الأحد، 6 مايو 2007

ما بعد النظام العالمي الجديد

جديد النظام العالمي الجديد**
ترجمة - أمل خيري
إسلام أون لاين الأحد. مايو. 6, 2007
Image
دانيال دريزنر
لا شك أن الأحادية والتفرد الأمريكي بالشئون العالمية قد أضر كثيرًا بالعلاقات الدولية، بل وأدخل العالم في أتون الحرب الكونية الثالثة التي بدأت مع احتلال كل من العراق وأفغانستان، كجزء مما عرف بالحرب الأمريكية على الإرهاب.
وقد قامت إستراتيجية الإدارة الأمريكية الحالية فيما عرف باسم "إستراتيجية بوش الكبرى" على ذلك التوسع الإمبراطوري الأمريكي في القرن الواحد والعشرين. بيد أن الفشل الأمريكي في احتواء الصراعات العالمية عبر هذه السياسة الأحادية وصعود قوى آخذة في النمو كالصين والهند قد حدا بالإدارة الأمريكية إلى ضرورة التفكير في إعادة تشكيل نمط سياستها الخارجية الأحادي النظرة، وإعادة تشكيل المؤسسات الدولية بحيث تراعي هذه القوى الجديدة.
حول هذا الموضوع كان مقال الكاتب "دانيال دريزنر" تحت عنوان "ما بعد النظام العالمي الجديد" أو "جديد النظام العالمي الجديد" The New New World Order والذي نشرته مجلة فورين آفيرز عدد مارس/ إبريل 2006، حيث يوضح أن المعطيات التي فرضها الواقع الدولي من تصاعد قوى ذات ثقل اقتصادي وسياسي متنام أصبحت محددات لا يمكن لأمريكا غض الطرف عنها. وفي سبيل بحث الولايات المتحدة عن مصالحها ربما تجد من الأفضل أن تتلاقى مصالحها مع مصالح هذه القوى المتنامية؛ لتعيد تشكيل النظام أحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب.
على أن محتوى المقال -كما سيأتي- يبين أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى تأسيس جديد لنظام متعدد الأقطاب بقدر ما تسعى إلى احتواء هذه القوى الصاعدة، وخاصة العملاقين الصيني والهندي.
من القطبية الأحادية إلى تعدد الأقطاب
لعقود طويلة على مدار القرن العشرين انحصرت قائمة الدول الكبرى في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي واليابان وشمال غرب أوروبا، إلا أن المشهد بالطبع اختلف اختلافًا جذريًّا بحلول القرن الحادي والعشرين، حيث فرضت الطفرة الاقتصادية الهائلة للعملاق الصيني والطفرة التكنولوجية للعملاق الهندي تحديًا هائلاً بالنسبة للمؤسسات والمنظمات الدولية التي ظلت لعقود طويلة ترسخ تحت الهيمنة الأمريكية.
وخلال عقد التسعينيات من القرن الماضي قدمت نهاية الحرب الباردة الفرصة للمؤسسات الدولية كي تعيد تكييف أوضاعها لتتلاءم مع هذه القوى الصاعدة. فاتفاقية "الجات" أصبحت منظمة التجارة العالمية، وحلف الناتو وسع من نطاق عضويته ليشمل أوروبا الشرقية والبلقان، إلا أن هذه الجهود وحدها لا تكفي، فالصين والهند إذا لم تجدا الترحيب المناسب في المؤسسات الدولية القائمة بالفعل، فإنهما قد تضطران للتفكير في إنشاء تحالفات خاصة بهما بعيدًا عن هذه المؤسسات.
وبحساب المعطيات الدولية الجديدة كان على الولايات المتحدة أن تتكيف مع هذه القوى الصاعدة، فحاولت واشنطن تدعيم تواجد هذه القوى الصاعدة في المنتديات والمحافل الدولية بداية من صندوق النقد الدولي، وانتهاءً بمنظمة الصحة العالمية في إطار محاولة جورج بوش الابن إعادة إحياء دعوة بوش الأب فيما أسماه "النظام العالمي الجديد"، ولكن في ثوب جديد يمكن أن نطلق عليه "ما بعد النظام العالمي الجديد".
وفي إطار جهود إدارة بوش لتعزيز الاتجاه الجديد كانت وزارة الدفاع الأمريكية أكثر الإدارات استجابةً لتغيرات ما بعد النظام العالمي الجديد. ففي أغسطس 2004 أعلن بوش عن ضرورة تخفيض 35% من القوات الأمريكية المنتشرة خارج الولايات المتحدة بحلول عام 2014 والتي تربو على 250.000 جندي.
وفي يناير 2006 أعلنت كوندوليزا رايس أن موقف واشنطن الحالي في السياسة الخارجية لا يعكس حقيقة القوى الصاعدة، فالممثلون الدبلوماسيون في دولة مثل ألمانيا ذات الـ82 مليون نسمة يتساوى في العدد مع مثيلهم في دولة مثل الهند البالغ تعداد سكانها بليون نسمة، وكبداية أعلنت رايس ضرورة انتقال 1000 مبعوث أمريكي من أوروبا إلى الهند والصين خلال عام ‏2007‏‏.
الصفقة الجديدة
وتمشيًا مع الأوضاع الجديدة اتخذت إدارة بوش سلسلة من الخطوات الرامية لتعزيز العلاقات الثنائية مع الصين والهند، فقد أعلن روبرت زوليك نائب وزير الخارجية في سبتمبر 2005 عن حاجة واشنطن لدفع الصين كي تكون شريكًا مسئولاً في النظام العالمي الجديد. وعبارة "الشريك المسئول" التي ترددت كثيرًا في تصريحات العديد من المسئولين الأمريكيين تجاه الصين أصبحت تعبيرًا واضحًا وصريحًا على سياسة إدارة الرئيس بوش الرسمية تجاه الصين.
وتلا ذلك عدة مبادرات، ففي خريف 2006 أطلقت واشنطن الحوار الإستراتيجي الاقتصادي الصيني/ الأمريكي والذي ترأسه وزير الخزانة الأمريكي هنري بولسون وتناول الحوار عددًا من القضايا المشتركة، مثل التعاون في مجال الطاقة وزيادة حجم التبادل النقدي، وامتد الحوار ليشمل قضايا دولية كالصراع في دارفور والعلاقات مع كوريا الشمالية.
أما على صعيد العلاقات مع الهند فقد أبدت واشنطن خلال التسعينيات اهتمامها بقضية الصراع الهندي - الباكستاني حول إقليم كشمير، وحاولت تهدئة أي أزمات نووية محتملة. وعلى الرغم من كون باكستان حليفًا معروفًا لواشنطن في الحرب على الإرهاب، فإن العلاقات الأمريكية مع الهند قد نشطت خلال الأعوام الخمسة الماضية. ففي نوفمبر 2006 أوفدت وزارة التجارة الأمريكية بعثة اقتصادية رفيعة المستوى إلى الهند بهدف توسيع الحوار التجاري بين الدولتين، وفي نفس العام تم عقد اتفاق ثنائي بشأن التعاون في مجال الطاقة النووية المدنية وهو ما يعني الاعتراف الضمني من جانب الولايات المتحدة بالهند كقوة نووية، وهذا الاتفاق يعزز التزام الهند بمنع انتشار برنامجها النووي المدني لدول أخرى، وإن أبقى على برامج الهند العسكرية خارج دائرة عمليات التفتيش التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وبالطبع قوبل هذا الاتفاق بانتقاد شديد باعتبار أنه يمثل تهديدًا لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، لكن إدارة بوش أكدت أن امتلاك الهند للسلاح النووي أصبح أمرًا واقعًا يصعب الفكاك منه، فالمارد النووي لا يمكن إيقافه ولا يوجد ثمة تهديد طالما أن الهند بلد ديمقراطي، وهذا ما أوضحته واشنطن في إستراتيجية الأمن القومي لعام 2006 التي أكدت أن "الهند الآن أصبحت متأهبة لتتحمل التزاماتها العالمية في التعاون مع الولايات المتحدة بأي طريقة مناسبة".
إعادة هندسة المنظمات الدولية
يرى بعض المراقبين أن جهود إدارة بوش في مجال إعادة تشكيل المنظمات الدولية لجعلها أكثر ملاءمة للقوى الصاعدة جاءت كنتيجة فرضها الواقع الفعلي. فعلى سبيل المثال أرغم تشكيل مجموعة الـ20 من كتلة البلدان النامية الولايات المتحدة على دعوة البرازيل والهند وجنوب إفريقيا إلى مفاوضات "الغرفة الخضراء" في سبتمبر 2003 خلال الاجتماع الوزاري لمنظمة التجارة العالمية في جولة الدوحة للمحادثات التجارية.
كذلك فإن الولايات المتحدة تشجع الصين على المشاركة بشكل دوري في اجتماعات مجموعة الـ7 المالية ومحافظي البنوك المركزية، وتهدف واشنطن من ذلك إلى الاعتراف بالأهمية المتزايدة للصين في عالم السياسة والاقتصاد؛ لتحصل في المقابل على اعتراف بكين أن سياساتها في سعر الصرف وتخفيض الاستهلاك المحلي تسهم في اختلال الاقتصاد العالمي.
أيضًا وبهدف إعطاء مزيد من النفوذ إلى الصين (وكذلك المكسيك وكوريا الجنوبية وتركيا)، فإن إدارة بوش دفعت جاهدة لتغيير حصص التصويت في صندوق النقد الدولي. ففي تصريح لصحيفة "نيويورك تايمز" في أغسطس 2006 أكد "تيموثي آدامز" وكيل الشئون الدولية لوزارة الخزانة على ضرورة "إعادة هندسة صندوق النقد الدولي ومنح الصين صوتًا أكبر لإعطائها شعورًا أكبر بالمسئولية داخل المؤسسة".
وفي اجتماع عقد في سنغافورة في خريف عام 2006، وافق صندوق النقد الدولي واللجنة المالية على تخصيص حصص لتعكس التحولات في ميزان القوة الاقتصادية، حيث أعلن "كلاي لويري" -مساعد وزير الخزانة للشئون الدولية- مجددًا موقف واشنطن: "لقد وصلنا إلى قناعة أنه إذا لم نتخذ إجراءات الاعتراف بالدور المتزايد للاقتصادات الناشئة، فسينخفض تأثير صندوق النقد الدولي وسنكون جميعًا في أسوأ حال".
وفي الوقت نفسه توجهت إدارة بوش نحو تعاون أكبر مع الدول الصاعدة على قضايا أخرى، وخاصة في مجال الطاقة والبيئة والتنمية المستديمة وانتشار الأسلحة النووية، حيث تعتمد واشنطن على بكين لإجبار حكومة بيونج يانج على التخلي عن برامجها النووية، وبالمثل اعتمدت على مساندة الهند لها في مواجهة برنامج إيران النووي.
تمرد الحليف الأوروبي
ويؤكد دريزنر في مقاله أنه على الرغم من الجهود المبذولة من واشنطن للتأكيد على هذه الإستراتيجية الجديدة، إلا أنها بالفعل تصطدم بحاجزين كبيرين:
الأول: يتمثل في ردود الفعل الأوروبية الرافضة للتخلي عن مركز الصدارة في المؤسسات الدولية الذي احتلته لعقود، ففرنسا وإنجلترا اللتان ظلتا أقوى حليفتين لواشنطن خلال القرن الماضي قبلتا بقواعد اللعبة القديمة نتيجة للاعتراف الأمريكي بقوتيهما، فقد حصلتا على مقعد دائم بمجلس الأمن، كما انتزعتا الموافقة على أن يكون المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي شخصية أوروبية، وبالفعل منحت أوروبا تمثيلا مساويا لأمريكا في اتفاقية الجات.
اليوم اختلف الأمر حيث ترمي إستراتيجية بوش الجديدة إلى إعادة تمثيل الدول في هذه المؤسسات تبعا لأوزانها النسبية الجديدة، وهذا بالطبع يعني زيادة تمثيل القوى الصاعدة على حساب القوى التي بدأت في التضاؤل، وقد ظهر هذا الاتجاه الرافض للسياسة الأمريكية الجديدة في سعي الاتحاد الأوروبي لإقامة تحالفات ثنائية.
الثاني: ينبع من داخل إدارة بوش نفسها، حيث أن الهيمنة الأمريكية على المؤسسات الدولية لعقود طويلة جعلت بعض المتشككين ينظرون لأي جهد مبذول من هذه الإدارة في إعادة كتابة قواعد اللعبة الدولية على أنه محاولة أخرى من واشنطن للتهرب من التزاماتها الدولية.
فقد أثار رد الفعل الأمريكي المبالغ فيه عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 انتقادات حادة لإدارة بوش، فتفشي حالة الفوضى في العراق والإخفاقات المتتالية لأمريكا في الحرب ضد الإرهاب كلها أمور ساهمت في زعزعة الثقة بتيار المحافظين الجدد.
الصديق القديم والصديق الجديد
إن الازدواجية في السياسة الخارجية لإدارة بوش ما زالت موجودة، فعلى سبيل المثال نجد إدارة بوش تذعن للمؤسسات الفعالة التي تحقق مصالحها مثل منظمة التجارة العالمية أو صندوق النقد الدولي، بينما تستخف بتلك الأخرى التي تسعى وفق معاييرها الخاصة وليس وفقا لأطماع الولايات المتحدة مثل باقي أجهزة الأمم المتحدة.
وهكذا فإن مصالح الولايات المتحدة تتأرجح ما بين مغازلة القوى الصاعدة وما بين الإبقاء على حلفائها الأساسيين، وما زالت بلدان الاتحاد الأوروبي الحليف الأقوى لواشنطن لمساندتها في قضايا محورية مثل حقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية. وبالتالي فإن على واشنطن مضاعفة جهودها الدبلوماسية لرفع الصين والهند إلى مصاف القوى العظمى دون عزل الاتحاد الأوروبي أو أعضائه. بمعنى آخر "الإبقاء على علاقة وثيقة بالأصدقاء القدامى وعلاقة أوثق بالأصدقاء الجدد".

*أستاذ السياسة الدولية بمعهد فليتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة تافتس ومؤلف كتاب " كل السياسات عالمية".
**موجز لمقال نشر بدورية فورين آفيرز، عدد مارس/أبريل 2007، تحت عنوان: "ما بعد النظام العالمي الجديد The New New World Order"