بقلم: أمل خيري.....
( ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نعمتي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلاسْلاَمَ دِيناً )
نزلت هذه الآية الكريمة في حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة في نفس اليوم الذي خطب فيه عليه الصلاة والسلام خطبة جامعة في موقف عرفة أرسى فيها قواعد الإسلام، وهدم مبادئ الجاهلية، وعظَّم حرمات المسلمين. خطب الناس وودعهم، بعد أن استقرَّ التشريع، وكمل الدين، وتمت النعمة، ورضي الله هذا الإسلام ديناً للإنسانية كلها.
لقد كانت خطبة الوداع لقاءً رائعا بين أمة ورسولها؛ كان لقاء توصية ووداع. توصيةَ رسول لأمته، لخص لهم فيه أحكام دينهم ومقاصده الأساسية في كلمة جامعة مانعة، خاطب بها صحابته والأجيال من بعدهم، بل خاطب البشرية عامة، بعد أن أدى الأمانة وبلَّغ الرسالة ونصح للأمة في أمر دينها ودنياها.
فلقد أرسى فيها مبادئ الرحمة والإنسانية، وأرسى دعائم السلم والسلام، وأقام أواصر المحبة والأخوة.
و إذا كان البعض يتغنى بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من شهر ديسمبر 1948 باعتباره أول إعلان يصدر عن هيئة عالمية يشتمل على بنود لإقرار حقوق الإنسان فإن هذا يعد من قبيل المغالطة فالمتأمل في خطبة الوداع التي ألقاها رسول البشرية منذ أكثر من أربعة عشر قرنا يجدها بمثابة الإعلان العالمي الأول لحقوق الإنسان.
الذي تحدد في عدة بنود منها :
1. حرمة سفك الدماء:
فالمبدأ الأول الذي أرساه الرسول الكريم في خطبته هو حرمة سفك الدماء بغير حق، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام: ( أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ) فقد نادى هذا النبي العظيم بحقوق الإنسان، وأنه لابد أن يكون محترمًا، له مكانته بين الناس.
و قد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه نظر إلى الكعبة وقال: "ما أعظمك، وما أشد حرمتك، والذي نفسي بيده، للمؤمن أشد حرمة عند الله منك" فأين أمة الإسلام اليوم من تطبيق هذا المبدأ، وقد أخذ بعضها برقاب بعض، وتسلط القوي فيها على الضعيف.
2. حرمة مال الإنسان:
فكما حرم سفك الدماء فقد حرم سلب المال بغير وجه حق فقال ( إنما المؤمنون إخوة و لا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه ) لذا حض على أداء الأمانات إلى أهلها فقد قال ( فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها ) كما أنه حرم استغلال الإنسان لحاجة و فقر أخيه فقال ( و إن كل ربا موضوع ) حيث كانت الربا من موبقات الجاهلية المتأصلة التي يستغل فيها الأغنياء حاجة الفقراء.
كما انه حرم حرمان الوارث من نصيبه فقال ( أيها الناس إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ) و حفظا لحقوق الوارثين منع الوصية بأكثر من الثلث أو لمستحق للميراث ( و لا تجوز لوارث وصية و لا تجوز وصية في أكثر من الثلث )
3. لا محاباة و لا تفضيل:
فقد كان رسول الله صريحا في عباراته التي تقطع على المتشككين فكرهم حين يعتقد البعض أن الرسول الكريم يستثني أقاربه من التكليفات الإلهية بل انه بلغ قمة النقاء و العدل حين بدأ بأقاربه و ذوي رحمه فقال ( إن ربا الجاهلية موضوع وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب ، وإن دماء الجاهلية موضوع، وإن أول دم أبدأ أضع دم عامر ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب).
4. و لكم في القصاص حياة:
فقد عالجت الخطبة قضية خطيرة ألا و هي حفظ النفوس وصيانة الدماء من خلال حكم القصاص في النفس والجراحات، و الذي كان من حكمه التشريعية: زجر المجرمين عن العدوان.
وقد عجزت الأمم المعاصرة بتقدمها وتقنية وسائلها أن توقف سيل الجرائم، وإزهاق النفوس، بل إننا نرى قرى بأكملها في صعيد مصر تتفشى فيها عادة مذمومة و هي الأخذ بالثأر ولكن الرسول قد حسم الأمر بالقصاص العادل وفق الآية الكريمة: (وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يا أولي الألباب). إن في القصاص حياة حين يكفُّ من يَهمُّ بالجريمة عن الإجرام، وفي القصاص حياةٌ حين تشفى صدور أولياء القتيل من الثأر الذي لم يكن يقف عند حدٍّ لا في القديم ولا في الحديث. ثأرٌ مثيرٌ للأحقاد العائلية، والعصبيات القبلية، يتوارثه الأجيال جيلاً بعد جيلٍ، لا تكفُّ معه الدماء عن المسيل.
ويأتي حسمٌ عمليٌّ ومباشرة تطبيقية من النبي في هذا الموقف العظيم، وفي إلغاء حكم جاهلي في مسألة الثأر كما رأينا أنه بدأ بوضع دم ابن ربيعة بن الحارث.
كما أنه فرق في الخطبة بين القتل العمد و القتل الخطأ ووضح لكل منهما حكمه فقال ( و العمد قود و شبه العمد ما قتل بالعصا و الحجر و فيه مائة بعير فمن زاد فهو من أهل الجاهلية )
و حذر من الانقياد وراء الشيطان الذي يريد إيقاع العداوة و البغضاء بين المسلمين فقال ( ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم ) لذا حذر من الانقياد وراء الفتن فقال ( فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض )
5. إعلان حقوق المرأة:
فقد أعلن فيها حقوق المرأة، وأنها إنسانة لها شأنها في المجتمع، فهي تمثل نصف الأمة، ثم هي تلد النصف الآخر، فهي أمة كاملة.
ففي خطبته صلى الله عليه وسلم كانت وصيته بالنساء خيرًا ( واستوصوا بالنساء خيرًا) ما أروعها من وصية، وما أحرى بالإنسانية اليوم أن تلتزم بها وتهتدي بهديها، بعد أن أذاقت المرأة أشد العذاب - تحت شعار حرية المرأة - ودفعت بها إلى مهاوي الذل والرذيلة، وجردتها من كل معاني الكرامة والشرف، تحت شعارات مزيفة، لا تمت إلى الحقيقة بصلة.
فلقد جهل أصحاب تلك الشعارات بل تجاهلوا الفرق بين كرامة المرأة وحقوقها الطبيعية التي كفلها لها شرع الله، وما نادوا به من شعارات تطالب بحرية المرأة.
فهي كإنسانة لا تفترق عن الرجل و في الحقوق أيضا (أيها الناس، إن لكم على نسائكم حقًّا، ولهن عليكم حقًّا، لكم عليهن ألا يُوطئن فرُشكم أحدًا تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة)
ثم كان الأمر بالترفق بهن و القضاء على كل أشكال العنف و القهر التي كانت تمارس ضد المرأة ( فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربًا غير مبرِّح ) . فإن إصلاح عوج المرأة راجع إلى زوجها؛ ليمنع العوج والنشوز، وليعيد الاستقرار إلى جوانب البيت في معالجة داخلية.
ثم حدد حقوق الزوجة على زوجها في وجوب الإنفاق عليها و كسوتها مع معاملتها بالمعروف ( فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عندكم عوانٍ لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)
و المتأمل في مواريث العرب والجاهلية قبل الإسلام يجد أنها احتقرت المرأة ، بل لعلها رأت أنها شرٌ لابد منه. وإذا كانت مواريث الجاهلية قد جعلت المرأة في خلفية الصورة و نظرت إليها على أنها شؤم و عار، فإن مسلك التقدم المعاصر قد جعلها مصيدةً لكل الآثام، ولكنَّ هدي النبي الكريم أعطى كل ذي حق حقه، وحفظ لكلٍّ نصيبه.
كما انه حمى حق المرأة و الطفل و الأسرة كلها بتقريره قاعدة (الولد للفراش ) ليحافظ على الأسرة الطاهرة النقية المتماسكة.
6. القضاء على أشكال التمييز:
فقد أعلن الرسول الكريم أن الناس متساوون في التكاليف حقوقاً وواجباتٍ، لا فرق بين عربيٍ ولا عجمي إلا بالتقوى، لا تفاضل في نسب، ولا تمايز في لون، فالنزاعات العنصرية والنعرات الوطنية لا يعتد بها الإسلام فالكل سواسية أمام الله ففي الإسلام لا فرق بين أبيض، ولا أسود، ولا أحمر؛ و لا يوجد نسب، ولا مال، ولا جاه الكل سواء أمام الله ( أيها الناس إن ربكم واحد و إن أباكم واحد كلكم لآدم و آدم من تراب أكرمكم عند الله اتقاكم ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى )
و هو بهذا الإعلان قد سبق بنود إعلان الأمم المتحدة التي منها :
· يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق.
· لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين..........
فما الذي أضافه هذا الإعلان ؟ سوى انه حبر على ورق و أن الدول التي أقرت هذا الإعلان هي أكثر الدول انتهاكا لأبسط حقوق الإنسان أما الرسول الكريم فهو الذي أعلن حقوق الإنسان و احترمها و طبقها حتى على ذوي رحمه .
و بالفعل كانت خطبة الوداع أول إعلان و أول ميثاق عالمي لحقوق الإنسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق