الأربعاء، 21 مارس 2012

دراسة: تجارب إسلاميي تركيا وأندونيسيا في التعايش مع الفكر الغربي


أمل خيري
إسلام أون لاين

هل يمكن أن يجمع الإسلاميون بين الالتزام بالإسلام واعتناق الأفكار الليبرالية كالديمقراطية والتعددية الدينية؟ أم أن الجماعات التي تعتنق الفكر الإسلامي لا بد أن تتصف بالتشدد ورفض كل ما يعد من منجزات الغرب لمجرد أنه مستورد في مفهومه؟
للإجابة عن هذين السؤالين، يمكن أن نطرح سؤالا آخر: وهل اقترنت الأنظمة العلمانية بالليبرالية والحرية دوما؟ وهنا يكفي أن تعقد مقارنة بين الحكم الاستبدادي الذي عاشته تركيا لعقود طويلة في ظل نظام علماني مدعوم بالقوة العسكرية، وبين بزوغ فجر الحرية والليبرالية الذي لم تشهده البلاد إلا بعد وصول الإسلاميين للحكم، لتصل إلى الإجابة.
ففي بعض الدول ذات الأغلبية المسلمة، جاهدت جماعات إسلامية ليس فقط من أجل تدعيم الديمقراطية، بل وشاركت في تعزيز التعددية الدينية، وإرساء حرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان، ويمكن القول إن مثل هذه الجماعات قد قامت بتقديم نوع من “الإسلام التقدمي”، وهو المفهوم الذي طرحه أليكساندر أريفيانتو ،  Alexander R. Arifianto ، في بحثه الذي سيقدمه في الاجتماع السنوي للجمعية الغربية للعلوم السياسية (WPSA) الذي ينعقد في الفترة 22-24 مارس 2012، في بورتلاند بولاية أوريجون الأمريكية، بعنوان (الإيمان، والسلطة الأخلاقية، والسياسة: تأسيس “الإسلام التقدمي” في اندونيسيا وتركيا)[i].
حاول أريفيانتو تأصيل هذا المفهوم من خلال التركيز على عرض تجربة ثلاث من أكبر الجماعات الإسلامية في العالم الإسلامي، والتي نجحت في تقديم نماذج حية على إمكانية التوليف بين تعاليم الإسلام والفكر السياسي الغربي، وهي جماعتا “نهضة العلماء” و”المحمدية” في أندونيسيا، وحركة فتح الله جولن في تركيا.

 الإسلام التقدمي

يعرف أريفيانتو الإسلام التقدمي بأنه محاولة الجمع بين تعاليم الإسلام الأساسية (القرآن الكريم، الحديث الشريف، والفقه الإسلامي(، وبين الأفكار المستمدة من النظرية الاجتماعية الغربية (مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، والحرية/ التعددية الدينية).
ويؤسس أريفيانتو بحثه على فرضية أن هذا التحول الفكري داخل هذه المنظمات الإسلامية يعود للدور الذي قامت به القيادات الدينية الرئيسية لهذه المنظمات، فضلا عن الهيكل المؤسسي الذي يساعد على انتشار هذه الأفكار بين أعضائها. وقد أطلق أريفيانتو على هذه القيادات مصطلح “السلطة المعنوية”، باعتبار أن هذه الشخصيات القيادية الفاعلة كانت مسؤولة عن هذا التحول الفكري من جهة، وأنها قامت بهذا التحول عبر الفكر والإقناع، وليس بالأساليب القسرية.
وفي مقابل الإسلام التقدمي، هناك مسار آخر للإصلاح يتبناه كثير من الجماعات الإسلامية الأخرى، وهو المنظور الإحيائي/ المحافظ، والذي يشجع على الإصلاح من خلال العودة إلى الأصول السمحة التي طبقها الرسول والصحابة، وهو ما أسماه أريفيانتو بـ”الإسلام المثالي”. ومع ذلك فإن تطبيق هذا الإسلام المثالي يتطلب نوعا من القادة الدينيين المبدعين الذين يعيدون تفسير النصوص في ضوء مستجدات العصر، وينجحون في فرض نوع من القوة الاجتماعية، لا يساهم فقط في تغيير أفكار منظماتهم، بل في تغيير المجتمع ككل.
وقام أريفيانتو باختيار جماعتي نهضة العلماء والمحمدية في إندونيسيا، لوجود الكثير من أوجه التشابه بينهما؛ فكلتاهما نشأتا منذ أكثر من ثمانية عقود، وتضم كل منهما أعدادا كبيرة من الأعضاء؛ فتشير التقديرات إلى أن نهضة العلماء تضم حوالي 60 مليون عضو، بينما ينتمي حوالي 30 مليون عضو إلى الجماعة المحمدية. كما أن هاتين المنظمتين شاركتا بقوة في الحياة السياسية الإندونيسية خلال فترة الاستعمار الهولندي، وفي مرحلة ما بعد الاستعمار على حد سواء. ونشطتا أيضا في فترة التحول الديمقراطي التي شهدتها البلاد في الخمسينيات من القرن العشرين. وعانت كلتاهما من القيود السياسية الصارمة التي فرضتها الدولة ضد الإسلام السياسي في أواخر الثمانينيات. يذكر أيضا أن كلا من نهضة العلماء والمحمدية قد قامتا بدور رئيسي في الترويج لعودة الديمقراطية في إندونيسيا منذ عام 1998 وحتى اليوم.
أما حركة فتح الله جولن من تركيا، فقد اختارها أريفيانتو كنموذج على مدى انتشار الأفكار الإسلامية التقدمية، ليس فقط داخل تركيا بل حول العالم، من خلال استلهام أفكار الحركة التي يقودها مفكر إسلامي نهضوي.

جمعية نهضة العلماء

نشأت جمعية نهضة العلماء في إندونيسيا عام 1926، على يد هاشم أشعري أحد العلماء الذين ناضلوا طويلا في سبيل الحفاظ على الثقافة الدينية الإسلامية، وتعزيز الروح القومية ردا على الضغط المتزايد من القوى الاستعمارية السائدة آنئذ. وتعد الجمعية رسميا أكبر جماعة إسلامية على مستوى العالم من حيث عدد الأعضاء الذي يتعدى 60 مليونا.
ويعود الفضل إلى عبد الرحمن وحيد (حفيد أشعري)، في الإصلاحات التي شهدتها الجمعية، حيث قاد وحيد الجمعية لثلاث فترات متوالية منذ عام 1984 حتى 1999، ليصبح بعدها أول رئيس لإندونيسيا بعد انهيار حكم سوهارتو الاستبدادي. وقد درس وحيد الفقه الإسلامي والدراسات الإسلامية، بالإضافة إلى الأدب الغربي والفكر السياسي. وكما قرأ كتابات أفلاطون وأرسطو وماركس ولينين، قرأ أيضا كتابات حسن البنا وسيد قطب وسعيد رمضان.
رفض وحيد التفسيرات الحرفية للإسلام، واعتقد أن الإسلام يعمل على تعزيز حرية الفكر والتعددية، والتسامح مع غير المسلمين. وبعد توليه قيادة نهضة العلماء في عام 1984، أصبح وحيد شخصية مؤثرة تتمتع بالسلطة المعنوية القادرة على تحويل الجمعية إلى منظمة إسلامية تقدمية، وذلك بسبب دفاعه عن القيم والمؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية الدينية.
وقد استطاع وحيد تحقيق هذه الإصلاحات بفضل ما تمتع به من شخصية كاريزمية، تمكن من خلالها التأثير في كثير من العلماء الأعضاء بالجمعية لتبني أفكاره النهضوية، كما استلهم الأعضاء من الشباب أفكاره، وكانت أصواتهم السبب الرئيسي في إعادة انتخابه لرئاسة الجمعية مرتين متتاليتين، بفضل دفاعه المستمر عن هؤلاء الشباب ضد الهجمات والانتقادات التي وجهها بحقهم العلماء الأكثر تحفظا، وكذلك ضد تدخلات أجهزة سوهارتو الأمنية في أنشطتهم.
إلا أن الشخصية الكاريزمية ودعم الجيل الثاني داخل الجمعية له، ليسا العاملين الوحيدين لنجاحه، بل هناك كذلك الطابع المؤسسي القوي الذي تتمتع به الجمعية وكذلك عدم المركزية، وكل ذلك مكنه من تنفيذ إصلاحاته، رغم ما واجهه من معارضين داخل الجمعية لأنشطته الإصلاحية.

الجماعة المحمدية

تعد الجماعة المحمدية ثاني أكبر الجماعات الإسلامية في إندونيسيا من حيث العدد، حيث يصل عدد أعضائها إلى 30 مليونا، وإن كانت من حيث النشأة تسبق جمعية نهضة العلماء؛ إذ يعود إنشاؤها لعام 1912 على يد محمد الدرويش المعروف باسم خميس دحلان. وبحكم موقعه كداعية وتاجر، عاصر الدرويش الجمود الذي أصاب المسلمين بسبب الممارسات الصوفية البعيدة عن الإسلام، فقام بالدعوة وسط جيرانه لإعادة إحياء الإسلام. وما لبثت دعوته أن انتشرت في القرى والمدن، حتى أصبح الوضع مهيئا لإنشاء جماعته، التي ظل يقودها حتى عام 1922.
وتعتمد الجماعة على بنية هرمية لصنع القرار أكثر تنظيما من جمعية نهضة العلماء، مع وجود قيادة مركزية قادرة على اتخاذ وتنفيذ القرارات الرئيسية داخل المنظمة. ومن أهم القادة الإصلاحيين داخل الجماعة نوركوليش مجيد (1939-2005)، وسياف معارف (الذي ظل رئيسا للجماعة من 1998- 2005). وقد حاول الاثنان مواصلة إستراتيجية الإصلاح من القاعدة، بإقناع الأعضاء بضرورة الإصلاح وفوائده المحتملة للجماعة.
وقد رأى الإصلاحيون داخل الجماعة المحمدية أن إقامة دولة إسلامية تحكمها الشريعة الإسلامية في ظل وجود هذا التعدد الديني والعرقي في البلاد، من شأنه أن يهدد كيان الدولة وينذر بتفككها، لذا فإنهم تخلوا عن فكرة الإسراع بتطبيق الشريعة، واستبدالها بإقامة الدولة على أساس من الديمقراطية والتعددية وحماية حقوق الإنسان، بالرغم من رفضهم التام لفكرة الفصل بين الدين والدولة.
إلا أن عملية التحول الفكري في الجماعة المحمدية لم تلق نفس النجاح الذي أحرزته نهضة العلماء؛ إذ لم يبرز من بين الشخصيات الإصلاحية في الجماعة المحمدية شخصية كاريزمية مثل عبد الرحمن وحيد في نهضة العلماء. بالإضافة إلى انتشار التفسيرات الحرفية للنصوص بين أعضاء وعلماء المحمدية، وكل هذا وقف حجر عثرة أمام الإصلاحيين لتنفيذ إستراتيجيتهم وإضفاء الطابع المؤسسي على إصلاحاتهم داخل المنظمة.
وعلى النقيض من نهضة العلماء التي نشرت أفكارها بين جيل الشباب داخل الجمعية، فإن المحمدية اتجهت إلى مخاطبة أبناء الطبقة العليا والمتوسطة، وقد برر نوركوليش هذا التوجه بأن الجمهور المستهدف هم من أبناء النخب من  صانعي القرار وقادة الرأي، ومن ثم فإن هؤلاء لهم القدرة على تقبل وتفسير وترويج هذه الأفكار بين باقي المواطنين.
من أجل ذلك تعتمد الجماعة على عدد من المعاهد والجامعات التي أسستها ويتم من خلالها تدريس هذه الأفكار الإصلاحية، عبر مناهج دراسية مخصصة كالإسلام والديمقراطية، وحقوق الإنسان في الإسلام، وغير ذلك. ومن هنا لم تهتم المحمدية بتوسيع نطاق خطابها إلى المستوى الشعبي بين أبناء الطبقات الفقيرة. إلا أن كثيرا من المحللين يشكك من جدوى وفعالية هذا التوجه، مشيرين إلى أنه رغم انتشار هذه الأفكار بين الطبقات العليا، إلا أن هذه الأفكار لا تجتذب عامة الناس، لذا فقد واجه الاتجاه الإصلاحي مقاومة شرسة من الاتجاه الحرفي داخل الجماعة والذي يهيمن بالفعل على الثقافة الداخلية، وعلى المناصب القيادية.
وفي نظر أريفيانتو فإن تباين نتائج الإصلاحيات الفكرية بين كل من المحمدية ونهضة العلماء يعود إلى الخصائص المميزة لكل منهما، فالثقافة الداخلية لدى نهضة العلماء تقوم على ميراث تاريخي طويل من التسامح مع التقاليد الدينية المغايرة كالتصوف والمذهب الشيعي، ومن ثم فهي أكثر قبولا لمبدأ التعددية الدينية، في حين أن ممارسة التطهير للتقاليد الإسلامية غير المقبولة تعد جزءا لا يتجزأ من الثقافة الداخلية للمحمدية، وبالتالي فهناك عدم استعداد لقبول التعددية وتقبل الآخر.

حركة جولن

على غرار نهضة العلماء الإندونيسية، نشأت حركة جولن التركية على أساس من السماحة والتعايش مع التقاليد الصوفية، خاصة أن أبرز ملهميها هو المتصوف سعيد النورسي الذي تتلمذ على يديه فتح الله جولن مؤسس الحركة. إلا أنه خلافا لنهضة العلماء لم تقم حركة جولن على يد علماء ومجتهدين، بل على يد داعية يدعو إلى القيم التقدمية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، والحرية الدينية، وفي الوقت نفسه تعزيز الحوار بين الأديان، بين المسلمين وغير المسلمين.
ومع وجود قاعدة عضوية تقترب من سبعة ملايين مواطن تركي، بالإضافة إلى حوالي ثلاثة ملايين من الأتباع حول العالم، فإن حركة جولن تعد واحدة من أكبر الجماعات الدينية. وعلى الرغم من ذلك فإن الحركة لا تعد منظمة رسمية، ولم يفكر أنصارها في أن يتم الاعتراف بها ككيان قانوني بموجب القانون التركي. كما أن جولن نفسه لا يرحب بتسميتها باسمه، بل يطلق عليها أسماء مثل حركة المتطوعين أو حركة خدمةHizmet . أيضا لا تحتفظ الحركة بسجلات دقيقة لأعضائها، كما هو الحال في نهضة العلماء أو المحمدية.
ومع ذلك تظل من أقوى الحركات الإسلامية وأوسعها نفوذا وانتشارا في تركيا، نظرا لارتكازها على شبكة من المدارس التكوينية التي تعتمد المنهج الغربي الذي يركز على العلوم والرياضيات. كما يعرف عن الحركة أيضا رعايتها للحوار بين الأديان وبين الحضارات سواء في داخل تركيا أو في العديد من الدول الغربية. ولا تعتمد الحركة في نشر أفكارها على أسلوب الوعظ، بل من خلال تعزيز الأخلاق العالمية، وتشجيع الأنشطة الخيرية والخدمية، كما يعزى نجاح الحركة أيضا إلى قدرتها على اجتذاب مساهمات مالية كبيرة من رجال الأعمال الأتراك. ويقدر البعض امتلاك الحركة ما يقرب من 25 مليار دولار كأصول مالية تنفقها على مدارسها ومشروعاتها الخيرية.
نشأت الحركة في ظل حالة من القمع الذي مارسه النظام العلماني الحاكم على كل الحركات الإسلامية في تركيا، وقد تعرض جولن نفسه للاعتقال مرات عدة خلال السبعينيات والثمانينيات. واتهم في أواخر التسعينيات من قبل المدعي العام التركي بالطعن في شرعية الحكومة العلمانية والدعوة إلى استبدالها بحكومة إسلامية، مما اضطره إلى اللجوء إلى الولايات المتحدة حيث مازال يقيم فيها حتى اليوم.
وقد أتيحت لجولن الفرصة خلال فترة حكم تورجوت أوزال بممارسة أنشطته الدعوية، فسجل العديد من الأشرطة التي حث فيها  مستمعيه على المشاركة بشكل كامل في الاقتصاد، والإعلام، والأنشطة الثقافية من أجل بناء تركيا الجديدة. وبعد الأشرطة بدأ أنصار جولن في تأسيس المدارس المستوحاة من أفكاره، وسرعان ما أصبحت هذه المدارس تحظى بشعبية كبيرة بين عائلات من الطبقة الوسطى، مما دفع أنصار جولن لإنشاء المزيد من المدارس التي تخطت الحدود وانتشرت في دول آسيا الوسطى ومنطقة البلقان وغرب أوروبا، وآسيا والمحيط الهادئ، فضلا عن أمريكا الشمالية.
ويرجع أريفيانتو نجاح حركة جولن إلى دعم مجموعة من رجال الأعمال العصاميين المعروفين باسم “نمور الأناضول”، والذين تخرج بعضهم في مدارس جولن، ونسبوا فضل نجاحهم إلى تلقيهم التعليم في هذه المدارس، ومن ثم فهم يردون الجميل بالمساهمة في دعم الأنشطة التعليمية والتربوية والإعلامية للحركة.
كما يعود النجاح أيضا إلى العلاقة الوثيقة مع بعض المسؤولين السياسيين، وإلى تجنب أي مواجهة مع الدولة وأجهزتها، فلم تدعُ الحركة يوما إلى احتجاجات شعبية أو عصيان مدني أو أي أنشطة مثيرة للجدل. كما أنها ترفض أن تقر علنا ​​بدعم أي من المرشحين أو الأحزاب السياسية أثناء الحملات الانتخابية، في الوقت الذي يعقد فيه جولن اجتماعات منتظمة مع المسؤولين الحكوميين والسياسيين من أجل تطوير علاقات وثيقة معهم.

في ختام دراسته يؤكد أريفيانتو على ما أسماه بالسلطة المعنوية ودورها في نشر الأفكار الدينية، فبمقارنة هذه النماذج الثلاثة، انتهى إلى أن نجاح كل من جمعية نهضة العلماء في إندونيسيا وحركة جولن في تركيا يعود إلى السلطة المعنوية التي يتمتع بها القادة الإصلاحيون، من حيث الزعامة والشخصية الكاريزمية، وهي الأمور التي افتقدتها الجماعة المحمدية، ورغم ذلك فإن المحمدية قد نجحت إلى حد ما في التكيف مع الأفكار الإصلاحية وإن لم تستطع التحول الفكري الكامل.



[i]  Alexander R. Arifianto,  Faith, Moral Authority, and Politics: The Making of “Progressive Islam” in Indonesia and Turkey, Presented at the 2012 Western Political Science Association (WPSA) Annual Meeting, Portland, OR, March 22-24, 2012.

الأحد، 11 مارس 2012

دراسة: عام بعد الربيع العربي.. أمن إسرائيل في خطر

 
أمل خيري -إسلام أون لاين
 
منذ اندلاع شرارة الثورات العربية في تونس مطلع العام السابق، شهدت ست دول عربية موجات من الاحتجاجات والاضطرابات التي تباينت في مردودها بين القضاء على النظام الحاكم كما في تونس وليبيا، وإن كانت الأخيرة تمت بتدخل خارجي، وهناك دول أزاحت رؤوس النظام من دون باقي أركانه كمصر واليمن، أما في سوريا فمازالت الصراعات مستمرة بلا هوادة بين المعارضة والنظام، وأخيرا في البحرين تم إجهاض الثورة أو على الأقل احتواؤها.
ومع تعدد التحليلات والرؤى حول الأبعاد الداخلية لهذه الثورات، اهتم معهد الأمن القومي الإسرائيليThe  Institute For National Security Studies، بدراسة التداعيات الإقليمية والدولية للربيع العربي، مع الإشارة إلى الآثار المحتملة على الأمن القومي الإسرائيلي، وذلك في دراسة مطولة أصدرها المعهد شهر مارس 2012، بعنوان "عام على الربيع العربي: التأثيرات الإقليمية والدولية"[i]، والتي شارك في إعدادها العديد من الكتاب والمحللين الإسرائيليين.
ضمت الدراسة أربعة محاور رئيسية، استعرض المحور الأول الثورات العربية في عام، وتناول الثاني الأبعاد العالمية، بينما ركز الثالث على الأبعاد الإقليمية، وأخيرا أشار الرابع إلى التداعيات على الأمن الإسرائيلي.
 
من الربيع العربي إلى الشتاء الإسلامي
استعرض عاموس يلدين Amos Yadlin تطورات الربيع العربي خلال عام، مبتدئا بالزعم بأن الثورات العربية بدأت علمانية وانتهت إسلامية. وأن الإسرائيليين كغيرهم كانوا يتوقعون في بداية الأمر أن يشهد العالم العربي تحولات علمانية ليبرالية موسعة تضاهي في تأثيرها ما أحدثته الثورة العربية الكبرى مطلع القرن العشرين من إزالة الخلافة الإسلامية وترسيم الحدود بين الدول العربية، إلا أن الواقع أثبت أن الإسلاميين هم من اقتطف الثمرة في رأيه، نظرا لأن هذه الثورات جميعها تفتقد إلى القيادة والأيديولوجية، مما سهل على الإسلاميين اختطافها على حد زعمه.
كما أثبتت هذه التحولات العربية سذاجة الإفراط في تفاؤل البعض مع بدايات الأحداث في الأثر الذي يمكن لشبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية أن تحدثه، إلا أن الواقع أكد أن التأثير الحقيقي في المساجد والعمل المجتمعي وهو ما يجيده الإسلاميون، وظهرت بوادره في نتائج الانتخابات. وتوقع البعض أيضا أن يمتد تأثير الثورات إلى باقي الدول العربية، إلا أن ست دول فقط من بين 22 دولة هي التي شهدت حراكا ثوريا.
 
أمريكا وأوروبا والربيع العربي
في بحثه حول كيفية مواجهة الولايات المتحدة للتحديات التي فرضها الربيع العربي، أكد عوديد عيران Oded Eran أن أمريكا مارست سياسة خارجية ذات بعدين متناقضين تجاه الشرق الأوسط، ففي الوقت الذي قررت فيه التخلي عن العراق بعد ثماني سنوات من الاحتلال، تجد نفسها مجبرة على التدخل لوقف ملف إيران النووي. ومن المحتمل أن اقتراب الانتخابات الأمريكية مثل قوة ضغط دفعت بإدارة أوباما إلى الظهور بمظهر الذي لا يتخلى عن موقفه تجاه إيران، في الوقت الذي لا يبدي فيه الشركاء الأوروبيون تعاونا يذكر في هذا الشأن.
وهناك تحد آخر للإدارة الأمريكية يتمثل في كيفية مواجهة الأزمة السورية، فبعد التدخل في ليبيا لم تظهر الدول الأوروبية حماسا تجاه التدخل العسكري في سوريا، مما أثار مخاوف أمريكا في أن تتصدى بمفردها للدعوة لهذا التدخل فتتحمل تكاليفه بمفردها، وهو الأمر الذي لن يقبل به الأمريكيون خاصة مع اقتراب الانتخابات. كما تعمل الولايات المتحدة على تحريك العملية السياسية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والسباق نحو البيت الأبيض يحد من مواصلة هذا الطريق. يأتي هذا في الوقت الذي تواجه فيه الولايات المتحدة التخوفات الإسرائيلية بشأن مستقبل العلاقة مع مصر مع تصاعد المد الإسلامي. من أجل كل هذه التحديات يعتقد عيران أن أمريكا في حاجة ماسة لحليفتها إسرائيل لإعادة تشكيل الشرق الأوسط في أعقاب الثورة العربية.
وفي دراسة الباحث "شتاين" عن الاتحاد الأوروبي والربيع العربي، أكد أن الدول الأوروبية شاركت من قبل في دعم الحكام العرب من أجل المحافظة على إمدادات النفط من جهة، واحتواء انتشار الإسلام الراديكالي من جهة ثانية، ومنع الهجرة غير الشرعية من جهة ثالثة.
إلا أن الأحداث الدراماتيكية التي شهدتها تونس ومصر، وفيما بعد ليبيا وسوريا، اضطرت الاتحاد الأوروبي لتقييم الوضع والتوصل إلى إستراتيجية جديدة تقوم على تعزيز الديمقراطية ومساعدة منظمات المجتمع المدني، وزيادة المساعدات من أجل التنمية الاقتصادية، على أن تكون مساعدات مشروطة بالممارسة الديمقراطية وإلا سيتم منعها، بل وفرض عقوبات إذا لزم الأمر (كما في حالة ليبيا). ومع ذلك فإن الأزمات المالية المتكررة التي يتعرض لها الاتحاد الأوربي ستحد من إمكانية تقديم الدعم لدول الشرق الأوسط.
كما أن الربيع العربي أظهر مدى التخبط في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي،  والذي ظهر حين أعلن ساركوزي اعترافه بالمجلس الانتقالي الليبي من دون التنسيق مع باقي الزعماء الأوروبيين، كما تعثر حدوث اتفاق بين دول الاتحاد بشأن التدخل العسكري وفرض العقوبات على النظام الليبي. لكن يبقى أن أوروبا تعلمت أنه لا بد من إعادة ترتيب علاقاتها المستقبلية مع الشرق الأوسط، على أساس من الشراكة يقوم على افتراض أن دول المنطقة هي التي تختار النموذج الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي تتبناه. وأن ما يجري في المنطقة يُحدث تأثيره المباشر على الاتحاد الأوروبي.
 
روسيا والقاعدة
وتناول زيفي ماجن Zvi Magen الموقف الروسي خلال عام على الثورات العربية، والذي اتسم بالتعقيد والتخبط؛ فمازالت روسيا تحاول الحفاظ على مكتسباتها في المنطقة عبر دعمها للمحور المعادي للغرب والمتمثل في إيران وحزب الله اللذين يدعمان بدورهما سوريا.
ومع محاولة روسيا تجنب التورط في المنطقة، فإنها تبدو كما لو كانت تناصر النظم الاستبدادية حتى آخر لحظة، ومع ذلك تحتفظ بعلاقة جيدة مع الحركات الثورية؛ فعلى سبيل المثال، تدافع روسيا عن نظام الأسد بقوة، وفي نفس الوقت تتوسط بينه وبين المعارضة على أمل أنه لو سقط فلا تخسر المعارضة التي ستشكل الحكومة الجديدة، وإذا فشلت الثورة لا تندم على إفساد علاقتها بالأسد.
كل هذا في الوقت الذي تسعى فيه روسيا حثيثا للترويج لمؤتمر السلام في موسكو هذا العام، لاستعادة المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين تحت رعايتها، وكأنها تحاول الاستفادة من تداعي النفوذ الأمريكي في المنطقة لصالحها.
أما بالنسبة للقاعدة فقد أكد يورام شفايتزر Yoram Schweitzer في دراسته، أن إسراع كثير من المحللين فور انطلاق شرارة الثورات العربية إلى القول إن هذه الانتفاضات كانت ضربة قوية للقاعدة وحلفائها في المنطقة، ثبت أنه كان تصورا خاطئا، أو على الأقل سابقا لأوانه.
فقد استفادت القاعدة من الأوضاع الراهنة، خاصة في ليبيا واليمن وسعت بقوة لتأكيد وجودها، بل لقد خدم تفكيك الأجهزة الأمنية في مصر هذا التنظيم بشدة، حيث كان يقف لها بالمرصاد، وبالتالي فقد أوجدت لنفسها مكانا داخل الأراضي المصرية، على حد قول شفايتزر الذي يدلل على وجود القاعدة في مصر بالتفجيرات المتتالية لأنابيب الغاز المتجهة إلى إسرائيل، بل ويخلط بين تواجد القاعدة وتصاعد المد السلفي والإخوان في مصر، وهو الأمر الذي يحوي الكثير من المغالطات.
 
التداعيات الإقليمية
ومن التداعيات العالمية إلى الإقليمية، حيث شمل هذا المحور سبع دراسات حول أهم القوى الفاعلة إقليميا وتأثير الربيع العربي عليها. فإيران على سبيل المثال، توقعت لدى انطلاق الثورات العربية عدة نقاط إيجابية تصب لمصلحتها، من أهمها استعادة العلاقات مع مصر، وإمكانية بناء حوار مع القوى الإسلامية المتصاعدة، وكذلك انشغال كل الأنظمة العربية بتثبيت أوضاعها يحول دون موقف موحد ضد التهديدات الإيرانية، كل هذا جعل إيران ترحب بالانتفاضات العربية علها تحقق دورا رياديا لها في المنطقة. ولكن سرعان ما انهارت أحلامها بعد موقفها المخزي من الثورة السورية.
ومن ثم فقد منيت كل توقعاتها بالفشل، فلا هي استعادت علاقتها بمصر، ولا استطاعت بناء حوار مع القوى الإسلامية السنية، ولا نجحت في دعمها للاحتجاجات الشيعية في البحرين، بل لقد خسرت كل ما كانت أحرزته خلال العامين السابقين من تحسن علاقتها مع تركيا، بعد وقوفها إلى جانب نظام الأسد، والأدهى من ذلك أنها لم تعد بمأمن من امتداد الاحتجاجات إليها هي نفسها، وربما لا تستطيع أن تقضي على الاحتجاجات القادمة بالقوة كما فعلت عام 2009.
وتعتبر تركيا بالطبع الحصان الرابح في خضم أحداث الربيع العربي، خاصة أن الكثير من المحللين يقارن بين حزب العدالة والتنمية التركي، وبين أحزاب إسلامية ناشئة أو قديمة كحزب العدالة والتنمية المغربي أو حزب الحرية والعدالة المصري، أو حزب النهضة التونسي، والتي ربما تستلهم التجربة التركية في الحكم، وهو ما تدركه تركيا جيدا وتسعى لدعم دورها الريادي في المنطقة على أساس أنها ملهمة القوى الإسلامية في المنطقة، خاصة مع تراجع الدور الأمريكي.
أما بالنسبة للدول العربية التي لم تشهد حراكا ثوريا، فيمكن تقسيمها إلى مجموعتين من الدول، المجموعة الأولى تضم ممالك وإمارات بعضها استعان بالمال والفوائض النفطية في مواجهة أي احتجاجات (دول الخليج)، وبعضها (الأردن والمغرب) سارع بتلبية طموحات الشعب من دون انتظار لتفاقم الاحتجاجات.
بالإضافة إلى أن الطابع القبلي لا يزال قويا في هذه الدول، مما يسهل حفاظ العائلات المالكة على اتصال مباشر بزعماء القبائل من دون وساطة. ولعبت أيضا الشرعية الدينية دورا هاما في الحفاظ على بعض هذه الأنظمة من امتداد الاحتجاجات إليها. وأخيرا قامت بعض هذه الأنظمة بخطوات استباقية كالتعجيل بالانتخابات التشريعية، وإحداث إصلاحات سياسية تمتص غضب الشعوب.
أما المجموعة الثانية فتشمل تلك الدول التي عانت في العشرين عاما الأخيرة من حروب أهلية واضطرابات وتدمير للبنى التحتية كالعراق ولبنان والجزائر وفلسطين.
 
الرعب الإسرائيلي
نأتي الآن إلى الجزء الأكثر أهمية في الدراسة، وهو المتعلق بتداعيات الربيع العربي على إسرائيل، وأول هذه التداعيات ما يتعلق بسقوط نظام مبارك الذي كان يمثل خط الدفاع الأول عن الأمن القومي الإسرائيلي، ومن ثم فإن الإسرائيليين لن يغفروا للولايات المتحدة تخليها عن مبارك على حد قول عوديد عيران.
ومع تصاعد هيمنة الإسلاميين في المنطقة بعد الربيع العربي، فإن المخاوف الإسرائيلية تزداد بشأن الأمن القومي الإسرائيلي، ومن هنا لابد من الاستعداد للتعامل مع أية عواقب قد تنجم، بما فيها ضرورة الحفاظ على النظام الأردني الذي يقوم بدور شبيه بما كان يفعله مبارك، من هنا فإن الدراسة توصي بأنه يجب على أمريكا ألا تسمح بتكرار خطئها، لأن في استمراره ضمان مصالح إسرائيل الأمنية.
كما توصي الدراسة بضرورة فتح قنوات اتصال مع الإسلاميين على غرار ما قامت به أمريكا، للحد على الأقل من سوء الفهم بين الجانبين، كما يجب على إسرائيل أن تولي أهمية لملف التسوية مع الفلسطينيين، لأن الحرية التي تمتعت بها إسرائيل من قبل ربما لن تتكرر.
وعلى صعيد أسلحة الدمار الشامل، تؤكد الدراسة على تصاعد المخاوف بشأن انتشار هذه النوعية من الأسلحة في دول الربيع العربي، فالنظام السوري الذي لم يتردد في مواجهة شعبه بالأسلحة الكيماوية والبيولوجية قد يلجأ إلى مهاجمة إسرائيل بهذه الأسلحة لصرف الأنظار عما يفعله في الداخل، وقد تقع مخازن الأسلحة تحت أيدي الثوار، ويتكرر ما حدث في ليبيا.
أيضا فإن اكتشاف مخابئ للأسلحة الكيماوية بعد سقوط القذافي في ليبيا، وانتشار الفوضى في البلاد، قد يؤدي إلى وصول هذه الأسلحة لأيدي إرهابيين أو منتمين إلى تنظيم القاعدة. بالإضافة إلى التخوف بشأن الأنظمة الجديدة في البلاد التي نجحت فيها الثورات والتي لا يمكن التنبؤ بخططها المستقبلية حول تطوير الأسلحة الكيماوية والنووية، خاصة مع تصاعد الإسلاميين في هذه البلاد، وهو ما يثير رعب إسرائيل على وجه الخصوص.
 
استعدادات عسكرية
أما على صعيد جيش الدفاع الإسرائيلي والخطط الأمنية المستقبلية، فإن على إسرائيل بحسب الدراسة أن تسارع للقيام بالعديد من الإجراءات الاستباقية.
ففي قطاع غزة، فرض الواقع السياسي الجديد في مصر على إسرائيل أن تغير من مواقفها العسكرية، فأي عملية عسكرية في غزة ستواجه برد قاس من الشارع المصري للضغط على النظام باتخاذ ردود فعل عنيفة، وبالتالي فإن إسرائيل لن تجد المناخ المواتي لها الذي لاقته أثناء عملية "الرصاص المصبوب" على قطاع غزة قبل ثلاثة أعوام.
لذا فإنه يجب على الإسرائيليين استمرار التنسيق مع الولايات المتحدة من جهة، وإقناع الرأي العام العالمي والعربي - بما يشمل الرأي العام المصري - بضرورة القضاء على البنية التحتية للإرهاب، خاصة مع استمرار إطلاق الصواريخ من غزة، وهو الأمر الذي يجب على إسرائيل استغلاله جيدا. كما أنه لا بد من إعداد خطط استباقية لأية تطورات تتعلق بإلغاء معاهدة السلام مع المصريين أو تعزيز الوجود العسكري المصري في سيناء في ظل قيام حكومة من الإسلاميين.
أما بالنسبة لمرتفعات الجولان، فليس من الواضح ما ستؤدي إليه الأحداث في سوريا من نتائج، لذا لابد على جيش الدفاع الإسرائيلي الاستعداد للتعامل مع أية محاولات للتسلل سواء كانت عفوية أو منظمة، بما في ذلك جمع المعلومات الاستخباراتية وتدريب القوات الإسرائيلية، والتنسيق مع القوات الدولية المتمركزة في المنطقة.
أخيرا، فإن الصورة الذهنية حول الأمن القومي الإسرائيلي قد تصبح وهمية إذا ما انزلقت إلى مواجهة واسعة النطاق مع الجانب الفلسطيني، فقد يحدث انقلاب داخل المجتمع الفلسطيني تأثرا بعدم الاستقرار في المنطقة، أو قرار من جانب القيادة الفلسطينية بالدخول في مواجهة إذا ما ارتأت أن مثل هذه المواجهة تخدم طموحاتها السياسية، وفي الحالتين لا بد من الاستعداد للتعامل مع أية اضطرابات قد تعيد الانتفاضة الأولى إلى الذاكرة.
وتؤكد الدراسة في ختامها أن التغيرات التي يشهدها الشرق الأوسط ما زالت في بداياتها، وقد تؤدي عمليات التحول الديمقراطي إلى تحسين الظروف المعيشية للمواطنين وتعزيز الاستقرار في المنطقة، ولكنها أيضا قد تؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها بالنسبة لإسرائيل، التي لن تتردد في استخدام القوة لتعزيز شرعية وجودها في المنطقة!
 


[i] Yoel Guzansky & Mark A. Heller (Eds.), One Year of the Arab Spring:Global and Regional Implications, Memorandum No. 113, Institute for National Security Studies, Tel Aviv, March 2012.