بقلم : أمل خيري
عندما تتطلعين إلى الورقات القليلة المتبقية من التقويم الهجري والتي تُنبئ عن عام هجري مضى وعام آخر يسارع باللحاق به حينها تدركين أنك اقتربت أكثر من موعد ملاقاة الله، فتتذكرين أن حياتنا ما هي إلا مجموعة أوراق تتساقط الواحدة تلو الأخرى حتى لا يتبقَّى منها ورقةٌ واحدةٌ.
فماذا أعددتِ لنفسِكِ في مطلع عام هجري جديد؟! هل جلستِ ساعةً مع نفسك جلسةَ صدقٍ ومصارحةٍ ومكاشفةٍ، تسألين نفسك كيف كان حالي مع الله؟ مع نفسي؟ مع أسرتي؟ مع جيراني؟ مع مجتمعي؟ كم مرة صليت الصلاة في حينها؟ كم مرة قمت الليل؟ كم مرة ختمت القرآن؟ كم سورة حفظت؟ كم كتابًا طالعت؟!
ربما لا تسعفك الذاكرة!!
قد تسألين نفسك: هل حققت أهدافي وما كنت أطمح إليه؟!
فتفاجَئين بأنك لم تضعي لنفسكِ هدفًا أو أنك ربما وضعتيه ولكن لم تستطيعي أن تحقِّقي شيئًا منه.
أتدرين لماذا؟! لأنك لم تخططي لنفسك منذ بداية العام.
ولأنه لا فائدةَ من البكاء على اللبن المسكوب اعقدي العزمَ الآن على أن تبدئي عامَكِ الجديد بطفرة في حياتك، وبنفس مشرقة مقبلة على الله؛ لتضعي لنفسك خطةً شاملةً، محدَّدةَ الأهداف والوسائل، موزعةً على الأيام والشهور، وتعلَّمي من نبيك أعظم دروس التخطيط.
جهد بشري ونصر من الله
فتأمَّلي هجرة الحبيب المصطفى.. لقد كان الله تعالى قادرًا على أن يهاجر بنبيه الكريم في لَمْح البصر بالبراق، كما حدث في ليلة الإسراء والمعراج، ومع أن النبي يوم هجرته كان أحوجَ إلى البراق؛ لأن القوم يتربَّصون به ويستعدون للفتك به إلا أن إرادة الله أن يظهر الجهد البشري خلال الهجرة، كرسالة لجميع البشر أن عناية الله ونصره لا تغني عن الأخذ بالأسباب.
ولقد بلغ الجَهد البشري برسولنا الكريم الذروةَ في التخطيط للهجرة مما نستطيع معه القول أن الرسول الحبيب- صلى الله عليه وسلم- هو رائد التخطيط المؤيد بنصر الله.
سارعي بإحضار ورقة وقلم واستعدِّي:
تحديد الأهداف
احرصي أن تكون الأهداف محددةً وقابلةً للتنفيذ، ولا تضعي لنفسك أهدافًا مستحيلةَ التحقيق؛ حتى لا تصابي باليأس وتشعري بالإحباط، فهذا النبي الكريم وضع لنفسه أهدافًا محددةً من الهجرة، وهي:
- إيجاد أرضٍ بديلةٍ للدعوة لكي تنعم بالأمن والاستقرار.
- الانتقال بالرسالة الإسلامية من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة.
- تكثير الأنصار وإيجاد رأي عام مؤيد للدعوة.
- استكمال الهيكل التنظيمي للدعوة.
فماذا وضعتِ لنفسِكِ من أهداف هذا العام؟!
حدِّدي وسائل التنفيذ
قومي بتجهيز وتهيئة كلِّ الوسائل التي تُعينك على تحقيق أهدافك، ولا تتركي الأمور تسير بعشوائية، ولا تقولي: إن الوقت ما زال مبكرًا، فقد أعد سيدنا أبو بكر الصديق بعيرَين للركوب وبَقِيا عنده 4 أشهر (وعلف راحلتين كانتا عنده ورقَ السمر أربعة أشهر) وهذا غاية الاستعداد والتجهيز.
رتِّبي أولوياتك
لا شكَّ أن أولويات كل مرحلة ومتطلباتها تختلف عن الأخرى، فالطالبة غير الزوجة غير الأم، فلا بدَّ أن تحدِّدي أولوياتك وترتِّبيها، وتبدأي بالأهم فالمهم، وتعلَّمي من نبيِّكِ ترتيبَ أولويات المرحلة، فاحتياجات المسلمين في العهد المكِّيّ تختلف عن احتياجاتهم في العهد المدني.
اختيار الرفيق
حاولي أن تختاري رفيقاتك بعناية؛ لأنه كما يقولون "الصاحب ساحب" وفي الحديث الشريف: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم مَن يخالل" فاحرصي على حسن اختيار الصديقة التي تعينك على طاعة الله.
فقد حرص الرسول الكريم على اختيار الرفيق، فمنذ أن فاتح الرسولُ أبا بكر الصديق برغبته في الهجرة أشار الرسول له بقوله: "على رِسلك؛ فإني أرجو أن يؤذن لي".
كوني كتومة
إنَّ من أشد آفات المرأة كثرة القيل والقال، فابدئي عامَك الجديد بالحرص على أن تكتمي أمورَك وأسرارك وأسرار من ائتمنك، ولا تُكثري اللغو، وتعلَّمي من ذات النطاقين التي لم تتعدَّ العشرين ربيعًا، كيف كتَمَت سرَّ رسول الله وصاحبه، ففي رواية أن أسماء بنت أبي بكر قالت: "لما خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أتانا نفرٌ من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر- رضي الله عنه- فخرجَت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت والله لا أدري أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده (وكان فاحشًا خبيثًا) فلطم خدي لطمةً خرم منها قرطي.
تعلمي منها الثبات والشجاعة والتضحية والحرص على الكتمان، حتى لو كلَّفها الإيذاء والألم.
إحسان التصرف
تذكَّري مواقفك في العام الماضي التي لم تحسني فيها التصرف، وعاهدي نفسك العام المقبل أن تُحسني التصرف بحكمة وفطنة، متأسيةً أيضًا بذات النطاقين التي لم تَجِدْ ما تحمل فيه الطعام، فشقَّت نطاقها نصفَين، فشدَّت بنصفه السفرة، واتخذت النصف الآخر منطقًا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة"، فقيل لها ذات النطاقين.
كما بلغت حكمتها مبلغًا عظيمًا، حينما دخل عليها جدها أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، فقالت: كلا يا أبت، ووضعت أحجارًا في كيسٍ لتجعلَ الشيخ يطمئن، فهي بفطنتها هدَّأت قلب الجد الضرير كما أنها سترت أباها.
أداء الأمانات
ابدئي عامَكِ الجديد بالحرص على ردِّ الأمانات ولو كانت بسيطةً، ككتاب استعرتيه من صديقة، أو مجلة أو شريط ونسيتيه في مكتبتك مع زحمة الأشغال، وتعلمي من نبيك الكريم حرصَه على ردِّ الأمانات إلى مَن اضطَّهدوه وسَعوا لقتله، فما كان الرسول لينشغل بالتخطيط والإعداد للهجرة عن ردِّ الأمانات واستبقاء علي بن أبي طالب في مكة؛ ليتأكَّد من ردِّ جميع الأمانات، ولعلك تلحظين التناقض العجيب لموقف المشركين الذين لم تمنعهم محاربتهم للرسول وعزمهم على قتله أن يحرصوا على إيداع ودائعهم لديه.
اليد العليا
تعلَّمي أن تكوني مصدر عطاء للناس، وتعفَّفي عما بأيديهم "ازهد فيما عند الناس يحبك الناس" فهذا نبيكِ الكريم رفَضَ أن يركب الراحلة إلا بحقِّها، واستقرَّ الثمن دينًا بذمته، كما أنه لما عَفَا عن سراقة بن مالك عرَض عليه سراقةُ المساعدةَ فقال: "وهذه كنانتي فخُذ منها سهمًا فإنك ستمرُّ بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا، فخذ منها حاجتك" فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "لا حاجة لي فيها".
إسعاد الآخرين
وتعلمي من الهجرة أعظم دروس التضحية والفداء، وتعلمي من علي بن أبي طالب الصبي الذي نام في فراش الرسول غير عابئ أن يُقتَل، وتعلَّمي من أبي بكر الصديق الذي كان يسير أمام الرسول تارةً وخلفه تارةً وعن يمينه تارةً وعن شماله تارةً ليدفع عنه الأذى ويفديه بنفسه.
وتعلمي من صهيب الرومي- رضي الله عنه- فبعد أن عقد العزم على الهجرة منعته قريش واعترضت سبيله، ففاوضهم على ترك ماله مقابل السماح له بالهجرة، فخرج مهاجرًا إلى المدينة، تاركًا ماله ومتاعه، مضحيًا بكل ذلك في سبيل عقيدته ودعوته، راجيًا ما هو خير وأبقى، وقد وصف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صفقته تلك بقوله: "ربح صهيب، ربح صهيب".
الثبات على الحق
وتعلَّمي من السيدة زينب (كريمة رسول الله) إصرارَها على الهجرة وتحمُّلها الألم وفقد الولد، ففي رواية: "خرجت زينب- رضي الله عنها- من مكة مع كنانة، فخرجوا في طلبها، فأدركها هبَّار بن الأسود، فلم يزل يطعن بعيرَها برمحه حتى صرعها وألقت ما في بطنها، وهريقت دمًا فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "هي خير بناتي أصيبت فيَّ".
لا تعجبي بعملك
لا تغمطي الآخرين حقَّهم أو تقلِّلي من شأنهم، وتعلَّمي من موقف السيدة أسماء بنت عميس أن فضل العمل عند الله هو معيار التميز، فعندما عادت أسماء من الحبشة متوجِّهةً إلى المدينة المنورة، فتوجَّهت تزور حفصة زوج النبي- صلى الله عليه وسلم- فدخل عليهما عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قائلاً: "لقد سبقناكم بالهجرة؛ فنحن أحق برسول الله- صلى الله عليه وسلم- منكم، فغضبت- رضي الله عنها- وقالت: أي لعمري لقد صدقت؟! كنتم مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم، يطعم جائعكم، ويعلِّم جاهلكم، وكنَّا البعداء الطرداء.. أما والله لآتين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلأذكرن ذلك له، ولا أنقص ولا أزيد في ذلك، فذكرت ذلك له، فقال: "لكم الهجرة مرتين، هاجرتم إلى النجاشي وهاجرتم إليَّ، فسُرَّت بذلك، وأثلج صدرها، ولم يكن ذلك نوعًا من تطييب الخاطر وإراحة النفس لأسماء فقط، بل كان توضيحًا للحقيقة، فهم تركوا مكة فارِّين بدينهم إلى الحبشة، فكانت "هجرة" وهم أنفسهم انتقلوا من الحبشة إلى المدينة فهذه "هجرة".
الصبر الجميل
ستواجهكِ مصاعب وأنت تسعَين لتحقيق خطتكَ، فاستعيني بالصبر والإيمان، وتعلَّمي من أم سلمة جميلَ الصبر، فهذا أبو سلمة قد أخذ زوجته وابنه، وانطلق مهاجرًا إلى الله ورسوله، يريد المدينة، إلا أن أهل زوجته عارضوا ذلك، وأمسكوا بها مع ولدها، فقام آل أبي سلمة يريدون ولد ابنهم، فتجاذبوا الولد حتى خلعوا يده، ثم أخذه أهل أبيه، وواصل أبو سلمة طريقَه وحده صابرًا محتسبًا حتى بلغ المدينة، وهكذا استقبل أبو سلمة هذه المحنةَ بصبرٍ وثباتٍ، وزوجته تشاطره الصبر على فراقه وفراق ابنها، وبقيت نحو عامٍ حتى لحقت بزوجها في المدينة بعد ما استرجعت ابنها.
تجنب الأثرة
وتمسَّكي بالإيثار، وتعلَّمي من الأنصار الحب والإيثار، الذي كان يدفع الرجل إلى التنازل عن إحدى زوجتيه بطلاقها حتى يتزوَّجها أخوه المهاجر.
بعد أن وضعتِ خطتكِ اتركي القلم الآن وتوضئي وصلِّي ركعتين لله، وابتهلي إليه أن يعينك على تنفيذها، وإن كان في العمر بقية في العام القادم فسترَيْن الفارق، بإذن الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق