الأربعاء، 28 يوليو 2010

فونتين التركية .. العلم بنسمات الروح


أمل خيري
إسلام أون لاين

على مدى سبعة عشر عاما ساهمت مجلة فونتين العلمية التركية في نشر الفكر العلمي والروحي ، إنطلاقاً من نظرة شاملة لطبيعة الكون والإنسان ، وتأسيساً على فكرة امتزاج العلم بالدين ، حيث لا صراع بينهما بل هما في الحقيقة وجهان لحقيقة واحدة.

ويعد المفكر الإسلامي فتح الله جولن الأب الروحي للمجلة ، حيث بدأ صدور المجلة في انجلترا عام 1993 ، وأشرف على إصدارها مجموعة من الأكاديميين الأتراك كقناة لنقل رسائل من حركة جولن الدينية للقراء حول العالم.

وفي عام 1999 ، انتقل مقر مجلة فونتين إلى الولايات المتحدة ، حيث يتم نشرها حاليا بالتعاون مع دار نشر "طغراء" بتركيا أحد أعضاء مجموعة "كايناك" للنشر، بإشراف شركة النور بولاية نيو جيرسي الأمريكية، ولديها مكاتب في إسطنبول وموسكو والقاهرة وسيدني وكوالالمبور، وحتى عام 2008 ظلت المجلة فصلية ، وحاليا أصبحت تصدر كل شهرين.

تصدر مجلة فونتين باللغة الانجليزية ويصل عدد قراءها إلى 25000 قارئ حول العالم معظمهم من المسلمين ، ولكن يوجد عدد كبير من القراء غير المسلمين في عديد من البلدان خاصة الولايات المتحدة الأمريكية.

رسالة الوسطية

يمكن النظر إلى مجلة فونتين على أنها مجلة وسطية فهي تتجنب التطرف والمغالاة ، كما أنها تمزج بين العلم والإيمان، وتعتبر أن التركيز على أحد هذين الجانبين دون الآخر يؤدي للتطرف بشكل أو بآخر. فالتركيز على التعاليم الدينية وحدها قد يؤدي للتعصب الأعمى ، بينما التركيز على العلم فقط قد يوصل المرء للشك.

لذلك تحاول المجلة أن تمس كل من قلب وعقل القارئ من خلال تغطية الجوانب العلمية والروحية ، فالكون كله كتاب مفتوح يحوي دلائل للقدرة الإلهية، والاكتشافات العلمية التي تفتح أبوابا جديدة وتكشف أبعادا أوسع تجعلنا ندرك أكثر جوهر ومعنى الخلق.

تتفاعل المجلة أيضاً مع الأحداث والمشكلات العالمية ، وتسلط الضوء على موضوعات حيوية، كالحفاظ على السلام العالمي، وقضايا التنوع الثقافي ، وتعزيز الرعاية الاجتماعية الشاملة للمجتمع ، والتعليم ، والرعاية الصحية ، والحفاظ على التوازن الايكولوجي والبيئي ، والطلاق ومشاكل المراهقين والشباب ، ووقايتهم من الانحراف.

كما تدعو المجلة من خلال موضوعاتها للقيم الأخلاقية العالمية ، مثل احترام ورعاية الوالدين ، واحترام المسنين ، وحماية الأسرة باعتبارها نواة لمجتمع سليم، والمحبة والرحمة للجميع ، والجوار ، والضيافة ، والإحسان ، وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة.

وعلى حد قول هاكان ييسيلوفا مدير تحرير المجلة "تسعى فونتين إلى استكشاف ما يعني وجودنا ، وتشجعنا على التفكير في المسائل الوجودية للحياة البشرية : من أنا؟ من أين أتيت؟ ما هو معنى وجودي؟ ماذا يراد مني؟"، ويضيف هاكان "أعتقد أن فونتين هي واحدة من الدوريات القليلة التي تتبع نهجا متوازنا بشأن العلوم الطبيعية والاجتماعية وكذلك الإيمان بالله وتسعى إلى أن تكون منارة للتوجيه لمساعدتنا في التفكير بجدية في أدوارنا تجاه جميع المخلوقات في هذه الحياة ".

ويلخص هاكان رسالة فونتين في عبارة "قراءة الكون" ، مشيراً إلى أن تركيا لم تشهد تعارضا بين العلم والدين في تاريخها الطويل ، وأن العلماء المسلمين كانوا ذوي معرفة عميقة في مجال العلوم.

المقال الرئيس للمجلة يكتبه جولن، ولو استعرضنا بعض عناوين المقالات في أعداد مختلفة لتلمسنا بوضوح روح جولن وأفكاره وتعاليمه الروحية، على سبيل المثال : "الحضارة والخلط بين المفاهيم" ، "ماذا نتوقع من جيل الصالحين؟" ، "العالم ومكنوناته من وجهة نظر المؤمن" ، "الشوق للحب" ، "صراخ الصمت" ، "المؤمنون لا يسقطون مهما اهتزوا" ، "من الأمس المشرق إلى الغد المشرق"، "في أعماق النفس البشرية" ،... وغيرها من المقالات التي تتضمن تعاليم جولن الروحية.

حوار الأديان

ربما يكون باب حوار الأديان من أهم أبواب المجلة حيث تسعى المجلة لإيجاد أرضية مشتركة للتفاهم والحوار بين الأديان والحضارات، لذلك يساهم هذا الباب في إرساء مبادئ التسامح والتفاهم بين الحضارات بشكل بناء، فأعداد المجلة السابقة تضم مقالات هامة مثل : "ضرورة الحوار بين الأديان" ، "المبادئ التوجيهية للحوار بين الأديان والثقافات" ، "المبادئ التوجيهية للحوار بين المسلمين والمسيحيين" ، "الدين والعنف والمصالحة" ، "الحوار بين الأديان في تركيا" ،.... وكثير من الموضوعات الأخرى التي تعني بحوار الحضارات.

وتؤكد المجلة على دعوتها لقبول الآخر وإرساء قيم التنوع والتعددية،لتكوين جيل من القراء الذين يعيشون بتوازن وفي وئام واحترام مع ذوي المعتقدات المختلفة بعرض وجهات نظر عالمية.
وتعد حركة جولن الدينية وأفكار مؤسسها مصدر إلهام لمجلة فونتين، فجولن كما هو معروف عالم إسلامي تركي اشتهر بدعوته البناءة لتعزيز التفاهم المتبادل والتسامح بين الثقافات. وهو واحد من العلماء الأكثر تأثيرا في العالم الإسلامي ، وكان جولن قد تصدر قائمة أهم مائة مثقف في العالم التي أعدتها مجلة السياسة الخارجية في عام 2008. ويقيم حاليا في الولايات المتحدة ، وتعتبر حركة جولن رائدة في مجال الأنشطة التعليمية في عدد من البلدان ، إلى جانب الجهود المبذولة لتعزيز الأنشطة المشتركة بين الثقافات والأديان في جميع أنحاء العالم. وقد كتب ما يقرب من 50 كتاب باللغة التركية ترجم بعضها إلى لغات عدة.

وتشجع المجلة الكتاب على المساهمة في أبوابها المختلفة، وتشترط في الكتابات أن تتضمن تشجيع الاكتشافات العلمية التي تخدم الإنسانية ، وأن يوجه خطابها للجمهور العادي غير المتخصص، كما تقبل الموضوعات التي تدعو إلى تعزيز الإيثار والتفاني في العمل الإيجابي ، واعتماد نهج متعدد الثقافات ، وتهدف الى ايجاد توافق في الآراء بشأن القيم الإنسانية العالمية ، والتي تقدم خدمة لكسر الصور النمطية في الأذهان حول مختلف الثقافات والأديان ، وتشجيع الحوار في المجتمع ، والتأكيد على أن الإرهاب لا صلة له بالعقيدة الدينية.

كما نظمت المجلة في عام 2009 مسابقة للطلاب في كتابة المقال شارك فيها 250 طالب جامعي ، وكانت المسابقة خطوة هامة لتعزيز وتشجيع الكتابة لفهم أفضل للطبيعة والإنسان والكون.

العلم والإيمان

تغطي المجلة مجموعة متنوعة من الموضوعات بما في ذلك الإسلام والعالم الإسلامي ، والعلوم والتكنولوجيا والفنون والثقافة والمجتمع. وتدعو المجلة لضرورة اتباع نهج شامل لفهم طبيعة الكون والإنسان، كما تقوم بتشجيع التفكير النقدي والبحث العلمي بشأن طائفة واسعة من الموضوعات ، من بينها العلوم الطبيعية ، العلوم الاجتماعية ، والأخلاق ، والتعليم والأدب والدين ، والدراسات المقارنة.

تضم المجلة عدة أبواب ، إضافة إلى الافتتاحية والمقال الرئيس، ومن أهم أقسامها: القسم الديني والذي يغطي موضوعات دينية متنوعة. فعلى مدى الأعداد السابقة تناولت المجلة في هذا القسم موضوعات حول القرآن ، والسلام في الإسلام، والصلاة والصيام ،والمعجزات الإلهية، وعدة مقارنات بين الإسلام والمسيحية حول الصلاة والقيم الروحية، وبعض القيم القرآنية كالمساواة والخير والشر والتسامح وغيرها.

ومن بين العناوين التي اشتمل عليها القسم الديني والتي تدلل على هدف المجلة في المزج بين العلم والدين نجد مقالات مثل : "العلم والدين بين التنافر والوئام"، "هل تتفق المعاناة في العالم مع رحمة الله؟" ،"العلاقة بين النظافة البدنية والطهارة الخلقية" ،"الدين والبيئة" ،"مقاربة بين الإسلام والديمقراطية"، "الروحانية والدين في بيئة العمل"، "هل الدين نقيض العلم؟" ، وغيرها الكثير.

وفي باب التاريخ تناولت المجلة العديد من الموضوعات الخاصة بتاريخ وحضارة الإسلام خاصة في عهد الخلافة العثمانية، ورد الشبهات حول الاستبداد العثماني، إضافة للتأكيد على انجازات الحضارة الإسلامية وما قدمته للغرب.

ويتناول باب العلوم الاجتماعية كثير من القضايا المتعلقة بالمجتمع العالمي كذلك بمزجها بالدين فنجد عناوين ذات دلالة مثل: "الوحي:الحل السحري للمشكلات الاجتماعية" ، "المبادئ الاجتماعية في القرآن" ، "الأساس المنطقي لانهيار الحضارات" ، "الآثار الاجتماعية لنظرية التطور" ، "الإسلام والعولمة" ،....

وتحت عنوان "انظر...فكر...اعتقد" يأتي باب متخصص في تذكير الإنسان بعظمة الله في خلقه ، وبعض المعجزات في الكون وفي خلق الإنسان، ويقدم الكاتب عرفان يلماز منذ عام 2008 حلقات يبدأ عنوان كل حلقة بعبارة "إنه أنا يا بيتر" ، يروي فيها بشكل حواري شيق أهمية أحد أعضاء الجسم ، بدأها بالقلب ، ثم تناول أعضاء وحواس أخرى كالبنكرياس والمعدة والرئة والعين والأنف والأذن...... وسائر أعضاء الجسم ليذكر الإنسان بقدرة الله التي أودعها في جسده، ويستكمل باب العلم تناول معجزات الله في خلقه وفي الكون الفسيح ، إضافة إلى إطلالة على بعض المعجزات الكونية وكذلك الأسس الفكرية حول المفاهيم العلمية في الإسلام.

تضم المجلة أيضا أبواب خاصة بموضوعات طبية وبيئية وتربوية ونفسية، وثقافية وأدبية، ورؤى وحوارات وعروض كتب ، تدور كلها في نفس الإطار الذي يمزج العلم بالدين، إضافة إلى باب متخصص في الرد على تساؤلات وشبهات متنوعة من بينها: "لماذا تزوج الرسول بأكثر من واحدة؟" ،"هل للمرأة حقوق في الإسلام؟" ، "هل هناك مساواة بين الرجل والمرأة؟" ، "ما الغرض من الموت؟" ، "كيف نوازن بين البعد الروحي والدنيوي في حياتنا؟" ، "ما رأي الإسلام في المسيح وما حقيقة المهدي المنتظر؟" ،.... وغير ذلك من الأسئلة الشائعة والإجابات الشافية عنها.

ميثاق المدينة والتعددية

صدر هذا الشهر العدد76 لشهري يوليو وأغسطس ويضم باقة منوعة من الموضوعات ذات الاهتمام في مجال العلم والإيمان.

يدور العدد حول النظام الداخلي للحياة، فيكتب جولن المقال الإفتتاحي بعنوان "البعد الداخلي للوجود" ، والذي يعتبر فيه التفكير العميق في الوجود هو الطريق المختصر للإيمان، الذي يوصل للمعرفة الحقة بالله والحب والتفاني في العبودية والبعد عن كل ما يقسي القلب من مشاحنات وعوارض دنيوية.

وفي نفس العدد يكتب جولن أيضا مقال عن حسن الخلق ، وقصيدة شعرية بعنوان "عالم الحماسة".

يحتوي العدد أيضا على مقالات لكتاب ومفكرين أتراك ، فيستكمل عرفان يلماز حلقاته الحوارية حول أعضاء الإنسان وعنوان حلقة هذا العدد "إنه أنا يا بيتر.. جهازك المناعي" . كما يكتب فالج جلجي مقالا بعنوان "أثر الفن الإسلامي على الفنان موريس إيشر" ، وكتب عبد الله أكبينار مقال بعنوان "رؤية جمالية: تحور الألوان في الخريف" ،وكتب سيجميد أوجريتيم حول الصيام والجوع وتفاعله مع النفس البشرية، وكتبت جولي آن عن موسيقى الكون ،وفي قسم أسئلة وأجوبة كتب حكمت آسيك عن طريقة التأمل.

يضم العدد موضوعات أخرى أدبية ولغوية وصحية ، ومقابلة مع مصطفى تابلني العالم التركي، واستعراض لعدة مقالات أجنبية تدور حول الجانب الروحي والإيماني.

أما الموضوع الذي نتوقف عنده اليوم فهو مقال لسيان ويليام وايت المتخصص في التاريخ الإسلامي ، حيث نشر المقال في باب حوار الأديان تحت عنوان "وثيقة المدينة المنورة والتعددية".

حيث يشير إلى أن صراع الحضارات والثقافات والقبائل والأديان هو ظاهرة سائدة في كل المجتمعات عبر التاريخ ، والتاريخ نفسه يكشف عن أن كثير من الصراعات المعقدة لم تحل بوسائل عسكرية بل بجهود الوساطة والحوار، ويضرب مثالا على ذلك بوثيقة المدينة المنورة التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم فور هجرته إلى المدينة المنورة ، والتي يمكن اعتبارها بمثابة معاهدة سلام بين كافة الطوائف التي سكنت يثرب وظلت على مدى سنوات في تشاحن وحروب متواصلة، فأرست مبادئ التسامح والحوار بين هذه الطوائف وأقرت حرية ممارسة الشعائر الدينية للجميع ،ووفق مبدأ "لا إكراه في الدين" أصبح لليهود مجتمعهم الذي يمارسون فيه شعائرهم بحرية رغم عدم اعترافهم بسلطة النبي صلى الله عليه وسلم ،ورغم عدم اعتناقهم للإسلام.

وبالتالي ظهر في المدينة المنورة أول مجتمع تعددي يقوم على التسامح وحرية الاعتقاد فلم يفرض النبي الإسلام على أهل المدينة المنورة، ولم يقم بتهديد الذين ظلوا على دينهم، بل عاشت جميع الطوائف متحدة تحت لواء المبادئ والأخلاق ومراعاة القواسم المشتركة بين الجميع.

ويمكن اعتبار ميثاق المدينة المنورة أول دستور مكتوب في الدولة الإسلامية التي توسعت فيما بعد في أنحاء العالم بنفس هذه المبادئ السمحة التي نشرتها في جميع الأرجاء، ويحاول الكاتب تحليل هذا الميثاق ليقدم فكرة أوضح عن موقف الإسلام من التعددية الدينية، ويؤكد على أن هذه الوثيقة تدل على أن الإسلام هو دين التوحيد الذي يحترم حقوق الأديان الأخرى.

وفي ظل عالمنا المعاصر خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر نصبح أحوج ما نكون لمثل هذا الميثاق، فنحن في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى للتفاهم المتبادل لأنه الوسيلة لتحقيق السلام والاستقرار، وإذا كان هذا الميثاق نجح في تحقيق السلام في المدينة المنورة من خلال تسامح الإسلام ونبذ العنف ، فإنه يثبت أيضا أن الوساطة السلمية هي أنجع وسيلة لتسوية المنازعات وأن الاحترام والتسامح هما جوهر السلام، وأن المحبة والحرية والقبول أسس للتعددية التي تحقق الاستقرار في المجتمع.

موقع مجلة فونتين


Read more: http://alafnan.jeeran.com/archive/2010/7/1151768.html#ixzz1C3EZMLdn

الثلاثاء، 27 يوليو 2010

الأصولية الإلحادية.. خصومة العقل والعلم


أمل خيري
إسلام أون لاين

بين آونة وأخرى تُطل علينا المكتبات الغربية بمؤلفات تطالب بالعودة للدين ونبذ الكفر والإلحاد، ربما يكون المحرك الأساسي لها ما يثيره الملحدون الجدد من أفكار تعيد للنقاش حول الدين والإيمان حيويته، وهذا ما دفع "إيان ماركهام" لإصدار كتابه الأخير "في مواجهة الإلحاد: لماذا يعتبر داوكينز وهيتشنز وهاريس مخطئين بالأساس" والذي يعتبره أقل جهد يمكن أن يقدم للرد على هؤلاء المنكرين لوجود الله؛ حيث لم يعد هناك مجال للصمت والتجاهل،صدر الكتاب عن دار نشر ويلي بلاكويل في فبراير 2010م في 176 صفحة من القطع المتوسط.

يشغل ماركهام منصب عميد المعهد الديني بفيرجينيا وأستاذ اللاهوت والأخلاق، وله العديد من المؤلفات مثل "هل للأخلاق جدوى؟" ، و"فهم العقيدة المسيحية" ،و"المسيح والثقافة" وكتاب عن بديع الزمان النورسي ، إضافة للعديد من المقالات.

وفي هذا الكتاب يقوم ماركهام بالرد على "الثلاثي العنيد" وهم ريتشارد داوكينز وكريستوفر هيتشنز وسام هاريس، والذين يعتبرون من أكثر الملحدين الجدد تعصبا وأكثرهم انتشارا بأفكارهم وعقائدهم المغلوطة، ويركز بصفة خاصة على كتاب "وهم الإله" لداوكينز ، "الإله ليس عظيما: كيف يسمم الدين كل شيء" لهيتشنز، و"نهاية الإيمان: الدين والإرهاب ومستقبل العقل" لهاريس.

بدأ ماركهام كتابه باستعراض مباراة عقلية بين "فريد" وهو ناشط إلحادي مقتنع تماما بكتابات داوكينز، وبين "ناتالي" وهي مؤمنة ذكية عميقة التفكير، ليغوص في أعماق فريد الذي يصدم في طفولته كباقي الأطفال حين يعلم بخرافة "بابا نويل" التي يرويها الكبار للصغار ويربط بينها وبين وجود الله ويتلمس أوجه الشبه بين الإله وبين شخصية بابا نويل ليستنتج في النهاية أنهما لا يختلفان، فكلاهما قوة أو ذات غير مرئية تقرأ كل العقول وتعرف ما يدور في النفوس وتمتلك كل القوى الخارقة، وكلاهما بلا زمان ولا مكان، وإذا كان بابا نويل في النهاية مجرد خرافة فما الذي يجعل وجود الإله غير ذلك؟ ، إضافة إلى أن الدين هو السبب لكل المشكلات والمصائب في العالم كالصراعات الدينية التي لولا الدين لما وجدت.

في المقابل نجد ناتاليا المؤمنة ترى الله في الجمال المحيط بها في الطبيعة، وترد على فريد بأننا لا يمكننا تنحية الدين جانبا إذا كان سببا في الصراعات الدينية؛ لأننا ببساطة لا يمكن أن نلغي لعبة كرة القدم لتجاوز بعض المشجعين في تصرفاتهم الهمجية؛ فلابد أن نفرق بين الدين والمنتسبين إليه؛ فأخطاؤهم يجب ألا تنسب للدين نفسه، وتعتبر ناتاليا داوكينز وأمثاله من المبصرين العميان الذين يرون كل هذا الجمال والاتساق في الكون ويعتبرونه خدعة أو وهمًا؛ لأنهم لم يكلفوا أنفسهم جهدا في تنمية قدرتهم على الرؤية.

الإلحاد الأصولي

بعد هذه المباراة العقلية بين فريد وناتالي يعرض ماركهام أفكاره المواجهة للإلحاد في عشرة فصول، يبدأ في الفصل الأول بالدخول في أعماق الإلحاد والذي أسماه "الإلحاد الأصولي"، ويعترف أن هذا المصطلح سيضايق داوكينز بالتأكيد، ولكنه يعود فيؤكد أن وصف أصولي ليس نقيصة بل وصف لحالة هؤلاء الملحدين المتعصبين أو المحافظين الذين يطلقون افتراضاتهم على أنها حقائق ثابتة ونظريات أكيدة تماما كما فعل رواد الحركة الأصولية المسيحية الحديثة في مطلع القرن العشرين، ويعتقد ماركهام أن الثلاثي الملحد لا يختلف عن هؤلاء الأصوليين في أن كلا منهم لم يحاول قراءة أفكار الآخرين، فلا أحد من الملحدين درس اللاهوت أو قرأ الكتب المقدسة قبل أن يعلن عن أفكاره، بل يعبرون عن أفكارهم بصيغة جازمة وكأنها افتراضات ثبت صحتها.

ويحاول ماركهام في كتابه أن يتجاوز هذا المنزلق الذي وقع فيه الثلاثي الملحد؛ لذا فقد اتبع منهج توما الأكويني في الرد على خصومه، وهو عرض حجج هؤلاء الخصوم ثم الرد عليها قبل أن يكتب أفكاره، فعلى سبيل المثال بدأ يناقش هاريس في فكرته عن وجود الشر في العالم، فقضية سام المحورية هي لماذا يسمح الله بوجود الشر إذا كان قادرا ورحيما وعليما، فكأنه يرى في الإيمان بالله تناقضا ذاتيا بالنظر لواقع الشر في العالم، كما أنه يتساءل لماذا يؤمن الإنسان بما يسبب له القلق والخوف من مجهول قد لا يكون له وجود على الإطلاق؛ فيعيش حياته وهو خائف من الموت ومن الآخرة ومن النار، ثم يكتشف في النهاية أن كل هذه خرافات وأوهام تسببت في حرمانه من سعادته الدنيوية بلا طائل.

ومن جانبه يعتقد داوكينز أن صورة الكون الحالية هي نتيجة لعملية انتقاء وتطور طبيعي عبر ملايين السنين، فكيف يمكن أن يكون هناك خالق ذو قدرة هائلة لهذا الكون سابق على وجود هذا الكون الذي استغرق الكثير من الزمان ليتطور؟ وداوكينز بماديته المتطرفة لا يمكنه أن يتقبل وجود ذات إلهية غير مادية، أما هيتشنز فيرى الإلحاد العلماني هو السبيل لاستكمال البشر لحرياتهم الشخصية التي لا يتدخل في توجيهها أحد، ومن الضروري التخلص من جميع الأديان في العالم لكي نعيش بسلام وفي أمان. ويناقش ماركهام أفكار كل من هؤلاء الثلاثي عبر صفحات كتابه ويقارعهم الحجة بالحجة.

نيتشه آخر الملحدين

في الفصل الثاني يستعرض ماركهام حياة وأفكار الفيلسوف الألماني نيتشه الذي يعتبره أبا للملحدين؛ فهو يعتقد أن موت الإله هو الحل لجميع مشاكل العقل، فنيتشه يرفض كل ما هو وراء الطبيعة، ويرى أنه "إذا كان العلم يتطور بلا إشارة لوجود الله، فمن السخف أن نعتقد في وجود ذات عليا تحدد سلوكياتنا وتصرفاتنا في الحياة، ومن المثير للشفقة أن نتذلل ونتضرع لهذه الأنا الخفية التي تتوعد غير الطائعين بالعذاب في جهنم، وبالتالي فقد جاءت الفرصة لنكسر حاجز الإيمان المزعوم هذا ونعلن موت الإله"، وإذا كانت هذه هي قمة العقلانية في نظر نيتشه فإن ماركهام يؤكد أنه يستحيل عقليا ألا يكون هناك خالق لهذه العقلانية؛ فهذه الدقة في العالم المادي لا يمكن أن نتخيل أن تحدث صدفة، فلابد من وجود إله خالق وراءها ، وأن كلا من العقلانية والإله يبقيان معا أو يذهبان معا، إلا أن ما يتجاهله دواكينز والآخرون أن نيتشه نفسه أكد أنه لو حدث "موت الإله" لحلت الفوضى في العالم.

الفصل الثالث حمل عنوان "تقدير الخطاب الإيماني" وأكد فيه ماركهام أن عمليات المعرفة تختلف من شخص لآخر ومن ثقافة لأخرى؛ فالطفل الذي ينشأ في بيئة إيمانية يرى الروح في كل شيء حوله في الكون، والطفل الذي ينشأ في بيئة مادية علمانية ينشأ على مفاهيم مثل: الطبيعة، والقوانين العلمية، ومع ذلك فإن معجزة كوننا بشرا تكمن في أننا رغم تأثرنا بطبيعة نشأتنا فإن لدينا القدرة على تقييم هذه الأفكار التي تربينا عليها وتحديد الصحيح من الخاطئ.

"الفيزياء ذلك العلم المتطور" كان عنوان الفصل الرابع والذي استعرض فيه ماركهام لتطور علم الفيزياء الحديث بدءا من إسحاق نيوتن الذي قدم على الرغم من تدينه خليطا من النظريات حول حساب التفاضل والتكامل، وقدم نظريات حول الميكانيكية والجاذبية دون أن ينفي وجود إله، إلا أنه خلال مائة عام فقط من صدور كتابات نيوتن تطور الوضع في علوم الفيزياء الحديثة لإنكار وجود الله وعدم حاجة الكون إليه. فبيير سيمون لابلاس (1749-1827) كتب في علم الفلك دون أي إشارة لوجود إله، وعندما سأله نابليون عن ذلك قال "سيدي ليس بي حاجة لهذه الافتراضات"، وبالنسبة لداوكينز فإن لابلاس يمثل الأب الروحي له، ولابلاس أيضا من خلال نظرياته عن الحتمية السببية يصل لفكرة أنه إذا اعتقدنا بوجود عقل لا متناه استطاع في البداية تشكيل ذرات الكون فلابد أن هذا العقل لديه القدرة على رؤية كل شيء يترتب في المستقبل، ولأن لابلاس يؤمن بالمادية مثل داوكينز فإن كل ما لا يتطابق مع العقل يعد سخفا.

في المقابل قدم داوكينز فرضية الأكوان المتعددة كتفسير عقلي لأصل الكون؛ معتبرا أنه ربما يكون هناك غرباء من خارج الكون هم الذين أنشئوا هذا الكون، فيرد ماركهام على هذا السخف بأن الإيمان هو التفسير الأفضل، وأن وجود إله خالق نعرفه هو الأقرب للعقل فلماذا نلجأ لحلول وهمية بافتراض غرباء غير موجودين؟.

ويضرب ماركهام مثلا على ذلك بأنه رأى ذات يوم فتات كعك على أرضية المطبخ وهو يعلم أنه لا يوجد في البيت سوى ابنه ذي العشر سنوات؛ لذا واجه ابنه بأن لديه دليلا على أنه أخذ من الكعك، فقدم الطفل له تفسيرا بديلا بأن هناك غرباء دخلوا البيت وأسقطوا هذه الفتات، لكن ماركهام مع اتفاقه مع ابنه باحتمال هذه الفرضية فإن التفسير الأفضل بالنسبة له هو الابن نفسه، فلماذا يفترض وجود غرباء ولديه الطفل ماثل أمامه؟.

وعلى نفس الوتيرة لماذا نقبل بتفسير داوكينز عن وجود كيانات وهمية في عوالم موازية بينما لدينا ذات إلهية معروفة، ومن العجيب تمسك داوكينز بتفسير تعدد الأكوان واعتبارها تفسيرا علميا بينما هي تناقض العقل والعلم معا.

وعلى الرغم من أن لب الإيمان محفور في نفس كل منا فإن إدراك وجود الله يحتاج نفسا بشرية عميقة التفكير تنظر في الكون لتستشعر فيه الدقة التي تستلزم وجود خالق، ويعتبر ماركهام أن من حسن الحظ أن الفيزياء الآن تطورت بدرجة كافية ليصل كثير من الفيزيائيين لحقيقة وجود الله، فأصبحت الفيزياء الحديثة صديقة للإيمان وهذا ما لم يصل إليه علم الأحياء بعد الذي ينتمي إليه داوكينز.

الله والوحي

في الفصل الخامس يؤكد ماركهام على حقيقة أن كلا من الثلاثي الملحد يرغب في رؤية العالم يتحول من البدائية والغباء إلى العلم والتنوير، إلا أن أيا منهم لم يبذل جهدا في قراءة القرآن أو الإنجيل في سياقيهما اللذين نزلا فيه، ليتفهما ما الذي أحدثه نزول كل منهما في نفوس البشر وقتها، وهذه هي المشكلة الكبرى لهؤلاء الملحدين فهم ينظرون لنصوص هذه الكتب المقدسة كما لو كانت كتبتا من قبل طالب في جامعة أكسفورد فشل في الحصول على درجته الجامعية، وليس على أنها كتب إلهية مقدسة، فهناك من طرق التفكير اللانهائية التي يمكن فهم هذه النصوص بها، لكنهم لم يحاولوا من جانبهم القراءة والفهم.

ويرى ماركهام أن أحد أسباب رؤية الملحدين للدين على أنه سبب للحيرة أنهم يتجاهلون حقيقة وجود حدود على عملية المعرفة الإنسانية، فلا يوجد أحد يستطيع أن يلم بكل العلوم والمعارف حتى في عصر الإنترنت وتدفق المعلومات؛ فمازلنا لا يمكننا أن نصل للمعرفة الكاملة كبشر، بينما الوضع مختلف بالنسبة لله فإن علمه يحيط بجميع الكائنات في الكون. ولأن الأديان لا تتشكل فقط من المعتقدات بل تنطوي على أفعال وسلوك فإن هذه السلوكيات والأفعال تتأثر بالبيئة والثقافة المحلية؛ حيث يتناولها الخلف عن السلف في أغلب الأوقات مشافهة وفي بعض الأحيان كتابة؛ لذلك بدأ ماركهام في هذا الفصل بالحديث عن سياق نزول النصوص اليهودية المقدسة، ثم في الفصلين التاليين تحدث عن المسيحية ثم الإسلام.

ويرى ماركهام أن المسلمين كاليهود أو المسيحيين ليسوا جميعا متساوين في تطبيق تعاليم الدين أو الالتزام به، ومع إقرارنا بخطورة الأعمال الإرهابية وقتل الأرواح فإننا يجب ألا نقع في خطأ التعميم الذي وقع فيه هاريس، فأغلب المسلمين ليسوا إرهابيين، فقط أقلية هي التي تنخرط في مثل هذه الأعمال، وهذا لا يعني أن ننسب أفعالهم للدين نفسه.

الدين والصراعات

وفي الفصل الثامن بعنوان "المعاناة والعناية الإلهية وترويع المتدينين" يحاول ماركهام تحليل رؤية الثلاثي الملحد حول أن الإيمان هو أصل الشرور، وأن الدين سبب لكل الصراعات، فيمضي معهم في افتراضاتهم ويضيف: ولكن أليس العلم أيضا يمكن أن يوظف لصالح ورفاهية البشرية وفي الوقت نفسه لقتل وتدمير البشرية؟ فهل يعني ذلك أن نرفض العلم وننحيه من حياتنا؟!

صحيح أن الاختلافات الدينية لعبت كثيرا من الأدوار في الصراعات البشرية لكن كان هناك دائما أبعاد أخرى سياسية واقتصادية واجتماعية، وليس من الصحيح أن اختفاء الدين كان سيجنب البشرية ويلات الحروب، وأكبر دليل على ذلك ما فعله الزعيم الروسي ستالين باسم الإلحاد من قتل وتدمير، فليس صحيحا إذن أن الإلحاد يعني السلام والأمن بالضرورة.

"الدين والمستقبل" كان عنوان الفصل التاسع والذي يفند فيه ماركهام بعض ادعاءات الثلاثي حول انتشار مذهبهم والتبشير به على أنه المستقبل والخلاص للبشرية، فهم مثلا يتخذون من انتشار كتبهم وبيعها على نطاق واسع دليلا على انتشار أفكارهم وتقبلها وتأييدها من قبل قطاعات عريضة في المجتمع، لكن ماركهام يذكرهم بحقيقة أنه في عام 2002 كانت أكثر الكتب مبيعا سلسلة "المخلفون" التي كتبها لاهاي ولاقت قبولا واسعا في العالم، وترجمت للعديد من اللغات، وتحولت لأفلام وألعاب إلكترونية، وانتشرت نبوءات هذه السلسلة، وبيع من هذه الكتب 50 مليون نسخة على الرغم من أن لاهاي رجل دين متدين، فليس بيع الكتب دليلا على انتشار الفكرة أو تأييدها.

وفي الفصل الأخير يناقش ماركهام قضية الإيمان والثقة ويرد على داوكينز وأمثاله في مسألة رفض الدين؛ لأنه يتأسس على أوهام أو حقائق غير مؤكدة بأن العلم أيضا لا يتأسس على حقائق مؤكدة ومع ذلك لا يمكننا نبذه جانبا.

وفي الخاتمة يستخلص ماركهام خمس نتائج من كتابه:

1- التأكيد على أنه لا بد من التدريب على الحاسة الإيمانية التي تمكننا من اليقين بالقدرة الإلهية منذ الطفولة، وهي مسئولية الوالدين.

2- فكرة أن المعرفة وليدة الثقافة التي نشأنا عليها تجعلنا في حاجة دائمة للحوار مع الآخر لكي نتفهم وجهات نظرهم.

3- أن العلم اليوم أصبح أحد الأسباب التي تقود إلى الإيمان.

4- أن انتشار كثير من كتب الملحدين الجدد يعود لظاهرة الإسلاموفوبيا، فإذا كان ملحدونا هؤلاء يعتقدون أن الدين يغذي الكراهية والعداء فإن كتبهم نفسها تغذي الكراهية والعداء ضد الإسلام.

5- أن هذا الثلاثي يحتاج لقراءة الكتب المقدسة ودراسة العلوم الدينية قبل أن يعبروا عن أفكارهم، بل عليهم أن يعيدوا قراءة أفكار نيتشه الذي توصل إلى أن الاختفاء الرمزي للإله لن يعني سوى الفوضى والاضطراب.

Read more: http://mdarik.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1277898759208&pagename=Zone-Arabic-MDarik%2FMDALayout#ixzz0uy0C1H4h

الاثنين، 19 يوليو 2010

القرآن وفهم الإنجيل..رؤية نصرانية


أمل خيري

إسلام أون لاين


اتفق المفسرون في بيان مقصود الآيات الواردة في سورة المائدة والتي تصف النصارى-أتباع عيسى عليه السلام– على أنهم أقرب الأمم للمسلمين في المودة، وأسمع لدعوتهم الحقة، وإن كانوا يتباينون في سبب نزولها، ومدى عموميتها من خصوصيتها.


بعضهم رأى أن هذه الآيات تخص طائفة معينة من النصارى ممن سمعوا القرآن الكريم؛ فعلموا أنه الحق فأسلموا، وبعضهم يوسع من مدلول الآيات ليشمل جميع النصارى؛ سواء من آمن منهم بدين الإسلام أو ظل على دينه لكنه آمن بصدق القرآن.

وعلى أساس الرأي الثاني يطرح ويتبنى بودمان- الأستاذ المساعد في الدين المقارن بمعهد أوستن للدراسات اللاهوتية بتكساس- رؤيته حول النصارى وقراءة القرآن في دراسة بعنوان "قراءة القرآن كمغترب مقيم"؛ والتي نشرت بمجلة "العالم الإسلامي" الصادرة عن معهد هارتفورد اللاهوتي في عددها الفصلي الرابع لعام 2009.

المغترب المقيم

يتساءل بودمان: هل يقرأ المسيحيون القرآن كما طلب منهم القرآن نفسه أو كما وصفهم القرآن الكريم؟ معتبرًا أن المسيحيين الذين أخذوا على عاتقهم مهمة دراسة الإسلام والتفاعل مع نصوصه لا يختلفون في حالهم عن حال المهاجر من مكان لآخر؛ فهو مقيم في المكان الجديد لكنه ما زال مغتربا عنه، وهكذا فهؤلاء المسيحيون حين يقرؤون القرآن فهم يحاولون الاقتراب من آياته ومعانيه، لكنهم مع ذلك ظلوا غرباء عنه؛ لأن سياق نزول القرآن يختلف عن واقعهم الذي يعيشونه.

ويرى بودمان أن المسيحيين يسعون للغوص في أعماق القرآن، لكن تتنازعهم هويتهم وقناعاتهم المعرفية المستقاة من الإنجيل؛ لذا يدعو المسيحيين لقراءة جديدة للقرآن بروح مختلفة وبعقل متفتح؛ فربما يؤدي ذلك لوضع أساس جديد للحوار الإسلامي-المسيحي.

ينتقد بودمان الكتب والدراسات التي تتناول القرآن الكريم دون تفرقة بين قارئ مسيحي أو مسلم، ويندرج تحت ذلك أيضا محاولات تفسير المسلمين للقرآن التي لا تفرق بين مسلم ومسيحي، ويعتبر أن هذا لا يكفي لقراءة القرآن باعتباره كتابا مقدسا ووحيا من الله يستلزم قراءته بمزيد من الجدية والاهتمام، ليس فقط من حيث الألفاظ بل من حيث المعنى والسياق؛ لذا فإن على المسيحيين أن يقرؤوا القرآن في سياقه الإسلامي-وهذا لا يعني ضرورة تحولهم للإسلام- بل يعني الدخول في الفضاء القرآني من أجل فهم ما يقوله الله، أي أن يقرؤوا القرآن بعيون المغترب المقيم.

القرآن يرحب بالجميع

ويضيف بودمان: إذا كان القرآن هو كلام الله فمن الإنصاف أن نشير إلى أن القرآن نزل بالعربية على عرب الحجاز بواسطة نبي عربي، ولكنه في نفس الوقت نزل للبشرية جمعاء بل نزل حتى للجن، فحتى مع عدم إيماننا به أو اعتباره مرجعا لنا يظل كتابا مقدسا يقيم الحجة علينا على حد قوله.

وهناك كثير من المسيحيين الذين يقرؤون القرآن بشكل عرضي ربما بدافع الفضول، وهناك البعض الذين يقرؤونه بوجهة أكاديمية، والبعض الآخر يقرؤه بغرض المجادلة (أي تصيد الأخطاء)، ولكن كل هؤلاء لا يقرؤون القرآن كما ينبغي أن يُقرأ، ولا كما أراد الله لهم أن يفهموه.

فالأكاديميون قد يقرؤونه بغرض الإنتاج الفكري أي الكتابة حول ما قرؤوه، بينما غيرهم قد يقرؤونه من أجل التعبير عن أفكارهم الخاصة، أو من أجل تجميع حصيلة معرفية تفيدهم فيما بعد، وهناك القراء الموسميون أو من أطلق عليهم جريفيث مصطلح "القراء الاستهلاكيون".

ويؤكد بودمان أن قراءة النص الديني تختلف عن القراءة الاستهلاكية من حيث طريقة القراءة ومن حيث الموقف من النص المقروء، فالنص الديني هو مصدر ثابت وثري في محتواه، ويحمل ألفاظا ومعاني ذات قيمة جمالية، وأيضا هو نص يقرأ بطريقة مختلفة سواء من حيث حفظه كما أنزل أم من حيث تلاوته بخشوع.

والقرآن الكريم أوجب قراءته بتلاوة وخشوع "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ"،كما أنه نزل للبشرية جمعاء باعتبارها أمة واحدة ليحكم بين الناس "وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ"، ووصف القرآن كذلك بأنه لا يمكن الإتيان بمثله، وأنه أحسن الحديث، وأنه آيات بينات، وأنه مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية، وأنه واضح مبين، وبالتالي فالقرآن يرحب بجميع القراء، سواء منهم الأكاديميون أو الذين يقرؤونه عرضيا، فهو يصف نفسه ويحدد كذلك الغرض الذي أنزل من أجله.

دعوة للتدبر

يؤكد بودمان أيضا على أننا يجب أن نتذكر أننا نقرأ نصا مقدسًا يتحدث إلينا ويجعلنا ندور معه في فلك معانيه، وهذا يتطلب منا قراءة متأنية وعميقة، كما أنه يحتاج لإعادة القراءة عدة مرات حتى يتم الوصول للمعنى الصحيح خاصة بالنسبة لأتباع الأديان الأخرى.

فكلما قرأنا نصا من مذهب مختلف عنا يجب أن نعي تماما دورنا في القراءة، فمعنى النص لا يتولد فقط من النص نفسه بل من تفاعلنا كقراء مع النص، فالقارئ يصطحب معه أثناء القراءة خبراته وذكرياته وتوقعاته ومرجعياته الخاصة، كل هذا يشكل جانبا من جوانب توليد المعنى؛ بما يؤدي إلى سد الثغرات والفجوات وغموض النص ولو على الأقل بشكل مؤقت.

ويضيف بودمان أنه كمسيحي حين يقرأ القرآن فإنه لا يمكنه قراءته بنفس أسلوب المسلم الذي يقرؤه، حيث تتأثر قراءته للقرآن بطريقة قراءته للإنجيل، وهو ما يختلف كليا عن الكيفية التي يقرأ بها المسلم كتابه؛ حيث يتم تقطيع الآيات وتلاوتها بخشوع وتدبر يفتقر إليه هو كمسيحي.

ولكن بودمان يؤكد على أنه إذا قرأ القرآن بتدبر وخشوع وتبجيل مع احتفاظه بمرجعيته الدينية فإن ذلك يمكن أن يكون نقطة بداية تفتح الباب للحوار بين الأديان، ويتساءل هل من الممكن أن أكتسب رؤى جديدة حول الإنجيل من خلال قراءة المسلمين الدينية له؟ ويجيب بأنه لو كانت هذه القراءة من قبل المسلمين بنفس التقدير والاحترام فمن الممكن أن يحدث ذلك.

هناك أربع طريق مختلفة لقراءة النص - ربما تكون متراتبة - فبداية يتم قراءة النص وتحليل دينامياته الداخلية وسياقه، ثم قراءته في سياق تفسيره الديني وتطبيقه في المجتمع، ثم يتم قراءته في سياقاته المعاصرة وفقا لتصوره وتطبيقه على حد سواء داخل المجتمع، ثم المرحلة الأخيرة بقراءته كنص فعال في السياق العقدي والديني سعيا للفهم الإيماني المتعمق.

وإذا قرأنا القرآن بقدر أكبر من الجدية المطلوبة نستطيع الدخول في حوار ديني من دون التخلي عن أي من الطرق الأخرى للقراءة، ولا عن خلفيتنا الدينية التي نصطحبها معنا. ونحن ندرك أن مرجعياتنا الدينية لا تتضمن فقط فهمنا الشخصي، بل أيضا فهم مجتمعنا للدين وذاكرتنا الجماعية، بمعنى أصح نحن نقرأ بمفردنا ولكنا لسنا وحدنا في الحقيقة.

النصارى والقرآن

القرآن يتوجه أيضا بخطابه الخاص للمسيحيين حين يصفهم بقوله "وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ" فهؤلاء إما قسيسون وإما رهبان، ومن ثم فهم أولا يحبون الذين آمنوا، وثانيا هم قريبو الصلة بالمؤمنين، ثم هم أخيرا ليسوا مستكبرين.

وهذا الوصف لا يقتصر فقط على مجموعة محددة من المسيحيين، بل تتسع لجميع من يقولون إنهم نصارى، حيث هويتهم واضحة؛ فهم ليسوا من ضمن الذين آمنوا، وهو الوصف الذي يطلق على المسلمين فقط.

وكان رد هؤلاء حين سمعوا القرآن الكريم أن تساقطت الدموع من أعينهم تأثرًا بما عرفوا من الحق الذي كانوا يتوقعونه؛ لذا فقد دعوا أن يجعلهم الله من الشاهدين، ولكنهم على الرغم من ذلك ظلوا على دينهم ولم يتحولوا إلى الإسلام، وصحيح أن المفسرين ذكروا أن سبب نزول الآية خاص بالنجاشي وموقفه مع المسلمين الذي هاجروا إلى أرض الحبشة فرارا من كيد المشركين، كما ذكروا في بعض الروايات أنه قد تحول إلى الإسلام، لكن مع ذلك يرى بودمان أن النص يبقى حكمًا عامًا يشمل جميع المسيحيين الذين أقروا بنزول القرآن حتى أولئك الذين ما زالوا على دينهم.

يشترك كل من المسيحيين و"المؤمنين" في أن كلا منهما يؤمن بالحق ويعترف بالقرآن، وكلاهما يؤمن بالله ولديه الرغبة في دخول الجنة؛ وبالتالي لم يكن القرآن غريبا بالنسبة لأولئك المسيحيين، وهم لم يكونوا مغتربين في قراءته؛ ولذا فقد بكوا عند سماعه تأثرا وخشوعا، فهل الأمر نفسه ينطبق على مسيحيي الغرب؟ أو بالأحرى ما توقعات القرآن حول كيفية قراءة المسيحي بشكل عام للقرآن؟.

يرى بودمان أن القرآن الكريم يفترض أن المسيحي لديه العلم الكافي ليعرف الحق الذي نزل في القرآن ويتفاعل معه عند تلاوته أو سماعه لدرجة أن تتساقط دموعه عند سماعه، والقراءة بخشوع هي التي تؤدي إلى ذلك، بل أيضا تساعد على فهم العلاقة بين تقديس القرآن من قبل غير المسلمين وبين إخلاصهم لعقيدتهم الأساسية، حيث لا يعني تقديس النصوص بالضرورة الإيمان بها أو التحول عن العقيدة الأم، كما أن تقديس القرآن لا ينكر الاختلافات بين الإسلام والمسيحية.

مع سورة الرحمن

يبدأ بودمان نفسه إعادة قراءة القرآن بروح متفتحة وقلب واع، ويختار سورة الرحمن ليغوص في معانيها التي يرى أنها تزيد من إيمانه بالله، بل تساهم في توسيع فهمه للإنجيل دون أن يترك دينه، ويركز على المعاني الإيمانية واللطائف الكونية المستمدة من السورة، ويقول إن هذه السورة هي الأقرب إلى قلبه؛ لما تتضمنه من معان ودعوات لفتح القلوب ليست فقط من ناحية روحية بل من ناحية عقلية بالتأمل في كتاب الكون المفتوح.

يتوقف بودمان عند معنى كلمة الرحمن والتي لا تعبر فقط عن اسم من أسماء الله بل عن الله ذاته، وأنه وصف نفسه في السورة بالمعلم والخالق، وصفة المعلم سبقت صفة الخالق "علم القرآن، خلق الإنسان" وهذا يبين جزءا من الاختلاف بين صفة الله في العهد القديم عن القرآن، ففي حين هو المعلم والخالق في القرآن فهو الخالق فقط في العهد القديم، بينما المسيح هو المعلم؛ لذا تأتي هذه الآية لتؤكد أن الله هو الذي علم البشرية كل شيء بدءًا من آدم "وعلم آدم الأسماء كلها"، وبالتالي ما يُعلِّمُه المسيح هو امتداد لما تعلمه من الله.

أيضا كلمة "البيان" تستوقف بودمان كثيرًا ويرى أنها أشمل في المعنى من كلمة "logos" في التوراة التي تترجم على أنها الكلمة "في البدء كانت الكلمة" فالبيان أعمق وأدل، ثم تتوالى المقارنات والزوجيات في الآيات التالية "الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان..." وكأنها تعبير عن جزء من هذا البيان، حتى تأتي كلمة الثقلين لتدل على شمولية خطاب القرآن الكريم للإنس والجن جميعًا؛ ولذا فإنها دليل على أن القرآن يخاطب المسيحيين أيضا لأنهم من الإنس، ثم يأتي تكرار الآية "فبأي آلاء ربكما تكذبان" إحدى وثلاثين مرة لتخاطب الثقلين وتستنكر تكذيب البعض بآيات القرآن والكون.

ويحاول بودمان أن يوسع من فهمه لمعنى كلمة الثقلين؛ ويتساءل لِمَ لا يكون المقصود بضمير المخاطب في كلمة "ربكما" ليس فقط الإنس والجن بل ربما المسلم وغير المسلم؟

فكلمة (الثقلين) هذه حتى وإن حملت فقط على معنى الإنس والجن فهي دعوة من الله أن يتناسى الجن والإنس نقاط التباين بينهما ويشتركا معا في قراءة القرآن وتدبر آياته والإيمان بها، أفلا يمكن أن ينسحب ذلك أيضا على المسيحيين والمسلمين؟!، فيقرأ المسيحي القرآن بتدبر وخشوع ويتعلم من معانيه التي تقوي إيمانه بالله وينطلق في حواره مع المسلمين من أرضية مشتركة هي الإيمان بالله وعدم التكذيب بآياته، فخلافاتنا لا تمنحنا الحق في أن نستبعد غيرنا من شمول رحمة الله وفضله لهم، وقراءة المسيحي للقرآن لا توسع فقط من فهمه للإسلام بل أيضا من فهمه للمسيحية، وتجيب عن كثير من الأسئلة المحيرة في المسيحية، ومع ذلك يظل على عقيدته متذكرا أننا جميعا طلاب نسعى لطلب العلم.



Read more: http://mdarik.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1277898743440&pagename=Zone-Arabic-MDarik%2FMDALayout#ixzz0u77xSlqz