاء والخبراء والعلماء والمفكرين وقادة الرأي فيزيفون الحقائق ويخترعون مصطلحات جديدة ويضعون معاني مخالفة لمصطلحات مستقرة، فيصبح المتدين إرهابيا، والمتحلل أخلاقيا متنورا، والبلطجي ناشطا سياسيا والداعية تاجر دين، والراقصة قدوة.....، فتستقر في وعي الجماهير هذه المعاني الجديدة وحينها أكون الوحيد القادر على إنقاذ هذه الجماهير من تجارة الدين والإرهاب ليسهل لي بعد ذلك قياد هذه الجماهير وتغيير قناعاتها، تهيئةً لقبولي قائدا ملهما وزعيما قوميا وفارسا لا يشق له غبار وصانع الأمجاد وربان السفينة ومنقذ الوطن ورجل المرحلة.....
والآن بعد أن أصبحت هذا الطاغية الذي لا يشق له غبار، لا يقلقني ولا يقض مضجعي إلا هذه الشرذمة المؤمنة التي يصعب خداعها والاستخفاف بها والتي تأبى إلا الحرية.. فماذا تفعل لو كنت مكاني؟