الثلاثاء، 29 أبريل 2008

المواطنة متعددة الثقافات بديلا للإسلاموفوبيا

بقلم: أمل خيري
في أعقاب الضجة التي أثارتها الكلمة التي ألقاها روان ويليام أسقف كنيسة كانتربري (الزعيم الروحي للكنيسة الإنجيلية البريطانية الرسمية)، والتي دعا فيها إلى أن تطبيق الشريعة الإسلامية في بريطانيا أمر حتمي في ضوء حقيقة وجود ما لا يقل عن عشرة محاكم شرعية تطبق مبادئ الشريعة الإسلامية بين المسلمين على الأقل في مسائل الأحوال الشخصية، فقد استمرت المناقشات المكثفة والجدال القائم في وسائل الإعلام وتعددت الرؤى والاتجاهات سواء المؤيدة أو المعارضة للأسقف ورؤيته.
Image
البروفيسور طارق مودود
وفي هذا الإطار قدم البروفيسير طارق مودود (الأستاذ في علم الاجتماع والسياسة بجامعة بريستول البريطانية ومؤسس مركز دراسات الأعراق والمواطنة) دراسته تعقيبا على ما أثاره روان ويليامز والجدال الذي أثير حول كلمته التي ألقاها في محكمة العدل الملكية بلندن عن القانون المدني والديني، حيث حاول مودود مناقشة هذه القضية من منظور ما يسمى "بالمواطنة متعددة الثقافات" باعتبار أن هذا المفهوم يتيح الفهم الدقيق للعلاقة بين الأفكار العلمانية والدينية في الحياة المدنية في المجتمع البريطاني.
عودة للإسلاموفوبيا
فمن خلال المعالجة المتأنية لما أبداه روان ويليامز حول رؤيته في ضرورة السعي نحو تطبيق جزئي للشريعة الإسلامية في المجتمع البريطاني نجد أن الواقع يفرض نفسه في المحاكم الشرعية الموجودة على أرض الواقع والتي تطبق مبادئ الشريعة الإسلامية خاصة في مسائل الأحوال الشخصية، مثل أحوال الأسرة والزواج والطلاق؛ لذا فإن السؤال المهم يدور حول علاقة هذه المحاكم والقوانين الشرعية بالقانون الأساسي للمملكة المتحدة.
لكن الضجة التي أثيرت ليست بسبب مسألة الاعتراف بحقوق الأقليات، ولكنها للأسف ارتبطت في الأذهان بالشكوك والأحكام المسبقة لدى البعض في أوروبا بشكل عام -وبريطانيا على وجه الخصوص- حول تطرف المسلمين أو وصمهم بالإرهاب، والنظر للشريعة الإسلامية على أنها مرادفة للإرهاب أو ما أطلق عليه الإسلاموفوبيا.
لذا نجد البعض يقدم بدائل غير واقعية لمكافحة الإسلام أو مناهضة الشريعة الإسلامية، مثل الرؤية التي طرحها دافيد هايز في أعقاب الهجمات الإرهابية في لندن في السابع من يوليو عام 2005، حيث أكد أن بريطانيا الآن قد دخلت في مرحلة جديدة يجب أن تختار فيها بين "التعددية الثقافية الراديكالية" وبين "العلمانية الراديكالية"، لكن هذه الخيارات غير واقعية على الإطلاق وليست بالفعل هي البدائل الوحيدة المطروحة، فهذان الخياران ينكران واقعا بالغ التعقيد، وينكران العلاقة بين المواطنة والاعتراف بالتعدد الثقافي داخل المجتمع في ضوء حقيقة أن احترام ديناميات الجماعات والهويات الذاتية لكل طائفة يمثل جوهر المواطنة الحقيقية.
المواطنة متعددة الثقافات
وتقوم فكرة "المواطنة متعددة الثقافات" التي يطرحها البروفيسير طارق مودود على حقيقة أن لكل مواطن في المجتمع حقوقا فردية باعتباره فردا وليس باعتباره جزءا من جماعة معينة، فالمواطنة ليست هوية أحادية منفصلة بشكل تام عن الهويات الأخرى، ومن حق كل جماعة أو طائفة داخل المجتمع أن يكون لها وجود في المجتمع المدني، وأن تعبر عن نفسها وعن رؤيتها للجميع، ولذلك فإن المواطنة عبارة عن حوار متواصل بين أطراف متعددة يسمح لكل طائفة بأن تتوافق أو تعدل من رؤية الطوائف الأخرى انطلاقا من منطق التعايش مع الآخرين.
فالمواطنة في أبسط معانيها تنطوي على حق مزدوج في أن يعرفك الآخرون، وأيضا حقك في الكفاح من أجل اعتراف الآخرين بك، ولذلك فإن المواطنة تتكون من مجموعة من الحقوق والممارسات للمشاركة الجماعية التي تعبر عن الوعي بالخصائص المشتركة بين الطوائف والأقليات جميعها داخل نفس الدولة، حتى إن تباينت فيما بينها فإن هناك مساحات مشتركة بين الجميع؛ لذا فإن التغيير لا يجب أن يتم من قبل الدولة أو الحكومة أو بقوة القانون، بل يجب أن يكون لأفراد المجتمع أنفسهم دور في الدفع تجاه التغيير بحشد قوى جماعات الضغط ومؤسسات المجتمع المدني.
فالمواطنة ليست قاصرة على الدولة وحدها، بل إنها تتوزع عبر المجتمع وتناسب النماذج الثقافية المتعددة داخل المجتمع، وتعبر عنها على نحو يخالف نظام الطوائف أو الملل الذي أحدثته الإدارة العثمانية إبان الخلافة العثمانية الذي كان يسمح لكل الطوائف والأقليات أن تعيش وفق مبادئ معتقداتها أو شرائعها، فهذه المواطنة تسعى للتجميع لا التفريق، وبالتالي تهيئ للجميع المساواة في إطار هذه المواطنة.
العلمانية والدين
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الإطار حول مدى التأثيرات المترتبة للمواطنة متعددة الثقافات على الجماعات الدينية؟ أو مدى علاقتها بالدين في ضوء أن العلمانية تعني فصل الدين عن المجتمع؟
لكننا لو نظرنا بالفعل لبريطانيا سنجد أنها تطبق نموذجا من العلمانية المعتدلة التي تتكيف مع الدين وتراعي وجود طوائف دينية متعددة، وهذا يتضح في عدة مجالات سواء في النظم الدستورية، أو في المدارس، أو في دعم الحكومة للقوى الدينية، أو في التشاور مع الجماعات الدينية المختلفة، وكل هذه الترتيبات تعكس ميراثا تاريخيا خاصا لبريطانيا.
وهذه العلاقة بين المواطنة متعددة الثقافات وبين الدولة من جهة وبين المجتمع المدني من جهة أخرى يساهم في تشكيل الهوية الوطنية البريطانية، مما يعني أن التركيز على التدابير القانونية وحدها لا يشكل بداية أو نهاية المواطنة متعددة الثقافات، ولذا فإن كل ما ذكره أسقف كانتربري حول تلمس الجوانب السمحة للشريعة الإسلامية وضرورة دمج بعض هذه القواعد في القانون الأساسي للمملكة المتحدة، كل هذا يعد من صميم مفهوم المواطنة متعددة الثقافات، فإذا كان هناك بالفعل بعض الأحوال المتعلقة بالمسلمين يصدر بشأنها أحكام قضائية في إطار المحاكم الشرعية، فإن على بريطانيا أن تضمن الاعتراف القانوني لهذه الأحكام تماما كما اعترفت منذ عقود طويلة للأقلية اليهودية بقانونية الأحكام التي تصدرها وفق مبادئ التوراة.
روان ويليامز
ومشكلة المحاكم الشرعية في بريطانيا أنها ليست لديها القوة القانونية الإلزامية لتطبيق الأحكام أو معاقبة الجناة، وهذا ما يجعلها تركز على مسائل الأحوال الشخصية فقط، والكثير أساء فهم روان ويليامز في إقراره بتطبيق الحدود مثل رجم الزناة أو قطع يد السارق أو تطبيق حد الردة، واعتبروا أن دعوته هذه من شأنها أن تذكي نزعات التطرف والإرهاب لدى المسلمين مما يدفع المجتمع البريطاني نحو منحدر خطير يعيد للأذهان ما فعلته حركة طالبان في أفغانستان.
لكن ما قصده ويليامز أن يوضح أن من حق المسلمين كطائفة في المجتمع البريطاني أن تطبق قوانينها وشريعتها تماما مثل أي طائفة أخرى، وهذا الدمج للشريعة الإسلامية يجب أن يتم بصورة تدريجية في القانون البريطاني.
أخلاقيات المواطنة
ويرى البروفيسير طارق مودود أن الأمر لا ينظر إليه فقط في سياق الحكمة الواقعية بل أيضا أنه يعد من صميم أخلاقيات ومبادئ المواطنة متعددة الثقافات التي يجب أن تسعى لاحتواء كل الجماعات المهمشة وتدير معها الحوار لتصل للفهم المتبادل.
ولا يجب النظر للشريعة الإسلامية على أنها شريعة جامدة لا تقبل التطور، ففي الإسلام يسمى إعمال العقل في النصوص والأحكام اجتهادا؛ ولذلك فالفقيه المسلم يعتبر مجتهدا لأنه يعمل عقله في الأحكام المستجدة ويحاول أن يجد لها قياسا على وقائع أخرى، ولتوضيح ذلك ننظر لموقف الإسلام على سبيل المثال من التدخين في ضوء حقيقة عدم وجود تدخين أو مدخنين في الفترة التي نزل فيها الوحي الإسلامي، فيكون التساؤل حول موقف المسلم من زراعة التبغ ومن بيعه وتداوله انتهاء بتناوله، كل هذا يدفع لضرورة إعمال العقل والاجتهاد في هذه الواقعة وقياسها على وقائع أخرى نستخلص منها علة الحكم وقواعد عامة يمكن تطبيقها على ما يستجد في المستقبل، وكل هذا يستلزم التفكير مليا في الوقائع المستجدة بل ربما يفتح الباب حتى لإعادة تفسير ما قد اعتبر لفترة طويلة مقررا وثابتا أو أخذ حكم التواتر.
بحثا عن الواقعية
لا بد من الاعتراف بأن هناك صعوبات تطبيقية عديدة لدمج الأحكام الشرعية الإسلامية في القانون البريطاني، ومن ذلك ضرورة تأهيل القضاة وتدريبهم على فهم الإسلام والشريعة وفي الوقت نفسه فهم خصائص المجتمع البريطاني وخصوصيته، ولذا يجب ألا يقترن تطبيق الشريعة الإسلامية في بريطانيا بأي ضغط شعبي أو دفع إجباري في هذا الاتجاه، بل يجب أن يتم ذلك بشكل متدرج، ويجب على الدولة أن تعي حقيقة وجود محاكم شرعية خاصة بالمسلمين، وحقيقة أن القضايا التي تعمل فيها هي مشاكل قائمة بالفعل، وأن المسلمين هم طائفة لها تواجدها الفعلي في المجتمع ولا بد من احتوائها والعمل على دمجها في مؤسسات المجتمع، وأن المعركة والمواجهة مع المسلمين غير ذات جدوى، والحل يكمن في الحوار وقدر أكبر من المساواة والمعاملة بالمثل التي تجعل للمسلمين نفس الحق في الحصول على الفرص والموارد التي تستمتع بها الطوائف الأخرى.
وبشكل خاص في مجال التعليم، فبريطانيا تزخر بالآلاف من المدارس الدينية سواء المسيحية أو اليهودية والتي حصلت على التمويل الحكومي وتساهم في تعليم حوالي ربع تلاميذ بريطانيا، لذا من حق المدارس الإسلامية أيضا أن تنشد الدخول في هذا المجال، وأن تتلقى الدعم بشكل متساو بالطوائف الدينية الأخرى، وتعد المطالبة بذلك من صميم المواطنة متعددة الثقافات.
مع التنبيه أن هذا الدمج لا يتم بشكل تلقائي، بل لا بد لهذه المدارس أن يتم التعليم فيها وفق منظومة التعليم البريطانية ككل من حيث المنهج الدراسي، ومن حيث ضرورة وجود معلمين أكفاء وتسهيلات تعليمية مناسبة، وأن تخضع هذه المدارس للإشراف الحكومي، وبعض المدارس الإسلامية الخاصة تخضع بالفعل لكل هذه المعايير ربما أكثر من مدارس أخرى، ورغم ذلك لا تتلقى الدعم الحكومي وتعتبر خارج المنظومة الوطنية.
كل هذا يدفع في اتجاه ضرورة دمج المسلمين في المؤسسات البريطانية ومنحهم نفس الحقوق التي تحصل عليها الطوائف الأخرى.
ويختتم البروفيسير طارق مودود دراسته باعتقاده أن ردود الأفعال المباشرة عقب ما طرحه روان ويليامز في أغلبها كانت غير متناسبة وعدائية؛ لكونها نابعة من مخاوف حول الإسلام وارتباطه بالإرهاب، وهذا من قبيل انغلاق العقل، ومن شأن أي نظرة عقلانية أن تدعم وتؤيد حصول المسلمين على حقوقهم ووقوفهم على قدم المساواة مع الطوائف الأخرى، فمن غير المعقول أن نطالب المسلمين بالاندماج والتجانس في مجتمع يشعرون فيه بالاضطهاد ويكونون فيه عرضة للهجوم المستمر، لذا فإن المستقبل المشترك يفرض التخلص من الإسلاموفوبيا والهستيريا التي تدور حولها إذا كنا ننشد تحقيق المواطنة المتعددة الثقافات، وهذا الاعتراف المتبادل بالحقوق من شأنه وحده أن يدعم الأمل في مستقبل آمن لكل الشعب البريطاني.

*المواطنة متعددة الثقافات ومعاداة الشريعة (Multicultural citizenship and the anti-sharia )، نشرعلى موقع أوبن ديموكراسي (Open Democracy ) بتاريخ 14/2/2008.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق