ما أن أُعلنتْ نتيجة الاستفتاء السويسري بتأييد 57.5% من الناخبين السويسريين لصالح اقتراح حظر بناء مآذن جديدة في سويسرا، حتى انهالتْ بياناتُ الشجب والإدانة من علماء ومفكرين إسلاميين، وتحدَّث الكثير عن أسباب تزايد هذا الاتجاه اليميني المتطرف في بلد الحريات والحقوق، وقدم البعض مقترحاته لمواجهة هذه الأزمة.
والمتتبِّع لخطاب الدعاة والعلماء يلحظ تباينَ الخطاب الديني حول القضية على جميع الأصعدة، سواء من حيث تحديدُ أسباب هذه النتيجة، أو من حيث ما تمثِّله على مستقبل الإسلام وأهله، أو ما يترتب عليها من نتائجَ وتوقعاتٍ في المستقبل، كما اختلفتْ نبرات الخطاب الديني بخصوص دور المسلمين إزاء هذه الأزمة، وما الواجب فعله في مواجهة هذا الحظر.
البعض استنكر فكرة طرح الاستفتاء في حدِّ ذاته، واعتبرها خطوةً ستتبعها خطواتٌ أخرى على طريق الحد من الحريات الدينية ومحاربة الإسلام، فكما يقول الدكتور القرضاوي: "اليوم المآذن، وغدًا المساجد نفسها"، وعلى نفس المنوال تساءل الشيخ نبيل العوضي: إن كان ثمة ما يمنع من تَكرار استفتاءات مشابهة في المستقبل، سواء بخصوص السماح للمسلمات بلبس الحجاب، أو بالسماح لوجود حلقات تحفيظ القرآن، أو بجمع تبرعات للمسلمين، وغير ذلك؟
وهناك من اعتبر نتيجة هذا الاستفتاء دليلاً على أن سويسرا بدأتْ تظهر ما كانت تبطنه، وكشفتْ عن كذِب ما كانت تدَّعيه من كفالة الحرية الدينية لجميع المواطنين على أراضيها، فيأتي هذا الاستفتاءُ ليكشف الحقيقةَ لجميع من اعتقدوا طويلاً أن حوار الأديان والحضارات سيأتي يومًا بنتائجه المرجوة.
صليبية جديدة:
ومن حيث تحليلُ أسباب هذه النتيجة المخيِّبة لآمال المسلمين، تفاوت الخطابُ الديني، بدءًا من اعتبار هذا التصويت امتدادًا لسلسلة طويلة من الحقد الصليبي ضد الإسلام، وهو ما يمكن وضعه في إطار نظرية المؤامرة، وانتهاءً بإلقاء اللائمة على المسلمين أنفسهم بتقصيرهم في التعريف بالإسلام الصحيح.
فالدكتور جمال عبدالهادي اعتبر هذه النتيجةَ استكمالاً للمؤامرات الصليبية منذ بداية الحروب الصليبية على الشرق الإسلامي، وربط الشيخ سيد عسكر بين نجاح الصِّهْيَوْنية العالمية في تخويف الشعوب الغربية من الإسلام، ونجاحها في نشر مزاعم "معاداة السامية"، وجعلها تهمة تواجه كل من ينكر أو يشكك في محرقة اليهود.
من ناحية أخرى، اعتبر البعض أن ما حدث يعبِّر عن فشل المسلمين في استغلال وسائل الإعلام المختلفة للتعريف بدين الإسلام؛ مما جعل أغلبية الأوربيين لا يعرفون شيئًا عن الإسلام، إلا من خلال ما تروِّجه وسائلُ الإعلام الغربية التي تشوِّه الإسلام، كما أن الأقلية المسلمة في أوروبا ساهمتْ في نمو هذا العداء بعزلتها عن المجتمع وتشرذمها؛ بل إن جانبًا من الخطاب الديني رأى أن تطاول أوروبا على الإسلام وحظرها للرموز الإسلامية جاء نتيجة لجرائم صدرتْ عن شيوخ مسلمين صمتوا إزاء سوابق أوروبية مماثلة؛ بل وبعضهم باركها بحُجة أن هذا من حقِّهم.
تفاوت الخطاب الديني كذلك في تكييف أزمة المآذن هذه؛ فهناك من ركَّز على جوانبها السلبية، واعتبرها منافيةً لمواثيق حقوق الإنسان، وجريمة في حق المسلمين وإهانة، وهناك من نظر إليها نظرة إيجابية باعتبار أن هذا الحدثَ كشف للجميع زيفَ ما تدَّعيه سويسرا من حمايتها للحريات واحترام حقوق الإنسان، كما كشف عن مدى تأثير انتشار الإسلام في تلك البلاد؛ بل رأى البعض أن هذه الخطوة ربما تؤدي لانتشارٍ أكثر للإسلام، كما حدث في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
وفي خطوة استشرافية للمستقبل، تباين الخطاب الديني حول تقدير النتائج التي يمكن أن تترتب على هذه الأزمة؛ فهناك من رأى أنالمسألة ليستْ حظرَ بناءِ مئذنة في مسجد؛ وإنما المستهدَف هو الإسلام ذاته، ليس في سويسرا وحدها؛ بل في الغرب كله، وبعض الخطابات رأتْ أن من شأن هذه الخطوة أن تعمِّق من مشاعر الكراهية والتمييز ضد المسلمين، وأنَّ تهاون المسلمين بشأن هذه القضية أو تساهلهم ربما يؤدِّي لتَكرار مثل تلك الحماقاتِ ضد المسلمين واستفزازهم وإهانتهم، فمفتي البوسنة نبَّه إلى أن هذا الاستفتاء قد يكون بمثابة بالون اختبار لقياس ردة فعل المسلمين، فإن كانت حازمة فلن يقدموا على تنفيذ نتيجة الاستفتاء؛ ولكنهم سيمررونه إن لم يجدوا ردًّا حاسمًا من العالم الإسلامي.
وفي حين هوَّن بعض العلماء من الحدث، مرددًا أن المئذنة ما هي إلا رمز، ولا تؤثِّر على وظيفة المسجد، ولا تنقص من صحة الصلاة، شدَّد البعض الآخر على أهمية معركة الرموز، واعتبرها أشد أنواع الحروب خطورة وتأثيرًا، وأن القضية أعمق من مجرد رمز؛ بدليل اختيار الملصقات التي صاحبتْ حملة الاستفتاء، والتي اشتملتْ على علم سويسرا تقف عليه امرأة منتقبة بلباس أسود مغطاة بالكامل، بينما يخترق العلمَ عدد كبير من المآذن التي بدتْ وكأنها صواريخ حربية، في حين أكَّد البيان الصادر عن الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين أن المآذن دليل على مكان عبادة، وليست لها دلالة سياسية، وهي رمز عمراني جميل، يدل على تسامح البلد وتنوعه الثقافي والحضاري.
شأن داخلي أم دولي؟:
تفاوَت الخطاب الديني بخصوص ما يجب على المسلمين داخل سويسرا القيامُ به، وما إن كان من الضروري التعامل مع الموقف كشأن محلي أم تدويل القضية ليشارك فيها المسلمون في العالم أجمع، فهناك من طلب منهم الانصياع لهذا القرار لو اتخذتْه الحكومة السويسرية، وهناك من نبَّه المسلمين إلى خطورة النتيجة التي تكشف عن خوف الشعب السويسري من الإسلام؛ ولذا فلا بد للمسلمين أن يغيِّروا من إستراتيجية الدفاع عن النفس التي يتبنَّونها، والخروج من العزلة والتهميش، إلى إستراتيجية أخرى تقوم على الانخراط الكامل في المجتمع والتفاعل مع قضاياه، وكثيرٌ من دعاة أوروبا رأَوا أن هذه النتيجةَ هي شأن داخلي، فلا داعي لتدويل القضية، وعلى المسلمين في الغرب حلُّ مشكلاتهم المحلية بأنفسهم، بينما اعتبر البعض الآخر أن على العالم الإسلامي بكامله أن يضطلع بدوره في التعريف بالإسلام الصحيح، ويشارك الأقلياتِ المسلمةَ في أوروبا همومَها، ويمدها بالعون المطلوب.
كما تراوحتْ حدة نبرات الخطاب الديني حول رد الفعل المطلوب من المسلمين في العالم إزاء هذه الأزمة، ما بين نبرات مهدِّئة، وأخرى محرِّضة، فكثير من الدعاة والعلماء رأوا أن التزام الهدوء مطلوب في هذا الموقف، وأن أفضل الطرق للتصدي لهذا الاستفتاء يكون باتِّباع الوسائل القانونية والسِّلمية، فلابد للمسلمين في العالم أجمع أن يعبِّروا عن رفضهم لنتيجة هذا الاستفتاء بشتى الطرق السلمية؛ مثل: إرسال رسائل تنديد إلى السفارات السويسرية في بلدان العالم، وتنظيم وقفات احتجاجية أمام السفارات السويسرية، وقيام منظمة المؤتمر الإسلامي بإطلاق حملة دولية في أوساط الأقليات المسلمة بالغرب خصوصًا؛ من أجل تِبيان خطورة هذا الاستفتاء على مستقبل التعايش بين المسلمين والمجتمعات الأخرى، كما أشار بيان الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
بعض توجيهات الخطاب الديني ركَّزتْ على الجانب التنظيمي والأكاديمي،من ضرورة قيام هيئات علمية بإعداد مؤتمرات إسلامية لدراسة ظاهرة تنامي العداء الغربي ضد الإسلام، ووضع حلول لمواجهة هذه الظاهرة، شرطَ أن يسبق هذه المؤتمراتِ تجهيزُ دراسات حديثة ودقيقة عن مظاهر العداء المتنامي في الغرب ضد المسلمين وأسبابه، ومدى تأثير أجهزة الإعلام فيه، ثم على أساسها توضع التوصيات والحلول العملية، وتلزم الأمَّة - شعوبًا وحكومات - بقراراتها.
بينما دعا البعض لوقف حوار الحضارات، معتبرًا أن مظاهرات الاحتجاج السلمية، أو الوقوف أمام السفارات، أو حتى حرق العلم السويسري، وغير ذلك من التصرفات - لن يؤثِّر في شعوب أوروبا التي تحلم بحروبها الصليبية ضد الإسلام، وأن مهزلة حوار الحضارات يجب أن تنتهي ما دامت أنها لم تثمر على مدى السنين الطويلة السابقة سوى ازدياد مشاعر الكراهية ضد المسلمين، ولكن في نفس الوقت هناك من أكَّد على ضرورة استمرار حوار الحضارات والمضي قدمًا في إجراءاته؛ لأنها ستؤدي حتمًا لنتائجَ إيجابيةٍ على المدى البعيد، وأن هذه الحوارات من شأنها أن تساهم في تعريف الغرب بالإسلام، وبيان جوانبه المشرقة، وتصحيح الصورة المشوهة عنه؛ بل وتفنيد مزاعم اليمين المتطرف حول ما يثيرونه من مخاوف من انتشار الإسلام في أوروبا، والتي يمكن أن تصل لتطبيق الشريعة الإسلامية هناك، وفرض الحجاب على النساء، وغير ذلك من أكاذيب يروجونها.
الرد الحضاري والاقتصادي:
البعض أكَّد على ضرورة الرد الحضاري باعتبار المئذنة رمزًا حضاريًّا، فيجب مواجهة هذا الحظر بصورة حضارية، فالدكتور طه جابر العلواني طرح فكرة مآذن لمساجد المسلمين تجمع بين الخلفية الإسلامية للمآذن، والأبعادِ الحضارية والقيم التي يتبناها المجتمع السويسري، والبعض حذَّر من فكرة الرد بالمثل، باعتبار أن المسلم يتعامل بروح وأخلاق وآداب الإسلام، وأنه إن كان ثمة ضرورة للمعاملة بالمثل، فتكون مع الحكومات نفسها، بإغلاق مؤسساتها الموجودة في الدول الإسلامية مثلاً، لا بحظر بناء الكنائس أو رفع الأجراس، وبعض العلماء أكَّد أن الإسلام لم ينتشر بمئذنة ولا مسبحة ولا عمامة؛ بل بمرونته ووسطيته وقيمه التي يسعى لنشرها؛ لذا فلا معنى لتضخيم الأمر وتهييج مشاعر المسلمين، مع الحذر من أن هذا التهييج هو ما تنتظره أوروبا بالفعل من المسلمين؛ لكي تدفع بالأقلية المسلمية للردود المتشنجة، ومن ثم استغلال هذه الردود في التأكيد على ضرورة القضاء على مظاهر الإسلام في أوروبا.
الحل الأخير الذي طرحه الخطابُ الديني تمثَّل في استخدام الأسلحة الاقتصادية، بدءًا من سحب الأموال الإسلامية من البنوك السويسرية، وانتهاء بمقاطعة المنتجات السويسرية، فبعض الدعاة دعا المسلمين للامتناع عن السفر لسويسرا للسياحة، وطرحت بدائل إسلامية للسياحة؛ كتركيا، وماليزيا، وغيرها من الدول الإسلامية التي تتمتع بطبيعة خلابة، ودعوة الأثرياء لسحب ودائعهم من البنوك السويسرية وإيداعها في بنوك إسلامية؛ للضغط على الحكومة السويسرية للعدول عن تنفيذ نتيجة الاستفتاء، كما ظهرتْ دعوات بمقاطعة السلع والمنتجات السويسرية أسوةً بحملة مقاطعة المنتجات الدنماركية في أعقاب أزمة الرسوم المسيئة، والتي كان لها دور في تراجُع الحكومة الدنماركية عن السماح بإعادة نشر الرسوم مرة أخرى، واعتبر بعض العلماء أن السلاح الاقتصادي أمرٌ مشروع؛ بل هو دور جهادي مؤثِّر من المسلمين لنصرة الإسلام وأهله.
والمتتبِّع لخطاب الدعاة والعلماء يلحظ تباينَ الخطاب الديني حول القضية على جميع الأصعدة، سواء من حيث تحديدُ أسباب هذه النتيجة، أو من حيث ما تمثِّله على مستقبل الإسلام وأهله، أو ما يترتب عليها من نتائجَ وتوقعاتٍ في المستقبل، كما اختلفتْ نبرات الخطاب الديني بخصوص دور المسلمين إزاء هذه الأزمة، وما الواجب فعله في مواجهة هذا الحظر.
البعض استنكر فكرة طرح الاستفتاء في حدِّ ذاته، واعتبرها خطوةً ستتبعها خطواتٌ أخرى على طريق الحد من الحريات الدينية ومحاربة الإسلام، فكما يقول الدكتور القرضاوي: "اليوم المآذن، وغدًا المساجد نفسها"، وعلى نفس المنوال تساءل الشيخ نبيل العوضي: إن كان ثمة ما يمنع من تَكرار استفتاءات مشابهة في المستقبل، سواء بخصوص السماح للمسلمات بلبس الحجاب، أو بالسماح لوجود حلقات تحفيظ القرآن، أو بجمع تبرعات للمسلمين، وغير ذلك؟
وهناك من اعتبر نتيجة هذا الاستفتاء دليلاً على أن سويسرا بدأتْ تظهر ما كانت تبطنه، وكشفتْ عن كذِب ما كانت تدَّعيه من كفالة الحرية الدينية لجميع المواطنين على أراضيها، فيأتي هذا الاستفتاءُ ليكشف الحقيقةَ لجميع من اعتقدوا طويلاً أن حوار الأديان والحضارات سيأتي يومًا بنتائجه المرجوة.
صليبية جديدة:
ومن حيث تحليلُ أسباب هذه النتيجة المخيِّبة لآمال المسلمين، تفاوت الخطابُ الديني، بدءًا من اعتبار هذا التصويت امتدادًا لسلسلة طويلة من الحقد الصليبي ضد الإسلام، وهو ما يمكن وضعه في إطار نظرية المؤامرة، وانتهاءً بإلقاء اللائمة على المسلمين أنفسهم بتقصيرهم في التعريف بالإسلام الصحيح.
فالدكتور جمال عبدالهادي اعتبر هذه النتيجةَ استكمالاً للمؤامرات الصليبية منذ بداية الحروب الصليبية على الشرق الإسلامي، وربط الشيخ سيد عسكر بين نجاح الصِّهْيَوْنية العالمية في تخويف الشعوب الغربية من الإسلام، ونجاحها في نشر مزاعم "معاداة السامية"، وجعلها تهمة تواجه كل من ينكر أو يشكك في محرقة اليهود.
من ناحية أخرى، اعتبر البعض أن ما حدث يعبِّر عن فشل المسلمين في استغلال وسائل الإعلام المختلفة للتعريف بدين الإسلام؛ مما جعل أغلبية الأوربيين لا يعرفون شيئًا عن الإسلام، إلا من خلال ما تروِّجه وسائلُ الإعلام الغربية التي تشوِّه الإسلام، كما أن الأقلية المسلمة في أوروبا ساهمتْ في نمو هذا العداء بعزلتها عن المجتمع وتشرذمها؛ بل إن جانبًا من الخطاب الديني رأى أن تطاول أوروبا على الإسلام وحظرها للرموز الإسلامية جاء نتيجة لجرائم صدرتْ عن شيوخ مسلمين صمتوا إزاء سوابق أوروبية مماثلة؛ بل وبعضهم باركها بحُجة أن هذا من حقِّهم.
تفاوت الخطاب الديني كذلك في تكييف أزمة المآذن هذه؛ فهناك من ركَّز على جوانبها السلبية، واعتبرها منافيةً لمواثيق حقوق الإنسان، وجريمة في حق المسلمين وإهانة، وهناك من نظر إليها نظرة إيجابية باعتبار أن هذا الحدثَ كشف للجميع زيفَ ما تدَّعيه سويسرا من حمايتها للحريات واحترام حقوق الإنسان، كما كشف عن مدى تأثير انتشار الإسلام في تلك البلاد؛ بل رأى البعض أن هذه الخطوة ربما تؤدي لانتشارٍ أكثر للإسلام، كما حدث في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
وفي خطوة استشرافية للمستقبل، تباين الخطاب الديني حول تقدير النتائج التي يمكن أن تترتب على هذه الأزمة؛ فهناك من رأى أنالمسألة ليستْ حظرَ بناءِ مئذنة في مسجد؛ وإنما المستهدَف هو الإسلام ذاته، ليس في سويسرا وحدها؛ بل في الغرب كله، وبعض الخطابات رأتْ أن من شأن هذه الخطوة أن تعمِّق من مشاعر الكراهية والتمييز ضد المسلمين، وأنَّ تهاون المسلمين بشأن هذه القضية أو تساهلهم ربما يؤدِّي لتَكرار مثل تلك الحماقاتِ ضد المسلمين واستفزازهم وإهانتهم، فمفتي البوسنة نبَّه إلى أن هذا الاستفتاء قد يكون بمثابة بالون اختبار لقياس ردة فعل المسلمين، فإن كانت حازمة فلن يقدموا على تنفيذ نتيجة الاستفتاء؛ ولكنهم سيمررونه إن لم يجدوا ردًّا حاسمًا من العالم الإسلامي.
وفي حين هوَّن بعض العلماء من الحدث، مرددًا أن المئذنة ما هي إلا رمز، ولا تؤثِّر على وظيفة المسجد، ولا تنقص من صحة الصلاة، شدَّد البعض الآخر على أهمية معركة الرموز، واعتبرها أشد أنواع الحروب خطورة وتأثيرًا، وأن القضية أعمق من مجرد رمز؛ بدليل اختيار الملصقات التي صاحبتْ حملة الاستفتاء، والتي اشتملتْ على علم سويسرا تقف عليه امرأة منتقبة بلباس أسود مغطاة بالكامل، بينما يخترق العلمَ عدد كبير من المآذن التي بدتْ وكأنها صواريخ حربية، في حين أكَّد البيان الصادر عن الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين أن المآذن دليل على مكان عبادة، وليست لها دلالة سياسية، وهي رمز عمراني جميل، يدل على تسامح البلد وتنوعه الثقافي والحضاري.
شأن داخلي أم دولي؟:
تفاوَت الخطاب الديني بخصوص ما يجب على المسلمين داخل سويسرا القيامُ به، وما إن كان من الضروري التعامل مع الموقف كشأن محلي أم تدويل القضية ليشارك فيها المسلمون في العالم أجمع، فهناك من طلب منهم الانصياع لهذا القرار لو اتخذتْه الحكومة السويسرية، وهناك من نبَّه المسلمين إلى خطورة النتيجة التي تكشف عن خوف الشعب السويسري من الإسلام؛ ولذا فلا بد للمسلمين أن يغيِّروا من إستراتيجية الدفاع عن النفس التي يتبنَّونها، والخروج من العزلة والتهميش، إلى إستراتيجية أخرى تقوم على الانخراط الكامل في المجتمع والتفاعل مع قضاياه، وكثيرٌ من دعاة أوروبا رأَوا أن هذه النتيجةَ هي شأن داخلي، فلا داعي لتدويل القضية، وعلى المسلمين في الغرب حلُّ مشكلاتهم المحلية بأنفسهم، بينما اعتبر البعض الآخر أن على العالم الإسلامي بكامله أن يضطلع بدوره في التعريف بالإسلام الصحيح، ويشارك الأقلياتِ المسلمةَ في أوروبا همومَها، ويمدها بالعون المطلوب.
كما تراوحتْ حدة نبرات الخطاب الديني حول رد الفعل المطلوب من المسلمين في العالم إزاء هذه الأزمة، ما بين نبرات مهدِّئة، وأخرى محرِّضة، فكثير من الدعاة والعلماء رأوا أن التزام الهدوء مطلوب في هذا الموقف، وأن أفضل الطرق للتصدي لهذا الاستفتاء يكون باتِّباع الوسائل القانونية والسِّلمية، فلابد للمسلمين في العالم أجمع أن يعبِّروا عن رفضهم لنتيجة هذا الاستفتاء بشتى الطرق السلمية؛ مثل: إرسال رسائل تنديد إلى السفارات السويسرية في بلدان العالم، وتنظيم وقفات احتجاجية أمام السفارات السويسرية، وقيام منظمة المؤتمر الإسلامي بإطلاق حملة دولية في أوساط الأقليات المسلمة بالغرب خصوصًا؛ من أجل تِبيان خطورة هذا الاستفتاء على مستقبل التعايش بين المسلمين والمجتمعات الأخرى، كما أشار بيان الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
بعض توجيهات الخطاب الديني ركَّزتْ على الجانب التنظيمي والأكاديمي،من ضرورة قيام هيئات علمية بإعداد مؤتمرات إسلامية لدراسة ظاهرة تنامي العداء الغربي ضد الإسلام، ووضع حلول لمواجهة هذه الظاهرة، شرطَ أن يسبق هذه المؤتمراتِ تجهيزُ دراسات حديثة ودقيقة عن مظاهر العداء المتنامي في الغرب ضد المسلمين وأسبابه، ومدى تأثير أجهزة الإعلام فيه، ثم على أساسها توضع التوصيات والحلول العملية، وتلزم الأمَّة - شعوبًا وحكومات - بقراراتها.
بينما دعا البعض لوقف حوار الحضارات، معتبرًا أن مظاهرات الاحتجاج السلمية، أو الوقوف أمام السفارات، أو حتى حرق العلم السويسري، وغير ذلك من التصرفات - لن يؤثِّر في شعوب أوروبا التي تحلم بحروبها الصليبية ضد الإسلام، وأن مهزلة حوار الحضارات يجب أن تنتهي ما دامت أنها لم تثمر على مدى السنين الطويلة السابقة سوى ازدياد مشاعر الكراهية ضد المسلمين، ولكن في نفس الوقت هناك من أكَّد على ضرورة استمرار حوار الحضارات والمضي قدمًا في إجراءاته؛ لأنها ستؤدي حتمًا لنتائجَ إيجابيةٍ على المدى البعيد، وأن هذه الحوارات من شأنها أن تساهم في تعريف الغرب بالإسلام، وبيان جوانبه المشرقة، وتصحيح الصورة المشوهة عنه؛ بل وتفنيد مزاعم اليمين المتطرف حول ما يثيرونه من مخاوف من انتشار الإسلام في أوروبا، والتي يمكن أن تصل لتطبيق الشريعة الإسلامية هناك، وفرض الحجاب على النساء، وغير ذلك من أكاذيب يروجونها.
الرد الحضاري والاقتصادي:
البعض أكَّد على ضرورة الرد الحضاري باعتبار المئذنة رمزًا حضاريًّا، فيجب مواجهة هذا الحظر بصورة حضارية، فالدكتور طه جابر العلواني طرح فكرة مآذن لمساجد المسلمين تجمع بين الخلفية الإسلامية للمآذن، والأبعادِ الحضارية والقيم التي يتبناها المجتمع السويسري، والبعض حذَّر من فكرة الرد بالمثل، باعتبار أن المسلم يتعامل بروح وأخلاق وآداب الإسلام، وأنه إن كان ثمة ضرورة للمعاملة بالمثل، فتكون مع الحكومات نفسها، بإغلاق مؤسساتها الموجودة في الدول الإسلامية مثلاً، لا بحظر بناء الكنائس أو رفع الأجراس، وبعض العلماء أكَّد أن الإسلام لم ينتشر بمئذنة ولا مسبحة ولا عمامة؛ بل بمرونته ووسطيته وقيمه التي يسعى لنشرها؛ لذا فلا معنى لتضخيم الأمر وتهييج مشاعر المسلمين، مع الحذر من أن هذا التهييج هو ما تنتظره أوروبا بالفعل من المسلمين؛ لكي تدفع بالأقلية المسلمية للردود المتشنجة، ومن ثم استغلال هذه الردود في التأكيد على ضرورة القضاء على مظاهر الإسلام في أوروبا.
الحل الأخير الذي طرحه الخطابُ الديني تمثَّل في استخدام الأسلحة الاقتصادية، بدءًا من سحب الأموال الإسلامية من البنوك السويسرية، وانتهاء بمقاطعة المنتجات السويسرية، فبعض الدعاة دعا المسلمين للامتناع عن السفر لسويسرا للسياحة، وطرحت بدائل إسلامية للسياحة؛ كتركيا، وماليزيا، وغيرها من الدول الإسلامية التي تتمتع بطبيعة خلابة، ودعوة الأثرياء لسحب ودائعهم من البنوك السويسرية وإيداعها في بنوك إسلامية؛ للضغط على الحكومة السويسرية للعدول عن تنفيذ نتيجة الاستفتاء، كما ظهرتْ دعوات بمقاطعة السلع والمنتجات السويسرية أسوةً بحملة مقاطعة المنتجات الدنماركية في أعقاب أزمة الرسوم المسيئة، والتي كان لها دور في تراجُع الحكومة الدنماركية عن السماح بإعادة نشر الرسوم مرة أخرى، واعتبر بعض العلماء أن السلاح الاقتصادي أمرٌ مشروع؛ بل هو دور جهادي مؤثِّر من المسلمين لنصرة الإسلام وأهله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق