في مواجهة دعاوى تحرير المرأة الزائفة التي انتشرت مطلع القرن العشرين ظهرت مدرسة جديدة تدعو لتمكين المرأة ومشاركتها الحياة العامة انطلاقا من تمسكها بمبادئ الإسلام الحنيف. وكانت زينب الغزالي رائدة هذه المدرسة التي لم تنل حقها في التعريف بها، بل تم تجاهل دور هذه المدرسة في مسيرة تحرير المرأة في الوقت الذي تم تسليط الأضواء على الاتجاهات العلمانية التي كانت زينب نفسها إحدى المؤيدات لها في فترة من حياتها إلى أن تكشف لها زيف هذه الدعاوى فانبرت بفكرها وقلمها تدعو إلى تمكين المرأة وتحريرها بالعودة إلى شرع الله والتمسك بآداب الإسلام.
النشأة والتكوين
ولدت زينب الغزالي في الثاني من يناير 1917م، الموافق التاسع من ربيع الأول 1335هـ بقرية "ميت يعيش" بمحافظة الدقهلية لأسرة عربية تعود في أصولها إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من ناحية الأب وإلى الحسين رضي الله عنه من ناحية الأم، وهذه الأصول ألقت ظلالا من الشعور بالمسئولية على كاهل الابنة زينب حيث كانت تستشعر دوما أن هذه الصلة ليست تشريفا بقدر ما هي تكليف لها بمزيد من المسئوليات لرفعة دينها.
ارتبطت زينب الغزالي كثيرا بوالدها تاجر الأقطان الذي كان عالما أزهريا، وقد أحب زينب كثيرا لأنها كانت الابنة الأولى بعد أربع ذكور فكان يؤثرها بعنايته ويحضرها معه في مجالسه مع أكابر رجال القرية وكان يناديها بنسيبة بنت كعب ويعطيها سيفا خشبيا ويقول لها اذهبي ودافعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما كان والدها مؤمنا بضرورة تعليم البنات فكان يمنعها من أداء الأعمال المنزلية لتتفرغ للعلم وكان دائم الطلب منها أن تكون شخصية مستقلة تساهم بدور بارز في المجتمع وكان يشجعها على الإلقاء ويعهد إليها بإلقاء خطب ترحيب بضيوفه، فكان لهذه العوامل أكبر الأثر في تكوين شخصيتها القيادية.
تلقت زينب تعليمها الابتدائي في المدارس الحكومية، وبعد وفاة والدها عام 1346هـ/ 1928م وتولي شقيقها الأكبر سعد الدين الغزالي رعاية الأسرة طلب منها ترك المدرسة في المرحلة الثانوية حيث كان شديد الغيرة عليها فاضطرت للاستجابة لطلبه ولكنها لم تهمل تثقيف نفسها.
وظلت زينب تسعى لاستكمال تعليمها وخاصة أنها كانت تلمس تشجيعا من شقيقيها "علي" لتعليمها، وفي أثناء سيرها أمام إحدى المدارس الثانوية طلبت من حارس المدرسة مقابلة مدير المدرسة فتعجب من جرأتها فسألها عن اسمها، فقالت له: السيدة زينب الشهيرة بنسيبة بنت كعب. وبعد مقابلة المدير الذي أعجب بثباتها وفصاحتها عبرت له عن رغبتها في الالتحاق بالمدرسة وشرحت له ظروف تركها للتعليم فطلب منها أن تحضر شقيقها "علي" ليقدم أوراقها للمدرسة. وبالفعل قبلت في المدرسة بعد أن اجتازت امتحانا للقبول وتخرجت في المدرسة الثانوية وعمرها سبعة عشر عاما.
من العلمانية إلى الإسلام
تمثلت المحطة الأولى في حياة زينب الغزالي بعد تخرجها في إعجابها بالسيدة هدى شعراوي التي كانت ترأس الاتحاد النسائي وآرائها في تحرير المرأة، فسارعت بالانضمام للاتحاد النسائي وهي لم تتعد السابعة عشرة، كما أعجبت بها هدى شعراوي ولمست منها لباقة وجرأة لم تعهدها في الفتيات فاختارتها عضوة في مجلس إدارة الاتحاد الذي كان يضم كبار الشخصيات النسائية في المجتمع. وسرعان ما تشبعت زينب بأفكار هدى شعراوي وظلت تدافع عن هذه الأفكار وتدعو لها مؤمنة بضرورة تحرير المرأة المسلمة على النمط الغربي بما يعني تحريرها من حجابها ومن مبادئها لتتأسى بالمرأة الغربية في تحررها ونيل حقوقها.
وشاء الله أن تكون المحطة الثانية في حياة زينب حين كلفتها هدى شعراوي بحضور بعض الحلقات في الأزهر الشريف عن دور المرأة في الإسلام، وظلت زينب تستمع للمتحدثين منتظرة دورها في الكلام والتعقيب لتنتصر لفكرها إلا أن ما حدث كان العكس تماما حيث تأثرت زينب بهذه المحاضرات، وظلت تعمل عقلها بما استمعت إليه وتعيد التفكير في المبادئ التي آمنت بها فبدأت تتعرف على بعض علماء الأزهر وتوثقت صلتها بهم، وخاصة الشيخ محمد النجار الذي دعا لها بالهداية وأن تكون مع الله وليس مع هدى شعراوي.
وكانت المحطة الثالثة في حياة زينب حين ضغطت عليها والدتها لتتعلم الطبخ فوقفت أمام الموقد لأول مرة في حياتها فاشتعلت النيران في جسدها كله ونقلت للمستشفى، وحينما عاينت زينب الموت بعينها نذرت لله إن نجاها أن تعود إليه وتترك الاتحاد النسائي وتتجه للدعوة إلى الله، وأنعم الله عليها بالعافية فأوفت بنذرها وارتدت الحجاب واستقالت من عضوية الاتحاد النسائي ووضعت مسودة لإنشاء جمعية السيدات المسلمات بهدف زيادة وعي المرأة المسلمة في ممارسة دورها الدعوي الريادي، وذلك في عام 1355هـ/1937م ولما تتعد العشرين من عمرها. وقد وفقها الله لإشهار الجمعية بمعاونة عدد من علماء الأزهر، وما لبثت أن انتشرت فروع هذه الجمعية في أنحاء البلاد حتى بلغت 119 فرعا وانطلقت تجوب القرى والمدن المصرية تمارس خدماتها الخيرية والدعوية. وتفرغت زينب لهذه الجمعية وانبرت للتصدي لدعاوى تحرير المرأة الزائفة من قبل الاتحاد النسائي، وأطلقت صيحات التحذير للفتيات المسلمات من الانسياق وراء هذه الشعارات الخادعة التي تحمل في جوانبها التأسي بالغرب والتخلي عن العفة والأخلاق، وتجاوزت الدعوة مرحلة المحلية إلى العالمية حيث أعلنت زينب الغزالي تأسيس بعثة الحج السنوية التي كانت تقترب أعداد النساء فيها من أربعمائة امرأة وكانت زينب ترأس هذه البعثات بنفسها.
كما نالت قضية فلسطين اهتماما كبيرا من جانب جمعية السيدات المسلمات، وليس أدل على ذلك من إرسال الجمعية لرسالة احتجاج للزعماء على صدور قرار تقسيم فلسطين وذلك في الاجتماع التأسيسي الأول للجمعية.
تحرير المرأة
وفي هذه المرحلة تبلورت أفكار زينب الغزالي في تحرير المرأة حين أصدرت مجلة الجمعية لتعبر عن التحرير الإسلامي للمرأة، حيث رأت أن التحرير الحقيقي للمرأة كان مع ظهور الإسلام وأن الإسلام يسمح للمرأة أن تأخذ دورا رياديا في الحياة العامة وتشارك في الحياة السياسية والاقتصادية وتعبر عن رأيها وتدير أعمالها وتمتلك الثروة بحرية تامة دون وصاية من الرجل، وأن على المرأة المسلمة أن تشارك بفاعلية في خدمة مجتمعها المسلم وتنطلق تمارس دورها الدعوي ملتزمة بضوابط الإسلام وأخلاقياته في ثوب من العفاف والاحتشام والحجاب، وهذا هو التحرير الحقيقي للمرأة.
وأصبحت دروس زينب الغزالي في مساجد أحمد بن طولون والإمام الشافعي والأزهر الشريف وغيرها موئلا للنساء، حيث كانت تستمع إليها ما يقرب من مليون امرأة أسبوعيا. وتوثقت صلة زينب أكثر بكثير من مشايخ الأزهر الشريف مثل الشيخ مصطفى المراغي والشيخ مصطفى عبد الرازق، وساعدها ذلك على إنشاء معهد نسائي للوعظ الديني كان يؤهل النساء للدعوة والوعظ بعد دراسة شرعية لمدة ستة أشهر.
وتكللت نجاحات جمعية السيدات المسلمات بالانضمام لدعوة الإخوان المسلمين كبرى الجماعات الإسلامية في ذلك الوقت، وظلت زينب على العهد تدعو إلى الله وتفضح مكائد دعاة الحرية الزائفة حتى اغتيال حسن البنا وتوالي المحن على الإخوان والاعتقالات، فقامت زينب بدورها الإنساني في مساعدة أسر المعتقلين وإيواء شباب الدعوة.
وكغيرها من الوطنيين المخلصين علقت الآمال على ثورة 23 من يوليو 1952م في بداية الأمر، ولكن ما لبثت أن تكشفت لها الأمور فالحكومة الجديدة غير راغبة في تطبيق شرع الله، وتعرضت زينب لمحاولة اغتيال دبرتها حكومة جمال عبد الناصر لكنها نجت منها لتفاجأ بصدور قرار بحل جمعية السيدات المسلمات. وبدأت المساومات معها لإعادة الجمعية مقابل أن تنضم للاتحاد الاشتراكي وأن تنشر الفكر العلماني من خلال مجلة الجمعية، ولكنها رفضت هذه المساومات رفضا تاما وأعلنتها صريحة: لن يكون عملنا إلا للإسلام ولن نموه ولن نضلل.
محنة وثبات
تمثلت المحطة الرابعة من حياة زينب أثناء محنة الاعتقال في السجن الحربي عام 1384هـ/1965م بعد تحديها لحكومة عبد الناصر، وتعرضت في هذا المعتقل لأبشع أنواع التعذيب وهو ما سجلته في مذكراتها الشهيرة بعنوان "أيام من حياتي" حيث فضحت في هذا الكتاب طواغيت العصر وحقدهم على الإسلام وتنكيلهم بالدعاة والمصلحين. وما لبثت أن أفرج عنها عام 1390هـ/1971م بعفو من الرئيس أنور السادات وذلك بعد وساطة الملك فيصل عاهل السعودية، فخرجت من معتقلها بشرط ألا تمارس العمل الدعوي أو السياسي. لكنها خرجت من محنتها أشد ما تكون عزيمة ومضاء وظلت على الطريق تنافح عن دينها وتدعو إلى الله.
وكان مصحفها رفيقها في السجن حيث كانت تسجل خواطرها في التفسير على هوامش صفحاته، ورغم أن المصحف أخذ منها فقد سارعت فور خروجها من سجنها بتسجيل هذه الخواطر مرة أخرى في كتاب بعنوان "نظرات في كتاب الله" والذي قام بمراجعته الدكتور عبد الحي الفرماوي. وبذلك تعد زينب الغزالي أول امرأة تفسر القرآن الكريم.
الجهاد بالفكر
المرحلة الأخيرة من حياة زينب الغزالي أتاحت لها الانطلاق بمسيرتها الفكرية إلى قمة نضجها حيث ظهر ولعها الشديد بالقراءة والمطالعة، فكانت تمتلك مكتبة ضخمة في سائر المعارف والعلوم الإنسانية والإسلامية والسياسية والأدبية، وكانت لا تفارق الورق والقلم واستطاعت أن تصوغ خلاصة فكرها في العديد من الكتب، كما ساهمت بمئات المقالات في الصحف والمجلات المصرية والعربية، كصحيفة الشرق العربي الجزائرية التي خصصت لها صفحة كاملة لثلاث سنوات متوالية. وفي مصر كانت تشرف على صفحة "نحو بيت مسلم" بمجلة الدعوة منذ مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، وعبرت في هذا الركن بمقالاتها الثابتة عن فكرها الواضح في رفض مصطلح النسوية بسبب ارتباطه بالفكر العلماني الغربي والتحلل من القيم والاختلاط بين الجنسين وسفور المرأة، وفي المقابل أعربت عن دور المرأة الريادي في الإسلام موضحة أن مهمة المرأة الأساسية في كونها زوجة وأما، ويجب ألا يعطلها عن هذا الدور الأصلي أي شيء آخر، لكنها في الوقت نفسه مطالبة بأن تشارك في الحياة العامة والدعوة إلى الله بعد أداء دورها الأصلي، وعليها أن تشارك الرجل في سائر مجالات الحياة؛ لأن الإسلام لم يمنعها من ذلك.
وترفض زينب الغزالي اتهام الإسلام بتهميش دور المرأة لأنه الدين الذي وضع المرأة كلبنة أساسية من لبنات الحضارة وضمن بحقوقها وقام بتقدير دورها كأم تربي الأجيال وتبني المجتمع.
كما شاركت زينب في العديد من المؤتمرات العربية والدولية وزارت العديد من الدول الإسلامية كالجزائر وباكستان، وكانت تصدع بالحق في حضور رؤساء الدول.
ولإيمانها بأن نهضة الأمة الإسلامية لن تقوم إلا على أكتاف الرجال والنساء معا أهمها أمر حرمان الفتيات من التعليم الرسمي في السعودية فكان دورها الريادي في التقدم باقتراح إلى ملك السعودية لإقرار مبدأ تعليم البنات، وبالفعل بدأت دراسة الاقتراح بجدية وتكللت دعوة زينب بالنجاح حين وافقت الحكومة السعودية على إنشاء إدارة مستقلة لتعليم البنات منذ أوائل الستينيات من القرن العشرين، وظلت زينب على اتصال بهذه المدارس السعودية، وحرصت على زياراتها ولقاء الطالبات والمعلمات بها حتى أصبحت كل فتاة سعودية متعلمة تدين بالفضل في تعليمها لزينب الغزالي.
توفيت زينب الغزالي بعد تاريخ حافل في العمل الإسلامي النسائي يوم الأربعاء الثالث من أغسطس عام 1425هـ/ 2005م عن عمر يناهز 88 عاما تاركة العديد من المؤلفات والإنتاج الفكري الذي يشهد بريادتها في مجال تمكين المرأة.
المراجع
1. بدر محمد بدر، سطور في حياة الداعية المجاهدة زينب الغزالي، القاهرة: دار التوزيع والنشر الإسلامية 2006م.
2. ابن الهاشمي، الداعية زينب الغزالي، مسيرة جهاد وحديث من الذكريات من خلال كتاباتها، تصدير محمد الغزالي، القاهرة: دار الاعتصام 1989م.
3. ابن الهاشمي، هموم المرأة المسلمة والداعية زينب الغزالي، القاهرة: دار الاعتصام 1990م.
4. فاطمة محمد، في حوار مع زينب الغزالي، جريدة العالم الإسلامي الصادرة عن رابطة العالم الإسلامي، العدد 1779، الجمعة 28 من ذي القعدة 1423هـ/31 من يناير 2003م.
5. M COOKE , ISLAMIC FEMINISM BEFORE AND AFTER SEPTEMBER 11TH , Duke Journal OF Gender Law & Policy, 2002.
6. Pauline Lewis , Zainab al-Ghazali: Pioneer of Islamist Feminism , Michigan Journal of History - Winter 2007 Issue
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق