يمثل العلامة مصطفى الزرقا نموذجا فريدا في الجرأة والتجديد والاجتهاد، فقد نذر حياته لوضع الأسس العلمية للفقه المعاصر الذي يراعي مستجدات العصر، وشارك في تأسيس العديد من المجامع الفقهية، وفي الموسوعة الفقهية الكويتية، واختير لجائزة الملك فيصل العالمية تقديرا لجهوده الفقهية وإسهاماته في المؤتمرات الفقهية والقانونية، واعتبرته كثير من الدول العربية مرجعا فقهيا وقانونيا نظرا لإسهاماته الجليلة في صياغة وشرح القوانين الوضعية ومقارنتها بالشريعة الإسلامية. وتأتي سلسلته الفقهية الرائعة "الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد" على رأس مؤلفاته التي نال بها شهرته ومكانته في حقل الدراسات الفقهية في العالم الإسلامي.
النشأة والتكوين
ولد مصطفى بن أحمد بن محمد الزرقا، في مدينة حلب بسورية 1322هـ/ 1904م، لأسرة علمية أطلق عليها العلامة الشيخ علي الطنطاوي "سلسلة الذهب"؛ فوالده الشيخ الفقيه أحمد الزرقا مؤلف (شرح القواعد الفقهية)، وجده علامة حلب الفقيه العمدة المحقق الشيخ محمد الزرقا المتوفى 1343هـ/ 1924م، وكلاهما من كبار علماء مذهب الأحناف، في حلب الشهباء.
نشأ مصطفى الزرقا في هذه البيئة العلمية التي كان لها أكبر الأثر في حفزه على طلب العلم وبدت عليه أمارات النجابة منذ طفولته الباكرة فحفظ القرآن الكريم في الكتاب على يد الشيخ محمد الحجار ثم التحق بالمدرسة الابتدائية فالثانوية الخسروية الشرعية فدرس علومه الدينية على شيوخ بلده، كما درس العلوم العصرية واللغة الفرنسية دراسة خاصة، حيث ألحقه والده بمدرسة ألفرير الفرنسية ونال الشهادتين الرسميتين الشرعية والثانوية، حيث نال شهادة البكالوريا في شعبة العلوم والآداب وكان ترتيبه الأول على سورية ثم انتقل لدمشق فنال شهادة البكالوريا مرة أخرى في شعبة الرياضيات والفلسفة وحصل على الترتيب الأول أيضا؛ ما أهله للالتحاق بكليتي الحقوق والآداب بالجامعة السورية في الوقت نفسه عام 1349هـ/ 1930م ونال شهادتيهما بتفوق بعد ثلاث سنوات وأيضا كان ترتيبه الأول على الدفعتين، وكان أول من جمع بين الفقه والقانون والأدب في سورية.
بعد تخرجه عمل بالمحاماة أمام المحاكم المختلطة والوطنية بحلب لعشر سنوات لم يتوقف فيها عن استكمال دراسته العليا حيث حصل على دبلوم الشريعة الإســلامية من كليـة الحقوق بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا) عام1367هـ/ 1947م.
الفقيه الموسوعي
تولى مصطفى الزرقا التدريس في وقت مبكر مكان والده في المدرسة الخسروية والشعبانية وأيضا في الجامع الأموي بحلب وجامع الخير، وفي عام 1364هـ/ 1944م انتقل لكلية الحقوق بدمشق حيث أصبح أستاذا للشريعة والحقوق المدنية ورئيسا للقسم حتى أحيل للتقاعد عام 1386هـ/ 1966م وشارك في التدريس بكلية الشريعة بدمشق لمادة الحديث النبوي وقام بالتدريس في معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة التابع لجامعة الدول العربية، كما قام بالتدريس في كلية الشريعة بجامعة الأردن.
وعلى صعيد المناصب الحكومية تولى الزرقا وزارة العدل والأوقاف مرتين، كما انتخب عضوا في مجلس النواب السوري في دورتين تشريعيتين عامي 1374هـ/ 1954م، و1384هـ/ 1964م نائبا عن مدينة حلب، وشكل مع إخوانه النواب الكتلة الإسلامية برئاسة د.مصطفى السباعي.
أما على المستوى الموسوعي فقد شارك في مؤتمر أسبوع الفقه الإسلامي بباريس سنة 1371هـ/ 1951م والذي كان من توصياته العمل على إنشاء موسوعة فقهية، فاشترك الزرقا مع بعض زملائه من سوريا ومصر - مثل الدكتور مصطفى السباعي ومعروف الدواليبي والشيخ محمد أبو زهرة - في مشروع الموسوعة الفقهية بكلية الشريعة بدمشق، إلا أن العمل تعطل بها بعد انفصال سورية عن مصر عام 1381هـ/ 1961م، فتبنت الكويت هذه الموسوعة حيث اختارت وزارة الأوقاف في الكويت مصطفى الزرقا خبيرا في الموسوعة الفقهية وأمينا عاما لها سنة 1386هـ/ 1966م، وعلى مدى خمس سنوات ساهم خلالها في إنجاز الموسوعة الفقهية حيث أنجز 51 موضوعا موسوعيا على المذاهب الفقهية الثمانية بالإضافة لمعجم للفقه الحنبلي.
جوائز ومؤتمرات
وتقديرا لجهوده المميزة في مجال الفقه والشريعة الإسلامية منح مصطفى الزرقا جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية في مجال الدراسات الفقهية وذلك عام 1404هـ/ 1983م عن كتابه "المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي" وهو الجزء الثالث من سلسلة الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد.
ونتيجة لإتقان الزرقا العديد من اللغات الأجنبية مثل الفرنسية والإنجليزية والألمانية بالإضافة إلى تفوقه العلمي فقد شارك الزرقا في العديد من المؤتمرات الدولية مثل مؤتمر الحقوق المقارنة الذي عقد بلاهاي عام 1356هـ/ 1937م، ومؤتمر المحامين الدولي بباريس عام 1409هـ/ 1948م، كما شارك في وضع العديد من مشروعات القوانين في الدول العربية وفي تنقيح بعض منها مثل قانون الأحوال الشخصية السوري عام 1372هـ/ 1952م، والقانون المدني الأردني، ورأس لجنة مشروع القانون الموحد للأحوال الشخصية لمصر وسوريا أثناء وحدتهما من 1378-1381هـ/ 1958-1961م، واختارته إدارة التشريع والبحوث في الأمانة العامة بجامعة الدول العربية عضوا خبيرا بين لجنة الخبراء الذين اختارتهم لوضع مشروع قانون مدني موحد للبلاد العربية، يستمد من الفقه الإسلامي ويفي بالحاجات الزمنية الحديثة، وذلك منذ عام 1398هـ/1978م، ولا تزال اللجنة تواصل عملها. واختير الزرقا عضوا في مجلس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية في الأردن، وشارك الزرقا في تأسيس وتطوير مناهج عدد من الجامعات، وفي عام 1398هـ/ 1978م اختارته رابطة العالم الإسلامي عضوا في المجمع الفقهي حيث ساهم بتقديم العديد من الدراسات الفقهية المعاصرة.
ومنذ عام 1410هـ عمل الزرقا مستشارا فقهيا في شركة الراجحي وظل يعمل بها حتى وافته المنية أثناء أداء عمله بمدينة الرياض يوم السبت 19 من ربيع الأول 1420هـ/ 3-7-1999م عن عمر يناهز 95 عاما قضاها في الدعوة إلى الله وخدمة العلم الشرعي والفقهي وإثراء المكتبة الفقهية بالعديد من المؤلفات.
منهجه الفقهي
ساهم مصطفى الزرقا في إرساء منهج فقهي جديد يعتمد على المنهج التجديدي والذي تتمثل أهم ملامحه في إدراكه لأهمية المعرفة القانونية من مصادرها وانتقال طريق عرض الفقه الإسلامي من الشكل الفروعي إلى الشكل الموضوعي. إنه لم يقتف آثار من سبقوه من شراح مجلة الأحكام الشرعية الذين جعلوا الفقه فتاوى وقضايا وجزئيات بل اتبع منهج تدريس القانون المدني في فرنسا وطبقه في دراسة الفقه الإسلامي بتصنيفه موضوعيا.
وقام بالمقارنة بين قوانين كثير من الدول العربية وبين الفقه الإسلامي وأثبت رجحان الفقه الإسلامي والأحكام الفقهية بالأدلة العلمية. وكان الزرقا من أكبر الدعاة إلى توجيه البنوك الإسلامية واستحداث أنظمة إدارية لها مستقاة من الشريعة الإسلامية.
كما دعا للاجتهاد الجماعي جنبا إلى جنب مع الاجتهاد الفردي، فكان من أوائل من دعا لتأسيس المجامع الفقهية وشارك في العديد منها وشدد على أهميتها في تداول المشورة والخبرات بين الفقهاء، إلا أن هذا الاجتهاد الجماعي لا يلغي دور الاجتهاد الفردي لكل فقيه على حدة.
ومن ملامح تجديده الفقهي رفضه لقياس مستحدثات العصر على اجتهادات الفقهاء السابقين؛ لذا كان يدعو للاجتهاد في الأمور المستجدة والانطلاق من فقه الواقع، مع ملاحظة ظروف النصوص التي استندت إليها الأحكام وكذلك ظروف اجتهادات الفقهاء ومعطيات عصرهم.
ويشدد الزرقا على دور العقل في فهم النصوص؛ ولذا لا تكاد تخلو فتاواه من بيان المقاصد الشرعية التي استند إليها في رأيه مع تحذيره للتعصب الأعمى للحكم دون نظر.
تراثه الفكري
كتب الزرقا الكثير من المقالات في عديد من المجلات الإسلامية مثل الشهاب والأمة القطرية والمسلمون وغيرها، وشارك بالعديد من الأبحاث والدراسات في المؤتمرات التي شارك بها، كما ترك ثروة نفيسة من الكتب في عدة مجالات يأتي الفقه والقانون على رأسها جميعا.
وتعود مساهمة الزرقا في التأليف والتحقيق إلى سني عمره المبكرة حيث نشر أول كتابين له وهو في الثالثة والعشرين من عمره، كان الأول تحقيقا لكتاب "المذكر والمؤنث" للفراء، والآخر تحقيق كتاب "مختصر الوجوه في اللغة" للخوارزمي.
أما في مجال الفقه والقانون فقد أبدع وأخرج النفائس الفقهية والشروح القانونية؛ فقد أخرج السلسلة الفقهية بعنوان "الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد" في أربع مجلدات من بينها "المدخل الفقهي العام"، و"المدخل إلى نظرية الالتزام"، و"العقود المسماة في الفقه الإسلامي"، وكتب سلسلة أخرى في "شرح القانون المدني السوري". وتميزت السلسلة الفقهية بالمقارنات المهمة بالقانون، كما تميزت السلسلة القانونية بالمقارنات بالفقه، وكل هذه المقارنات في السلسلتين تبرز بوضوح مزايا الفقه الإسلامي وشموله ومنطقيته، واتسمت السلسلة الفقهية بكتابتها بأسلوب منسق يفهمه الطالب والفقيه والقانوني على حد سواء.
وفي كتابه "المدخل لدراسة القانون" قام الزرقا بدراسة مجلة الأحكام العدلية وقد أوضح فيه عظمة الفقه الإسلامي، وقام بتأليف كتابه على الأسلوب الحديث، وتناول في كتاب "المدخل إلى نظرية الالتزام" فهما عاما لنظرية العقود أتبعه بكتاب عن "البيع" فصل فيه أحكام البيع في الإسلام. أما كتاب "الفقه الإسلامي ومذاهبه" فيتوجه به الزرقا إلى المثقف الأجنبي الذي ليس لديه أي خلفية سابقة عن الإسلام فيقدم له فكرة علمية صحيحة عن الفقه الإسلامي واختلاف المذاهب الفقهية وأسبابه الواقعية، وهذا الكتاب في أصله كان بحثا قدمه الزرقا لمنظمة اليونسكو بناء على طلبها لذا فقد تحرى فيه بساطة الأسلوب.
وتعرض الزرقا للجوانب القانونية والاقتصادية لنظام التأمين في كتابه "نظام التأمين" وكان في أصله بحثا قدمه لمؤتمر الاقتصاد الإسلامي بمكة المكرمة عام 1396هـ/ 1976م، كما كتب "الفعل الضار والضمان فيه"، وقدم لكتاب "مشروع قانون الأحوال الشخصية الموحد"، وقدم لكتاب والده النفيس "شرح القواعد الفقهية"، وكتب "الاجتهاد ودور الفقه في حل المشكلات".
وفي مجال فقه الأسرة كتب "أحكام المرأة في الفقه الإسلامي"، و"مشكلات أسرية وعلاجها على ضوء الشريعة الإسلامية والقانون"، كما كتب "الأحوال الشخصية".
وكان الزرقا مصدرا هاما للفتوى في العالم الإسلامي، فقد أصدر العديد من الفتاوى ذات الطابع الاجتهادي، وكان منهجه في الفتوى إصدارها كتابة لا مشافهة حتى لا ينسب إليه أحد فتوى لم يقل بها. وقد قام تلميذه "مجد مكي" بجمع هذه الفتاوى في كتاب "فتاوى مصطفى الزرقا" جمع فيه فتاواه في الدوريات المختلفة، وقدم للكتاب الشيخ يوسف القرضاوي، ولقيت هذه الفتاوى استحسانا من أهل العلم.
ولم تقتصر مؤلفات مصطفى الزرقا على الجوانب الفقهية والقانونية، بل امتدت لمجالات أدبية ولغوية، وكان للزرقا مواهبه الأدبية منذ صغره، وقد جمع كثير من شعره في ديوان أسماه "قوس قزح"، إلا أن اهتمامه الفقهي والقانوني طغى على سائر الجوانب فكانت مدرسته الفقهية وما تزال علامة فارقة في تاريخ الفقه المعاصر.
المصادر:
- المستشار عبدالله العقيل: العلامة مصطفى الزرقاء.. الفقيه المجدد، مجلة المجتمع، العدد: 1694، 25 من صفر 1427هـ/ 25-3-2006م.
- عبد الرحمن حللي: منطلقات التجديد في فقه الشيخ مصطفى الزرقا، بحث مقدم لندوة جهود علماء حلب في العلوم الإسلامية، حلب: معهد التراث العلمي، صفر 1428هـ/ فبراير 2007م.
- مجد مكي: شخصيات وأفكار: مصطفى الزرقا، علي الطنطاوي، عبد العزيز بن باز وآخرون، جدة: دار الراية للتنمية الفكرية، 1425هـ/2004م.
- محمد خير رمضان يوسف: معجم المؤلفين المعاصرين، الرياض: مطبوعات مكتبة الملك فهد الوطنية، السلسلة الثالثة، 1425هـ/ 2004م، الجزء الثاني، ص 771.
الهدف من انشاء موقع الدرر السنية بناءُ أضخمِ قاعدة بيانات إلكترونيَّة شاملة لميراث الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم بمفهومه الشَّامل، وتيسيرُ الوصول إليها من خلال التِّقنيات الحديثة.
ردحذفالموسوعة الحديثية