يحظى وهبة الزحيلي بمكانة علمية متميزة على مستوى العالم الإسلامي تشهد لها كتاباته ودراساته المنتشرة وحضوره البارز في المحافل الإسلامية الدولية وعضويته للعديد من المجامع والبحوث الإسلامية التي تبرز دوره الرائد في مجال الفقه والشريعة والتفسير، وجهوده ومسيرته الجليلة في ميدان التربية والتعليم والعلوم.
النشأة والتكوين
ولد وهبة الزحيلي يوم 28 شوال 1350هـ/6 من مارس 1932م ببلدة "دير عطية" في القلمون التي تتبع منطقة النبك في محافظة ريف دمشق لوالدين كريمين اشتهرا بالصلاح والتقوى.
كان والده الحاج مصطفى يعمل بالزراعة والتجارة كما كان حافظا لكتاب الله تعالى مكثرا من تلاوته شديد التمسك بالسنة النبوية المطهرة ذا همة عالية، وكان رحمه الله يديم توجيه أبنائه لمتابعة التحصيل العلمي خصوصا في إطار الدراسات الإسلامية الفقهية. وفي هذه البيئة الطيبة نشأ الزحيلي فحفظ القرآن الكريم عند امرأة صالحة حافظة في أحد الكتاتيب في مدة يسيرة، وأتقن تجويده.
ثم التحق بالمرحلة الابتدائية بنفس بلدته، بعدها رحل إلى دمشق وهو في الرابعة عشرة من عمره ليتابع دراسته الإعدادية والثانوية بالكلية الشرعية التي كانت تمثل المعهد الرسمي الوحيد على مستوى القطر السوري والذي يدرس العلوم الشرعية، وتخرج فيها عام 1371هـ/1952م وحصل على تقدير امتياز وكان ترتيبه الأول على جميع المتقدمين من دمشق وحلب وغيرها.
وبعد حصوله على شهادة الثانوية توجه إلى مصر لمتابعة مسيرته التعليمية والعلمية فالتحق بعدد من الكليات والجامعات في آن واحد، فحصل على الشهادة العالية في الشريعة الإسلامية من كلية الشريعة بجامعة الأزهر عام 1375هـ/1956م وكان ترتيبه الأول على جميع المتقدمين، كما نال إجازة التخصص بالتدريس من كلية اللغة العربية بالأزهر عام 1376هـ/1957م، وفي نفس العام حصل على ليسانس الحقوق من جامعة عين شمس، وبذلك يكون قد حصل ثلاث شهادات جامعية خلال خمس سنوات فقط ومن جامعتين مختلفتين في التوجه والمنهج.
ثم واصل الزحيلي دراسته العليا في كلية الحقوق جامعة القاهرة فنال درجة الماجستير في الشريعة الإسلامية عام 1378هـ/1959م وكان موضوع رسالته "الذرائع في السياسة الشرعية والفقه الإسلامي".
وبعدها حصل على درجة الدكتوراه في 20 رمضان 1382هـ/13 من فبراير عام 1963م تحت إشراف الدكتور محمد سلام مدكور وتألفت لجنة المناقشة من الشيخ الفقيه محمد أبو زهرة والدكتور محمد حافظ غانم، وقد منحته اللجنة بالإجماع مرتبة الشرف الأولى وأوصت بتبادل الرسالة مع الجامعات الأجنبية والتي كانت تحمل عنوان "آثار الحرب في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة".
ومن خلال تتبع مسيرة الزحيلي العلمية نلحظ تفوقه في الدراسة في جميع المراحل وشدة تعلقه بدروسه، كما عرف عنه شغفه بالقراءة، فكان لا يضيع دقيقة واحدة في مراحل دراسته من غير قراءة وتحصيل ومطالعة.
مسيرته العلمية
تتلمذ الزحيلي على يد خيرة من علماء الشام ومصر، فمن أساتذته في الشام الشيخ هاشم الخطيب إمام جامع دمشق، والشيخ عبد الرازق الحمصي مفتي سورية الأسبق، والشيخ محمود ياسين، والشيخ حسن الشطي، والشيخ حسن حبنكة، والشيخ صالح فرفور مؤسس جمعية الفتح الإسلامي، والشيخ لطفي الفيومي وغيرهم من علماء سورية.
وفي مصر تتلمذ على يد علم عصره الإمام محمد أبو زهرة، والفقيه المجدد الشيخ محمود شلتوت، والدكتور عبد الرحمن تاج، والشيخ عيسى منون، والشيخ علي الخفيف وغيرهم من علماء وشيوخ مصر.
كما تأثر الزحيلي بكتابات الأديب الإسلامي عبد الرحمن عزام، والداعية الإسلامي أبي الحسن الندوي وخاصة كتابه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين".
وبعد حصوله على الدكتوراة عين مدرسا في كلية الشريعة جامعة دمشق بتاريخ 4 ربيع الأول 1383هـ/25–7–1963م ثم ترقى إلى درجة أستاذ مساعد عام 1389هـ/1969م ثم أستاذ عام 1395هـ/1975م.
كما قام بالتدريس كأستاذ زائر في العديد من الجامعات العربية، ككلية الشريعة والقانون وكلية الآداب بجامعة بنغازي الليبية بين عامي 1392/1394هـ- 1972/1974م، وجامعة الإمارات بين عامي 1404/1409هـ - 1984/1989م، والمركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب بالرياض عام 1413هـ/1992م، وقسم الشريعة الإسلامية بجامعتي أم درمان والخرطوم عام 1420هـ/2000م.
وبالإضافة للتدريس الجامعي فقد أشرف على عدد كبير من رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراة في أكثر من جامعة وناقش العشرات من الرسائل التي بلغت ما يقارب الثمانين.
العالم الريادي
لم يقتصر نشاط الزحيلي على التدريس في الجامعة بل قدم الخطابة والدروس في المساجد بشكل غير منتظم منذ عام 1369هـ/1950م، وهو يلقي دروسا في الفقه بمسجد العثمان بدمشق، إضافة إلى أحاديثه التي تبث عبر الإذاعة السورية في التفسير والقصص القرآني والقرآن والحياة، كما أن له أحاديث تليفزيونية في القنوات الفضائية.
وعلى مستوى المناصب الإدارية تدرج الزحيلي من وكيل لكلية الشريعة بدمشق عام 1387هـ/1967م ثم تولى العمادة بالإنابة حتى عام 1389هـ/1969م وفي هذه الفترة عمل على تعديل مناهج الكلية وأصدر دليلا تعريفيا بها.
وفي جامعة الإمارات عين رئيسا لقسم الشريعة من عام 1405هـ/1985م ثم عميدا بالإنابة حتى 1409هـ/1989م، وفي هذه الفترة قام بوضع خطة الدراسة في القسم وأصدر مجلة الشريعة والقانون وظل رئيسا للجنة الثقافية العليا ولجنة المخطوطات بالجامعة حتى نهاية مدة إعارته.
أما عن مناصبه الحالية فهي أكثر من أن تعد، فعلى سبيل المثال يشغل حاليا رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه بجامعة دمشق منذ عام 1409هـ/1989م، ورئيس مجلس إدارة مدرسة الشيخ عبد القادر القصاب بدير عطية.
ونظرا لريادة الدكتور الزحيلي ومكانته العلمية في العالم الإسلامي فقد اعتمد عضوا ومقوما في عدة مجلات إسلامية والعديد من المجامع والهيئات، منها على سبيل المثال:
اعتمد مقوما لمجلة الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الكويت عام 1908هـ/1988م، وعضو الموسوعة العربية بدمشق، وعضو هيئة تحرير مجلة نهج الإسلام السورية، وعضوا خبيرا في المجامع الفقهية في مكة وجدة والهند وأمريكا والسودان، وعضو المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية في الأردن (مؤسسة آل البيت)، ورئيس قسم الدراسات الشرعية في المجلس الشرعي للمصارف الإسلامية في البحرين، ورئيس هيئة الرقابة الشرعية لشركة المضاربة والمقاصة الإسلامية في البحرين، وعضو مجلس الإفتاء الأعلى السوري وأيضا لجنة البحوث الإسلامية بوزارة الأوقاف، وعضو الهيئة الاستشارية لموسوعة دار الفكر للحضارة الإسلامية، وعضو لجنة تقويم برنامج الماجستير في الفقه المقارن وأصول الفقه بكلية الشريعة بالكويت، كما عمل رئيسا للجنة الثقافية العليا ولجنة المخطوطات بجامعة الإمارات.
كما شارك الزحيلي فيما يزيد عن مائة وخمسين فعالية دولية سواء بالمؤتمرات أو الندوات أو الأسابيع الإسلامية أو الملتقيات الفكرية، مشاركة فاعلة بتقديم البحوث الفقهية المعاصرة، ومن بين هذه المؤتمرات:
§ ندوات هيئة الزكاة المعاصرة في الكويت والقاهرة.
§ ندوة الفقه الإسلامي بسلطنة عمان عام 1908هـ/1988م.
§ ندوة من المجلس البابوي في الفاتيكان عن "الإيمان والثبات والتعليم الديني المعاصر".
§ أسبوع الفقه الإسلامي بالرياض عام 1397هـ/1977م.
§ المؤتمر الثاني للهيئات الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية بالبحرين 1422هـ/2002م.
§ المؤتمر الدولي للتعايش والسلام الدولي في لواء القرآن إندونيسيا 1421هـ/2001م.
§ دورات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي كلها.
الفقيه المبدع
يتسم الزحيلي بغزارة إنتاجه الفكري الذي يقارب 500 مصنفا من كتاب وبحث ومقال، تتميز بحسن العرض والترتيب والأسلوب التعبيري المبسط والذي يدل على كثرة اطلاعه وتذوقه الأدب منذ صباه الباكر. فقد بدأ الزحيلي في نظم الشعر في المرحلة الثانوية ثم تخلى عنه لهيمنته على المشاعر وهو ما يجعله يترك التوسع في العلوم الشرعية التي أحبها، لكن ذلك لم يحل بينه وبين المطالعات الأدبية التي كان لها أقوى الأثر في كتاباته وإبداعاته.
وللزحيلي العديد من المؤلفات التي تنوعت ما بين مؤلفات علمية متخصصة، وتحقيقات وتخريجات لكتب التراث، إضافة إلى الأبحاث الموسوعية المقدمة للمؤتمرات والمقالات والفتاوى.
ففي مجال التأليف العلمي كتب الزحيلي في العديد من المجالات: ففي الفقه له عدة كتب من بينها "آثار الحرب في الفقه الإسلامي"، وكان أطروحته للدكتوراة، وقد حاول فيه بيان الحق فيما يتصل بالجهاد في الإسلام ليزيل مخاوف الغرب تجاهه، وقد اتبع منهج المقارنة بين المذاهب الإسلامية المختلفة قاصدا إظهار سمو الشريعة في تحقيق مكارم الأخلاق.
ومن كتبه أيضا في الفقه "أصول الفقه الإسلامي" و" تجديد الفقه الإسلامي" و"أصول التقريب بين المذاهب الإسلامية"، والموسوعات الثلاث في الفقه الإسلامي وأدلته في 11 مجلدا، وهذه الموسوعة تمثل ذروة عطاء الزحيلي في مجال الفقه الإسلامي؛ فقد قدمت الأحكام والآراء في مختلف المذاهب وفق خطة منهجية متميزة، ولم تكن مقصورة على الآراء الفقهية وإنما أضافت إليها طائفة من القوانين الحديثة وبخاصة في مجال الأحوال الشخصية. كما أنها أضافت فهرسا أبجديا شاملا لكل المسائل والقضايا التي اشتملت عليها الموسوعة، وهذا الفهرس ييسر للقارئ أن يضع يده على ما يريد من المسائل دون مشقة أو عناء في البحث، ولا سيما إذا لم يكن من أهل الاختصاص في الدراسات الفقهية.
المفسر الموسوعي
وفي مجال القرآن الكريم وعلومه له "التفسير المنير للقرآن الكريم" في 16 مجلدا، وهذا التفسير المميز جاء في أسلوب تعليمي مبسط العبارة واضح الأسلوب، وهو لا يركز في تفسيره على جانب دون آخر من المعاني التي يزخر بها كتاب الله عز وجل، بل يعطي الجوانب كلها حظها من الدراسة والبيان، على أن اختصاصه الفقهي هو الذي يبدو أكثر بروزا وشمولا، على الرغم من عنايته المتميزة بالجوانب الأخرى، وقد أخذ هذا الكتاب موقعا متميزا في المكتبة الإسلامية واستحق عن جدارة جائزة أحسن كتاب في العلوم الإسلامية عام 1995م من الجمهورية الإيرانية، وقد ترجم الكتاب إلى التركية والفارسية. وله أيضا "التفسير الوجيز" و"التفسير الوسيط" وغيرها من التفاسير.
وفي مجال الدراسات الإسلامية له العديد من الكتب مثل "الإسلام والإيمان والإحسان" و"الدعوة على منهاج النبوة" و"الأسرة المسلمة في العالم المعاصر" وغيرها.
وفي حقل السنة النبوية له كتب منها "السنة النبوية الشريفة حقيقتها ومكانتها عند المسلمين" و"فقه السنة النبوية".
أما في العقيدة الإسلامية فله كتاب "الإيمان بالقضاء والقدر 91 سؤالا و91جوابا" و"أصول مقارنة أديان".
وفي مجال العناية بالتراث قام الزحيلي بتحقيق وتخريج العديد من كتب التراث مثل تخريج أحاديث "تحفة الفقهاء" للسمرقندي، و"جامع العلوم الحكم" لابن رجب و"طريق الهجرتين وباب السعادتين" لابن قيم الجوزية وغيرها من كتب التراث.
كما أن له العديد من الأبحاث الموسوعية والتي من أشهرها "الدعوة الإسلامية: الوسيلة، المنهج، الهدف"، و"أحكام الحرب وموجباتها وآثارها"، و"الشورى والإيمان وقضايا الشباب"، و"فلسفة العقوبة في الإسلام"، و"مجالات العلاقات الدولية في الإسلام".
وشارك الزحيلي بالعديد من المقالات المنشورة في المجلات الإسلامية مثل "الوعي الإسلامي" و"حضارة الإسلام" و"نهج الإسلام" و"منار الإسلام" و"العالم" وغيرها.
جوائز وأوسمة
كرمت دار الفكر بدمشق الزحيلي في الخامس من جمادى الآخرة 1424هـ/الثالث من أغسطس 2003م بحضور نخبة من المفكرين والباحثين والعلماء في حفلها التكريمي السنوي الرابع.
كما نال الزحيلي وسام العلوم والآداب والفنون الذهبي من الرئيس عمر البشير رئيس جمهورية السودان وذلك تقديرا لأعماله الجليلة في ميدان التربية والتعليم والعلوم، عام 1426هـ/2005م، وقد تم منحه الوسام في مجال الدراسات الإسلامية، كما نال جائزة رئيس الجمهورية السودانية التقديرية لنفس العام.
واختير الدكتور وهبة الزحيلي رئيسا لرابطة علماء بلاد الشام التي أعلن عن تأسيسها عام 1427هـ/2006م خلال المؤتمر الذي عقده علماء بلاد الشام في العاصمة الأردنية.
المراجع
1. بديع السيد اللحام. وهبة الزحيلي العالم الفقيه المفسر، دمشق: دار القلم، 1421هـ/2001م.
2. أحمد راتب حمروش. سيرة الدكتور وهبة الزحيلي العلمية والعملية، سلسلة علماء مكرمون، دمشق: دار الفكر، 1423هـ/2003م.
3. الموقع الإلكتروني للدكتور وهبة الزحيلي: http://www.zuhayli.net/index.htm
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق