أمل خيري
على مدى العقدين الأخيرين شهدت الساحة الهولندية العديد من النقاشات حول تطوير الإسلام في المجتمع الهولندي، وعن الدور الذي يجب أن يلعبه الأئمة المسلمون في إدماج شباب المسلمين في المجتمع الهولندي ذي الخلفية العلمانية الغربية.
ومنذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي عقد المجتمع الهولندي والحكومة الهولندية بشكل خاص الآمال على دور الأئمة الاجتماعي كوسطاء في عملية التكامل الاجتماعي من خلال رسم صورة مثالية للإمام المسلم الذي يسعى حثيثا لإدماج المسلمين في المجتمع الهولندي، إلا أن الحكومة غاب عنها أن أغلب هؤلاء الأئمة نازحون من دول إسلامية مثل تركيا والمغرب، وأن مدة إقامتهم في هولندا مؤقتة لا تتعدى الأربع سنوات؛ وبالتالي فإن معظمهم لا يتحدث حتى اللغة الهولندية.
ولذلك يتبادر السؤال: كيف يمكن لهؤلاء الأئمة أن يقوموا بدور فعال في قيادة المجتمع المحلي، والعمل على إدماج الأقليات المسلمة في إطار المجتمع الهولندي الأشمل في الوقت الذي لا يعرفون فيه لغة هذا المجتمع ولا كيفية التواصل معه؟!
سياسات التكامل
ما زالت لدى الحكومة الهولندية توقعات مغالية حول دور الأئمة المطلوب في المجتمع الهولندي من خلال تكوين جيل جديد من الأئمة المدربين داخل هولندا، والنظر إلى هذا التدريب على أنه السبيل الوحيد لتحقيق الاندماج، وضرورة إبداء هؤلاء الأئمة لولائهم وإخلاصهم للقيم الاجتماعية الهولندية مثل مساواة الرجال والنساء، وعدم التمييز بين البشر بناء على النوع، وأخيرا علمنة المجتمع وفصل الدين عن الدولة.
ولكن لأي مدى تتفق هذه الآمال مع توقعات الأئمة بل وعامة المسلمين أنفسهم داخل المجتمع الهولندي؟
وللإجابة على هذا التساؤل قامت الدكتورة "ويلموت بويندر(1) بدراسة استطلاعية مبدئية شملت مسجدين واتحادًا للطلاب المسلمين، واستمرت الدراسة من عام 2000 وحتى 2004، وقد أظهرت الدراسة التي نشرتها بويندر في كتابها "الإمام في هولندا" أن الإمام بالفعل يستطيع أن يلعب دورا رسميا في التأثير على الآراء والمعتقدات بخصوص القيم الأخلاقية والاجتماعية من خلال الدروس الدينية وخاصة خطبة الجمعة، إلا أنه في الوقت نفسه لا يملك عصا سحرية لتحقيق الاندماج وتنفيذ سياسات التكامل؛ خاصة أنه ما زال يمثل النمطية في الوثائق الحكومية والتغطية الإعلامية.
أدوار الأئمة
غلاف كتاب الإمام في هولندا |
ترتكز رسالة الأئمة على القرآن والسنة والفقه، في الوقت نفسه يتجه هدف هؤلاء الأئمة نحو تشجيع المسلمين على المشاركة المجتمعية، وتسليط الضوء على أهمية الأخلاق في المجتمع، وتشجيع المسلمين على تعليم أطفالهم على أعلى مستويات دراسية ممكنة، وصرف الناس عن الحياة المادية والانغماس في الشهوات؛ حيث يركز الأئمة على أهمية الزواج وتهذيب الغرائز الإنسانية، وكل هذه الأمور لا يبدو أنها تتعارض من حيث الظاهر مع القيم المدنية في هولندا، فالأئمة بهذا الشكل يدعمون المجتمع المدني ولكنهم في الوقت نفسه يعتبرون تدعيم روابط الدين بين المسلمين سواء على المستوى الشخصي أو الجماعي هو رسالتهم الأولى.
وتتعدد أدوار الأئمة في المجتمع الهولندي، فكما يرى الأئمة أنفسهم تشمل هذه الأدوار جانبا دينيا وثقافيا واجتماعيا. فللأئمة دور ديني يتمثل في مكانتهم نفسها؛ حيث ينظر إليهم كممثلين للإسلام ومستشارين يقدمون المشورة الدينية، ويقومون بالرد على الفتاوى، إضافة إلى دورهم في التربية الإيمانية للأفراد.
وتتعدد أدوار الأئمة في المجتمع الهولندي، فكما يرى الأئمة أنفسهم تشمل هذه الأدوار جانبا دينيا وثقافيا واجتماعيا. فللأئمة دور ديني يتمثل في مكانتهم نفسها؛ حيث ينظر إليهم كممثلين للإسلام ومستشارين يقدمون المشورة الدينية، ويقومون بالرد على الفتاوى، إضافة إلى دورهم في التربية الإيمانية للأفراد.
كما يقوم الأئمة بدور عرقي - ثقافي يتمثل في تأكيد صلتهم وصلة كل مجموعة من المسلمين بالوطن الأم سواء الصلة بلغة الوطن أو ثقافته.
وأخيرا ينتظر من الأئمة القيام بدور مجتمعي وهو الدور الذي يخص الرد على استشارات المسلمين حول المستجدات في المجتمع الهولندي وكيفية التعايش معها.
إلا أنه مع ذلك لا ينبغي التهويل بشأن دور الأئمة في المجتمع الهولندي؛ لأن الإمام في النهاية لا يمتلك أدوات التصرف أو سلطات الإلزام؛ فدوره يقتصر على تقديم النصح، ولكن القرار النهائي يعود للمسلم نفسه، وهذا هو الفارق الأساسي بين دور الإمام ودور القساوسة المسيحيين على سبيل المثال؛ حيث يعتبر القس بسلطته الكهنوتية وسيطا بين الله والبشر.
بين الأئمة والمسلمين
أما على مستوى المسلمين أنفسهم فإن الجيل الأول من المهاجرين إلى هولندا كان يرى الحفاظ على الروابط الثقافية بالوطن الأم من أهم أولوياته؛ لذا فإن المؤسسات الإسلامية التقليدية المألوفة قد انتقلت معهم خاصة المسجد، فكان اهتمام هذا الجيل منصبا على بناء المساجد وإعطاء إمام المسجد مكانة حيوية فهو لا يؤم المسلمين في صلاتهم فحسب بل أيضا يعمل كمرشد اجتماعي للمصلين.
بينما نرى أن الجيل الثاني والثالث قد اختلفت نظرتهم للإمام؛ فهو في نظرهم من يرشدهم إلى الحلال والحرام، ويعلمهم كيفية ممارسة شعائر دينهم، وبالنسبة للشباب والمراهقين فإنهم يتوقعون من الإمام أن يوضح لهم الحكمة التي تقف وراء كل العبادات، وأن يمدهم بالمعاني الروحية للسلوك، وتبعا لرؤية هذين الجيلين فإن الإمام ينبغي عليه ليس فقط أن يصلح للإمامة والدعوة بل عليه أن يملك أدوات الإقناع، وأن يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وأن يتمتع بنوع من الكاريزما الشخصية التي تجعل الجميع يلتفون حوله ويستفتونه في أمور حياتهم اليومية.
إلا أن الواقع الفعلي يظهر أن بعض الأئمة فقط هم القادرون على أداء هذا الدور؛ فيعتبرهم المسلمون بمثابة المصدر الأول للمعلومات الموثقة، بينما الكثير من الأئمة التقليديين لا يهتمون بذلك، وبالتالي فإن كثيرًا من الشباب يعتبر ما ينصح به الإمام لا يزيد عن كونه نصيحة لا تحمل أي قدر من الإلزام.
كل هذا يدفع إلى القول بضرورة عدم المبالغة في تقدير دور الأئمة في هولندا خاصة الأئمة من أصول تركية أو مغربية والذين لم يتعلموا اللغة الهولندية، وفي الغالب يستعينون بمترجمين كوسطاء بينهم وبين المسلمين المقيمين في هولندا؛ مما يعمق الهوة بين الإمام والمسلمين.
كل هذه العوامل السابقة تفسر تراجع دور الأئمة الحقيقي في المجتمع الهولندي؛ فحسب دراسة "ويلموت بويندر" فإن القليل فقط من المسلمين من يلجأ للإمام ليستشيره فيما يخص المجتمع الهولندي، بينما الأغلبية لا تفعل ذلك.
الدعاة الجدد
وإذا كان هذا هو الحال فلماذا تصر الحكومة الهولندية على برامج تدريب الأئمة؟ ولماذا تعقد الآمال على دور الإمام في سياسات الاندماج والتكامل؟
يعود السبب في ذلك إلى مركز الإمام بالنسبة للمسلمين؛ حيث إن معرفته حول أصول الدين وإمامته للصلاة تكسبه قدرا من الصلاحية والسلطة داخل المجتمع، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أن المسلمين يتقيدون بشكل صارم بأوامره، فالشباب والمثقفون مثلا يتفحصون رؤيته ويقارنونها بأفكار أقرانهم وأقاربهم والدعاة المنتشرين عبر الإنترنت والمحاضرين الهولنديين.
وبجانب هذه المصادر للمعلومات فإن الداعيات المسلمات أيضا ينبغي عدم إغفال دورهن وتأثيرهن، وإن كان في كثير من الأحيان لم يأخذ هذا الدور حقه في النقاش العام؛ فلهؤلاء الداعيات تأثير كبير؛ خاصة أن النساء بوجه عام يفضلن أن يستشرن داعيات نساء في أمور دينهن وحياتهن الخاصة، في الوقت الذي تتجنب فيه أغلب النساء أي اتصال مباشر مع الأئمة والدعاة من الرجال، وإن حدث الاتصال فإنه يكون بشكل غير مباشر إما من خلال الاستماع لخطبة الجمعة أو من خلال أسئلة مكتوبة يمررنها للإمام بواسطة أحد المحارم.
أمام هذه المصادر الجديدة للدعوة لا بد أن تتزايد التشاورات وتبادل الخبرات بين الأئمة المحليين؛ وخاصة أن الشباب قد أصبح تأثرهم الأكثر بالدعاة الجدد، سواء دعاة الفضائيات مثل عمرو خالد أو الدعاة في الفضاء الإلكتروني والمنتديات وغرف البالتوك، إضافة إلى تأثرهم بالعديد من الكتب المترجمة إلى الهولندية.
أمام هذه المصادر الجديدة للدعوة لا بد أن تتزايد التشاورات وتبادل الخبرات بين الأئمة المحليين؛ وخاصة أن الشباب قد أصبح تأثرهم الأكثر بالدعاة الجدد، سواء دعاة الفضائيات مثل عمرو خالد أو الدعاة في الفضاء الإلكتروني والمنتديات وغرف البالتوك، إضافة إلى تأثرهم بالعديد من الكتب المترجمة إلى الهولندية.
أيضا، في حين أن الجيل الأول من المسلمين كان يعتبر الإمام المحلي المصدر الأول لتعليم القيم والأخلاقيات لأطفالهم، فإن هؤلاء الأطفال أنفسهم فيما بعد قد أصبح لديهم أطفال ولم يعودوا يعولون على دور الإمام في تنشئة أطفالهم الدينية.
ومع تأثر الجيل الحالي بتقنيات الاتصال الحديثة أصبح النظر للإمام المحلي فقط على أنه راعي التقاليد الثقافية البالية للوطن الأم، وبالتالي لم يعد صالحا للعمل في المجتمع الهولندي المعاصر، ومما عزز من هذه النظرة السلبية انتشار عدد من الدعاة الجدد ذوي الاتجاهات السلفية الذين يعملون خارج إطار المساجد الرسمية، ويتأسس خطابهم على أساس عرقي مما ساهم في تأصيل الانعزالية والتحزب بين المسلمين أنفسهم بدلا من اندماج المسلمين ككل في المجتمع الهولندي الأكبر.
المؤسسات البديلة
كل هذا دفع في اتجاه إيجاد مؤسسات دينية بديلة وأدوار دعوية متجددة؛ فظهرت بعض الجامعات الإسلامية في هولندا والتي يدرس فيها الرجال والنساء معا، إضافة إلى الدعوة والوعظ داخل السجون والمستشفيات من خلال جهات رعاية مؤسسية، كما ساهم العديد من الكتاب والمثقفين المسلمين من الرجال والنساء في النقاش العام حول المعرفة الإسلامية، وكل هذه التطورات وما لازمها من نقاش يدخل في صميم ما يسمى بتطوير الإسلام في هولندا، أو ما اصطلح على تسميته: "الإسلام الهولندي".
وفي الوقت الحاضر تتزايد الحاجة لمثل هذه المؤسسات في المجتمع الهولندي والتي لن تلغي دور الأئمة، ولكن على الأقل تضع دورهم في حجمه الصحيح، خاصة أن مشاكل تدريب الأئمة تتزايد في ظل عدم توفير تمويل لهذا التدريب وعدم التجانس بين الجماعات المسلمة نفسها، إضافة إلى غياب المدربين المؤهلين لهذا النوع من التدريب، وبالتالي فإن الدور الديني للأئمة هو الذي سيستمر، أما التعويل على الدور المجتمعي فيجب ألا يعيق سياسات التكامل والاندماج، وعلى الحكومة أن تبحث عن بدائل لهذا الدور، وألا تضع بيضها كله في سلة واحدة (2).
(2)- Welmoet Boender, Imams in the Netherlands: Expectations and Realities, I S I M , International Institute for the Study of Islam in the Modern World, review 21 ,spring 2008
رابط نشر المقال:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق