الأحد، 29 يناير 2012

إسلاميو مصر ومستقبل الإسلام السياسي.. رؤية تركية



أمل خيري

إسلام أون لاين


في الوقت الذي مثلت فيه الثورة الشعبية المصرية نقطة تحول فارقة في تشكيل مصير الشعب المصري، برزت على الساحة مخاوف من استبدال الحكم الديكتاتوري الفاسد بحكم إسلامي، بدأت تظهر إرهاصاته في النجاح الساحق للإسلاميين في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.

البعض بالطبع بالغ في مخاوفه، بينما قلل آخرون من هذه المخاوف واعتبرها من قبيل المبالغة. وفي الموقع الالكتروني للمنتدى العالمي World Bulletin حاول الكاتب التركي إسماعيل دومان نقل صورة محايدة للرؤى المختلفة حول مستقبل الإسلام السياسي بعد فوز الإسلاميين في مصر، في دراسته التي نشرها على الموقع في جزئين.

لماذا فاز الإسلاميون؟

استهل دومان دراسته باستكشاف العوامل التي وقفت وراء فوز الإسلاميين في الانتخابات الأخيرة، وذكر تعدد الآراء بهذا الصدد، وإن كانت هناك الكثير من النخب الليبرالية والعلمانية في مصر ترجع ذلك إلى تنظيم القوى الإسلامية مقابل عدم استعداد الفئة الثورية من الشباب لخوض الانتخابات، إلا أن دومان اعتبر ذلك من قبيل تسطيح الأمور؛ إذ أن الانتخابات قد تأجلت بناء على طلب هذه النخب لمدة تقارب العام لم تستطع خلالها القوى الثورية تثبيت أقدامها في الشارع المصري.

في المقابل، فإن التحليل الأكثر منطقية أن تنظيم هذه القوى هو فقط أحد هذه العوامل، بينما تتفاعل عوامل أخرى من بينها، المزاج العام للشعب المصري الذي يرفض الفكرة العلمانية، والذي يعتقد أن الحكومات العلمانية السابقة شهدت فسادا غير مسبوق، وأنه آن الأوان لتجربة شكل جديد من الحكم، خاصة أن الدولتين اللتين حققتا أكبر مكاسب اقتصادية في المنطقة وهما إيران وتركيا، تخضعان لحكم إسلامي.

وربما كان أيضا من عوامل نجاح هذه القوى الإسلامية، ما تتبناه من مواقف تجاه القضية الفلسطينية، وهي القضية الأهم بالنسبة للشعوب العربية. كل ذلك بالإضافة إلى انتشار هذه القوى في الأحياء والمناطق الريفية والحضرية سواء في المساجد أو الجمعيات الخيرية، خاصة في المناطق المحرومة، التي لم تجد اهتماما بمشكلاتها إلا من الإسلاميين على مدى العقود الماضية.

والأمر الأخير، أن القوى الغربية والإقليمية التي سعت حثيثا على مدى السنوات الأخيرة لمنع الإسلاميين من الوصول إلى الحكم -كما في حالة الجزائر أو فلسطين على سبيل المثال-، قد أدركت تماما أن الوضع اليوم مختلف جدا؛ فالأحزاب الإسلامية المنتخبة ترتكز على قاعدة قوية من الشرعية الشعبية التي لم تكن موجودة من قبل.

خريطة الأحزاب الإسلامية

يستعرض دومان خريطة لأهم الأحزاب الإسلامية في مصر، ومن ثم يركز على الحزبين الأكبر تأثيرا في الساحة، وهما حزب الحرية والعدالة –الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين-، وحزب النور –الخارج من عباءة الحركة السلفية-، ويلخص أهم المبادئ التي يرتكز عليها الحزبان.

فبالنسبة لحزب الحرية والعدالة، فقد تأسس رسميا في مايو 2011، وأعلن بوضوح التزامه بالدولة الحديثة والديموقراطية وحقوق المرأة، والوحدة الوطنية. وقد ضمت عضوية الحزب الكثير من النساء والأقباط.

ويدعم الحزب نظام الحكومة البرلمانية، على أساس أن مثل هذا النظام سيعمل على التوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. كما يتبنى الحزب المساواة بين الأفراد أمام القانون، والعدالة الاجتماعية، والتضامن بين جميع أفراد المجتمع. وفيما يتعلق بالسياسة الاقتصادية، فإن الحزب يدعم بوضوح الملكية الخاصة، والأعمال التجارية الخاصة، وحلول السوق الحرة، كما ينبغي أن يقتصر دور الدولة الاقتصادي على توفير مناخ استثماري صحي والحفاظ على البنية التحتية للبلاد.

بالطبع فإن قضية الدين والدولة تطرح نفسها بقوة في برنامج الحزب الذي يعلن صراحة التزامه بـ "الدولة المدنية"، التي لا يقودها الجيش أو رجال الدين، وفق مقاصد الشريعة الإسلامية.

وفيما يتعلق بالشأن الخارجي، يؤكد برنامج الحزب على أن "المشكلة الفلسطينية" تعد واحدة من القضايا الأكثر أهمية التي تتعلق بالأمن القومي المصري، ومن ثم يدعم الحزب حقوق الفلسطينيين في إقامة دولتهم وعاصمتها القدس، فضلا عن تبنيه حق العودة. ومع ذلك يظل موقف الحزب يحيطه الكثير من الغموض بشأن مصير اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل.

ينتقل دومان بعد ذلك إلى حزب النور ثاني الأحزاب الإسلامية شعبية في مصر، والذي تأسس في يونيو 2011. ويعد إنشاء هذا الحزب أحد أبرز منجزات الثورة؛ إذ ظل السلفيون غير مهتمين بالعملية السياسية قبل الثورة، إلا أنهم ما لبثوا أن تفتحت شهيتهم للممارسة السياسية فشكلوا حزبي النور والأصالة، وإن كان الأول هو الأكثر قوة.

برنامج الحزب يدعم حكومة برلمانية – رئاسية في آن واحد على غرار النظام الفرنسي الحالي. كما ينص على ضرورة إعادة توزيع الدخل والثروة بين الشعب المصري، وهذا يتناقض مع برامج معظم الأحزاب الرئيسية، والتي عادة ما تتبنى الدعوة لوضع حد أدنى لائق للأجور، دون إشارة صريحة إلى ضرورة إعادة توزيع الثروة.

ووفقا لبرنامج الحزب، فإنه ينبغي إدارة الاقتصاد الوطني بما يتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية، وبالتالي يجب إلغاء كل التشريعات التي تنظم القطاع المصرفي والتمويل، والتي تقوم على الفائدة المحرمة في الإسلام. وتحتل الهوية جانبا هاما من برنامج الحزب، الذي يؤكد على تطبيق الشريعة بطريقة تدريجية تتناسب وطبيعة للمجتمع.

ومن الغريب أن قسم العلاقات الخارجية في البرنامج الانتخابي لحزب النور شديد الإيجاز، ويؤكد على التزام واسع النطاق بتعزيز دور مصر الإقليمي والدولي، وتحسين علاقاتها مع البلدان المجاورة. ولا يوجد ذكر لموقف الحزب تجاه الحقوق الفلسطينية أو معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، على الرغم من التشديد على أهمية احترام المعاهدات والاتفاقيات القائمة. وإن كانت أحد التصريحات الصادرة من بعض قيادي الحزب قد أشارت إلى معارضة إلغاء معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية، مع الدعوة إلى مراجعة بعض أحكامها، مع التعهد بعدم أخذ قرار بشأن مستقبل المعاهدة إلا من خلال استفتاء وطني.

مخاوف من انتصار الإسلاميين

نأتي الآن إلى الجزء الأهم من دراسة دومان، التي ركز فيها على أبرز المخاوف من انتصار الإسلاميين، فهناك من يرى أن فوز الإسلاميين يهدد مستقبل السلام مع اسرائيل والتعاون مع أمريكا. وهناك من يخشى ظهور حكومة اسلامية شعبية، تبدد كل جهود النخب العلمانية المستندة على الدعم الغربي. وتأتي بالطبع التخوفات الغربية من تقييد حقوق المسيحيين، ويبالغ البعض في القلق من ظهور طالبان أخرى أو إيران جديدة في مصر.

على النقيض من هذه المخاوف، نجد خطاب الأحزاب الإسلامية هادئ جدا؛ فقد أكد حزب الحرية والعدالة أكثر من مرة، على أن الإخوان المسلمين إذا قدر لهم تشكيل حكومة فستكون حكومة ائتلافية واسعة قدر الإمكان، وذلك عن قناعة تامة وليس فقط لمجرد تهدئة التيارات الليبرالية والعلمانية، فضلا عن الأقباط والجيش في مصر.

كما صرح المتحدث باسم حزب النور بتفضيله للنموذج الاقتصادي البرازيلي، نافيا أي توجه نحو نموذج ديني، مؤكدا أن الشعب المصري لن يسمح لأي حزب بممارسة الديكتاتورية وفرض الرأي. كما يرغب الحزب في تعاون أقوى وأشمل مع تركيا.

وهناك العديد من التصريحات المشابهة من قبل حزب الحرية والعدالة، في الإشارة إلى تركيا، لذا كان لابد من النظر في واقع النموذج التركي، من أجل فهم هذه التصريحات من جانب الإسلاميين في مصر.

النموذج التركي

هناك تلازم بين النموذج التركي وحزب العدالة والتنمية الذي يستلهم كثير من الإسلاميين تجربته. ويمكن القول أن أبرز مبادئ الحزب فيما يتعلق بالسياسات الداخلية تتلخص في الحفاظ على نمط حكومة علمانية وديمقراطية في مجتمع يشكل المسلمون الغالبية الساحقة فيه. ووفقا للحزب فإن العلمانية تعني أن على الدولة أن تقف على مسافة متساوية من جميع الأديان، وأن يتم تقييم الحكومات المنتخبة وفقا لأدائها في السلطة، وتعزيز فكرة أن الحكومة ستبقى في السلطة طالما ضمنت الرخاء العام للشعب.

وفيما يتعلق بالسياسات الخارجية، فإن فكرة حزب العدالة والتنمية ترتكز على الرغبة في بناء علاقات تعاون مع الجهات الخارجية تقوم على التعاون المتبادل والمصالح الاستراتيجية المشتركة، مع ارتداء النظارة الأيديولوجية قدر الإمكان بخصوص التطورات الخارجية وتحديد أولويات ودوافع التحرك الذي يجب ألا يخلو من الواقعية.

إذن يمكن القول أن اعتماد الواقعية والنهج العملي قد ساعدا تركيا على إضفاء الطابع المؤسسي على النظام الإقليمي والعالمي على أساس الشرعية والمساواة، كما أصبح تعريف المصلحة الوطنية مزيجا من الرخاء والأمن في الداخل والخارج.

ومع ذلك فإن مصطلح النموذج التركي لا يعني أبدا أنه يمكن تطبيق هذه السياسات الداخلية والخارجية على النحو المذكور أعلاه تلقائيا في بلدان الشرق الأوسط. في التحليل النهائي، هناك تباين في الديناميات الداخلية، وكل دولة لديها تصورها الخاص بها. على سبيل المثال، في بعض البلدان (مثل مصر)، من الواضح أن هناك رغبة شعبية عارمة في أن يكون للدين دور بارز في الحياة الاجتماعية والسياسية.

أما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية التركية، فيعتقد الكثير من المحللين أن النموذج التركي يمكن أن يكون ملهما جدا لحالة مصر، فقد أظهرت تركيا أنه من الممكن أن تكون الدولة ديمقراطية، وفي نفس الوقت لديها علاقات جيدة مع الغرب، ومواقف قوية تجاه السياسات الإسرائيلية الظالمة. ويتوقع البعض أن تلعب مصر دورا إيجابيا في دمج الحركات الإسلامية في الهياكل السياسية في المنطقة، وأن تقدم الأحزاب الإسلامية في مصر نموذجا قد يلهم دول أخرى في المنطقة.

وإن كان البعض يرى في النموذج التركي نجاحا تمثل في أن تركيا في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية المحافظ، قد تمكنت من تحقيق الإسلام والديمقراطية معا، إلا أن هناك من يرى أن السيطرة العسكرية التي تضاءلت على مدى السنوات الثماني الماضية، اقترنت بتكثيف سيطرة الشرطة التي أصبحت أكثر عنفا ضد الاحتجاجات المؤيدة للدعوة إلى إصلاحات السوق الحرة، كما اقترنت بتركيز القوة في يد السلطة التنفيذية، وهو ما لن يقبله المصريون في الفترة المقبلة، خاصة في ظل استمرار الاحتجاجات الشعبية.

الوجه المتغير للإخوان

حين نتحدث عن النموذج التركي فليس الأمر من قبيل الصدفة؛ إذ أن هذا النموذج يمثل تجربة حية للوجه المتغير للإسلام السياسي في الفترة الماضية. فقد دخل الإسلاميون الساحة السياسية في تركيا مطلع القرن الحادي والعشرين، بعد سلسلة من التحولات الفكرية من الراديكالية إلى الاعتدال. وبالطبع فإن هذه التجربة تستدعي فورا ما طرأ على جماعة الإخوان المسلمين في مصر من تحولات فكرية أيضا.

فحين تأسست الجماعة عام 1928، كانت البديل الأكثر قوة للأحزاب القومية العلمانية الهشة التي كانت قائمة في ذلك الوقت الذي كانت مصر واقعة فيه تحت الاحتلال البريطاني. وهنا بشر حسن البنا –مؤسس الجماعة- بالأصولية الإسلامية، ودعا إلى قيام دولة إسلامية غير معزولة عن التقنيات الغربية الحديثة الخاصة بالتنظيم السياسي والممارسة الديمقراطية. وفي غضون سنوات قليلة أصبحت الجماعة لاعبا أساسيا في السياسة المصرية.

إلا أن الجماعة أصبحت أكثر عنفا في معارضتها للبريطانيين قبيل الحرب العالمية الثانية، وشاركت في إسقاط الملكية، إلا أنها ما لبثت أن تعرضت للقمع في عهد عبد الناصر.

وفي ظل حكم مبارك استمرت الجماعة الأكثر معارضة للنظام رغم الاعتقالات الموسعة والتضييق الأمني، ومع ذلك ظلت على منهجها في نبذ العنف، حتى أنها تعرضت للانتقاد الشديد من قبل إسلاميين أكثر راديكالية كأيمن الظواهري، وتمسكت بتقديم الخدمات الاجتماعية والصحية للشعب المصري.

شهدت الجماعة أيضا تحولا هاما في خطابها السياسي، وتبنت مفردات أكثر توافقية، منها على سبيل المثال، التحول في تبني مفهوم الدولة من "دولة إسلامية"، إلى "دولة مدنية ديمقراطية ذات مرجعية إسلامية". ويرى كثير من المحللين أن جماعة الاخوان المسلمين في مصر هي الحركة الإسلامية الأكثر قدرة على الممارسة الديمقراطية.

وتولي جماعة الإخوان المسلمين اهتماما كبيرا بالعلاقات الخارجية، لما لها من دور في جذب الاستثمارات الأجنبية، وتحسين وضع مصر الاقتصادي. وكل ذلك يستلزم تعزيز التجارة مع أوروبا والولايات المتحدة، ومن ثم فالجماعة في حاجة إلى تطوير علاقات قوية مع الدول التي تستطيع المساعدة في إعادة بناء اقتصاد الدولة.


الأحد، 15 يناير 2012

الإسلام والعلمانية في أوزبكستان: احتواء الدين لتقوية الدولة

أحدث دراسة فرنسية تقترب من وضع الإسلام في آسيا الوسطى

أمل خيري

إسلام أون لاين


منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي السابق، كان للدين دوره البارز في عملية تكوين الأمة في أوزبكستان. فالحكومة اليوم تتبنى الإسلام كتراث وطني وتوجيه أخلاقي، وهذا ربما يعني تصاعد النشاط الإسلامي، ولكنه قد يعني أيضا بعد عدة سنوات من الاضطرابات في مواجهة التشدد الديني، منذ التسعينيات من القرن العشرين، مزيدا من تشديد الرقابة
الحكومية على التعليم والشعائر الدينية.
وفي ظل افتقار المجتمعات الإسلامية تاريخيا - بالنسبة لأغلب هذه المجتمعات- إلى هيئات دينية مركزية، فإن التطورات السياسية التي شهدها القرن الماضي، مع ظهور تيارات راديكالية تسعى لإحياء الإسلام، دفعت الحكومات في البلدان الإسلامية إلى الشعور بالحاجة إلى مزيد من السيطرة المركزية على الدين.
وحول هذا الموضوع كتب هنريك أولسون Henrik Ohlsson دراسة بعنوان "الإسلام والدولة العلمانية في أوزبكستان:سيطرة الدولة على الدين وآثارها على فهم العلمانية"[1]، والتي نشرت بالعدد الأخير والخاص من مجلة آسيا الوسطى[2] Cahiers d’Asie central، الصادرة عن المعهد الفرنسي لدراسات آسيا الوسطى، وجاء العدد الخاص بعنوان "تعريف الهوية".
وتهدف الدراسة إلى التعريف بالهياكل الرسمية التي تتحكم في الدين في أوزبكستان المعاصرة، وكيف يمكن فهم العلمانية في ضوء هذا التحكم. وقد صاغ أولسون السؤال المحوري لدراسته على النحو التالي: هل هي بداية لبلورة شكل جديد من أشكال تقديس الإسلام داخل إطار الدولة القومية؟ وبشكل أكثر تحديدا، هل مؤسسات الدولة في أوزبكستان أصبحت دينية، أم أنها ما زالت جزءا من هيكل الدولة العلمانية؟
ما هي العلمانية؟
يستهل أولسون دراسته بمحاولة تحديد المعنى الأساسي لكلمة العلمانية، وينطلق من أبسط التعريفات والتي انتشرت على نطاق واسع، وتختصر العلمانية في أنها تعني درجة من الفصل بين السلطتين السياسية والدينية. ومن ثم فإن الكاتب يؤكد على التفرقة بين ثلاثة مفاهيم مختلطة، العلمانية كأيديولوجية secularism، والعلمانية كتطبيق secularity (أي كسمة للمجتمعات أو الأفراد أو المؤسسات)، والعلمنة secularization (أي العملية الاجتماعية التي تجعل المجتمع يتجه بشكل متزايد نحو العلمانية).
وهنا يبرز الفارق الأساسي بين المجتمعات المسلمة والمسيحية؛ إذ تفتقر الأولى لهياكل دينية مركزية، وهي الأساس الذي تقوم عليه فكرة العلمانية كما ظهرت في الغرب المسيحي الكاثوليكي الذي شهد نوعا من الاحتكار الديني للكنيسة، وظهور قوى علمانية تميل إلى المواجهة المباشرة مع الكنيسة، مما ولد رغبة في إقصاء الدين، فيبدو الأمر كما لو كان هناك نزاع بين سلطتين مركزيتين. ومن ثم فإن المجتمعات المسلمة لم تشهد مثل هذا النزاع لغياب هياكل دينية مركزية، وبالتالي تنتفي الحاجة لظهور فكرة العلمانية. وهو نفس ما حدث في المجتمعات البروتستنتية التي شهدت درجة من التعددية سمحت بتشكيل تحالفات بين قوى سياسية مختلفة، ومن ثم لم يكن الدين في مواجهة السلطة السياسية.
وقد أنتجت التجارب التاريخية المختلفة لعلمنة المجتمعات مجموعة متنوعة من الأشكال التي قد يبدو بها المجتمع علمانيا، فضلا عن تنوع تفسيرات مفهومالعلمانية في سياسات الحكومات المختلفة. وفي هذا السياق ناقش أحمد كوروAHMET T. KURU [3] هذه المسألة باستخدام مصطلحي العلمانية السلبية والعلمانية الإيجابية، وذلك على النحو التالي:
فالعلمانية السلبية تعني الحياد السلبي من الدولة تجاه الديانات المختلفة، والسماح بحضور عام للدين في المجتمع، أما العلمانية الإيجابية فتعني تفضيل الدولة للنظرة العلمانية في الحياة العامة، وسعيها إلى حصر الدين في المجال الخاص. والمثال العملي على العلمانية السلبية الولايات المتحدة، في حين تعبر تركيا بعد أتاتورك عن الديمقراطية الإيجابية. والنموذج الآخر للعلمانية الإيجابية يتمثل في فرنسا، التي تسعى بقوة لتحجيم دور الدين في المجتمع، وحصره في المجال الخاص، وهو ما ظهر مؤخرا في حظر النقاب والرموز الدينية في المدارس.
وكما شهد العالم المسيحي تحولا من الاحتكار الديني إلى مزيد من التنوع، يتوقع أولسون أن تشهد المجتمعات المسلمة توجها معاكسا، نحو الاحتكار الديني بعد مرحلة من التنوع، إذ يعتقد أن هناك اتجاه عام نحو درجات مرتفعة من سيطرة الدولة على الدين في المجتمعات المسلمة، وهو الأمر الذي يستحق الاهتمام.
آسيا الوسطى
ينتقل أولسون من هذه المقدمة إلى تناول الوضع في منطقة آسيا الوسطى التي تشترك في بعض الخبرات مع غيرها من البلدان المسلمة، ولكنها نتيجة لوقوعها سبعة عقود تحت السيطرة السوفيتية تميزت ببعض الخصوصيات التي جعلتها تختلف عن بقية العالم الإسلامي. ففي فترة ما قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، تشاركت المجتمعات المسلمة في وسط آسيا بعض السمات المشتركة مع المجتمع البروتستنتي، الذي تميز بنوع من التعددية وغياب احتكار الدين، ومن ثم لم تشهد هذه المجتمعات سيطرة مركزية للدين.
وفي أعقاب الثورة الروسية عام 1917، حاول البلاشفة بكل ما أوتوا من قوة تصدير العلمانية بالمفهوم الغربي إلى مجتمعات آسيا الوسطى، بل وأنتجت نمطا علمانيا فريدا من نوعه، وذلك نتيجة تبني معظم العلمانيين السوفيت لنوع من العلمانية الإيجابية المفرطة – أكثر بكثير من تركيا أو فرنسا- التي أصبحت جزءا من أيديولوجية الدولة السوفيتية، والتي لم تقنع بمجرد حصر الدين في المجال الخاص، بل سعت لوضعه تحت سيطرة الدولة، وتمثل الهدف النهائي في القضاء التام على الدين من عقول الناس، عبر الترويج لمقولة "الدين أفيون الشعوب"، وتعريف الدين في المصطلحات الماركسية اللينينية على أنه "الوعي الزائف" الذي يشكل عقبة أمام التقدم الاشتراكي.
وعلى الرغم من بعض المحاولات السوفيتية الجادة لإلغاء الدين -خصوصا في العقدين الأولين بعد الثورة- فإن الدولة في نهاية المطاف اضطرت إلى الاستسلام لتشكيل هيئات مركزية للسيطرة على الدين.
الإحياء الديني في أوزبكستان
بعد الاستقلال، طمحت الحكومة الأوزبكية في إحياء التقاليد الاسلامية، إلا أن أوزبكستان –دستوريا- لا تزال دولة علمانية. فالدستور الأوزبكي منذ عام 1992 ينص على وجوب فصل الهيئات الدينية عن الدولة، وعلى أن الدولة يجب ألا تتدخل في الشئون الدينية، وفي نفس الوقت فإن الدولة لديها هيكل ديني رسمي دقيق. فالإدارة الروحية لآسيا الوسطى وكازاخستان (كان يطلق عليها SADUM في الحقبة السوفيتية) ما تزال قائمة، لكن تم إصلاحها وأعيد تسميتها بمجلس مسلمي أوزبكستان.
ومن الواضح أن التطورات التي حدثت في فترة ما بعد الاستقلال، قد أجبرت جميع الجمهوريات السوفيتية السابقة في آسيا الوسطى على إعادة النظر في هذه السياسات الدينية إلى حد ما. ومع ذلك، تباينت مواقف مختلف البلدان مع بروز التطرف الإسلامي وتدفق الأفكار المتشددة من الشرق الأوسط وباكستان؛ ففي طاجيكستان اندلعت حرب أهلية في التسعينيات من القرن العشرين، والتي لعب فيها حزب النهضة الإسلامي دورا فاعلا. وقد نصت معاهدة السلام التي أنهت هذه الحرب على نوع من تقاسم السلطة، تضمن بعض النفوذ لحزب النهضة في البرلمان. ومن وقتها أصبحت الأحزاب السياسية القائمة على أساس الدين تتمتع بحضور قوي في البلاد، بينما تحظر في باقي دول آسيا الوسطى المستقلة عن الاتحاد السوفيتي السابق.
فقد سعت الجمهوريات السوفيتية السابقة في آسيا الوسطى إلى إعادة إنتاج نفسها كدول قومية. وكان الوعي الوطني والقومي قد بدأ يتزايد بالفعل في الحقبة السوفياتية. ومن أجل تجنب الحالة التي تصبح فيها الوطنية أو القومية عائقا في طريق الاشتراكية، تبنى الحزب البلشفي استراتيجية مفادها "وطنية في الشكل، اشتراكية في المضمون". مما عزز من الوعي الوطني لمختلف الشعوب في إطار الاتحاد السوفيتي، ولكن بطريقة مسيطر عليها وذلك لتجنب ظهور أشكال عدوانية من القومية.
وأحد المسائل التي أولاها الاتحاد السوفيتي السابق أهمية -على الأرجح- كانت مواجهة ظهور النزعة القومية التركية، والتي تشكل تهديدا لوحدة للدولة السوفيتية. وقد كانت هذه السياسة فعالة حتى أنه بحلول نهاية الحقبة السوفيتية، ظهرت في الواقع نسخة أقرب إلى "اشتراكي في الشكل، ووطني في المحتوى".
وهكذا، فإن الأرضية اللازمة لتشكيل الدول القومية قد ظهرت بالفعل قبل وقت طويل من الاستقلال، ولكن مع الاستقلال صعدت النزعة الوطنية إلى مستوى جديد. فقد نشأت دساتير جديدة تعتمد اللغات المحلية لغات رسمية للبلاد، بل واحتلت المسائل الدينية أهمية كبيرة على نحو فاجأ حكومات هذه الدول التي ظلت جزءا من الهيكل السياسي السوفيتي العلماني (بل والملحد في بعض الأحيان).
وعلى الرغم من أن الأوزبك يشكلون الغالبية العظمى من السكان في أوزبكستان، فإن هناك عدد من الأقليات، خصوصا الطاجيك والروس والقوزاق، وقد منحت هذه الأخيرة منطقة تتمتع بحكم شبه ذاتي في شمال غرب البلاد. في الوقت نفسه فإن90 ? من السكان في أوزبكستان هم من المسلمين السنة. في ظل هذه الظروف أصبح الإسلام نقطة تجمع طبيعية لهوية جماعية جديدة.
من الانفتاح إلى الحظر
في مطلع التسعينيات من القرن العشرين تدفق عشرات الدعاة الإسلاميين الأجانب على وسط آسيا، في محاولة لاغتنام الفرصة لإعادة هذه البلدان إلى الأمة المسلمة، بعد أن عانوا طويلا في ظل نظام ملحد، وجاءت أكبر مجموعات من الدعاة من تركيا والجزيرة العربية خاصة السعودية. وشملت البعثات التركية حركات صوفية بهدف إعادة إحياء الطرق الصوفية -وعلى رأسها النقشبندية- في موطنها الأصلي.
كما انتشرت أيضا النورسية -وهي حركة إسلامية معتدلة تعود إلى سعيد النورسي- ولكن هذه المرة عن طريق فتح الله جولن أحد تلاميذ النورسي، الذي أنشأ حركة أخرى تحمل اسمه تستوحي الأفكار الصوفية مع مزيج من الحداثة. وقد سعت حركة "فتح الله جولن" بقوة للانتشار في آسيا الوسطى، عن طريق المدارس والمؤسسات التجارية والدعوية والمطبوعات والوسائل الإعلامية، وعلى الرغم من ذلك فقد أغلقت الدولة في أوزبكستان الطريق في وجه هذه الحركة بعد عدة سنوات من العمل، بحجة نشرها المذهب الوهابي المتشدد المتعارض مع التقاليد الإسلامية المحلية والسياسات الحكومية.
فبعد أن رحبت حكومات آسيا الوسطى في البداية بالبعثات الدعوية، سرعان ما أصبحت في نظرها مشبوهة، وقلقت بشأن أهدافها، وخشيت من مخاطر الاضطرابات التي قد تنجم عن الأفكار الدينية المتطرفة. لذا فقد اتخذت الحكومة الأوزبكية موقفا صارما خشية تكرار ما حدث في طاجيكستان المجاورة، خصوصا مع ظهور بعض التطورات على الجبهة الداخلية.
ففي عامي 1992 و1993 قامت الحكومة بطرد حوالي خمسين داعية سعودي من أوزبكستان. وفي عام 1994 قامت بحظر صحيفة "زمان" -الصحيفة التي تصدرها الحركة النورسية التركية-، كما أغلقت مدارس جولن في 1999. كما اضطرت كثير من الطرق الصوفية إلى انهاء أنشطتها في البلاد. وعلى الرغم من التعاطف الرسمي من الحكومة التي تصرح بأن التصوف جزء من التقاليد الوطنية، إلا أنه يبدو أنها تريد للتصوف أن يقتصر على المستوى الفكري، دون أن يتحول إلى قوة تنافس السلطات الرسمية.
ومما يثير الدهشة أنه في السنوات القليلة الماضية كان التواجد التبشيري الأجنبي الوحيد في أوزبكستان ينحصر في الجماعات المسيحية الإنجيلية المختلفة التي ازداد قلق الحكومة منها في الآونة الأخيرة، ليس من منطلق الخوف من أن الكثير من أفكارهم قد تؤدي إلى الإرهاب، بل من منطلق تعارض هذه الجماعات مع القيم العامة، فهذه المجموعات لا تعتبر جزءا من الثقافة الوطنية كالأقليات الدينية الأخرى (اليهودية والمسيحية الرثوذكسية الروسية)، بل تعتبر دخيلة على المجتمع.
انتفاضة يولداش
في عام 1992، في مدينة نمنكان في وادي فرغانة، قامت مجموعة من الشباب المتشدد اسلاميا بالاستيلاء على مقر محلي للحزب الشيوعي السابق. وأجبروا الرئيس كريموف على الحضور إلى نمنكان، وهو ما فعله، واستمع إلى عدد من المطالب، بما في ذلك إقامة دولة إسلامية في أوزبكستان، واعتماد الشريعة الإسلامية كمصدر وحيد للتشريع.
وقد تشكلت في نمنكان منظمة الشباب المتشددة باسم "العدالة"، تحت قيادة الإمام الشاب طاهر يولداش الذي تلقى تعليمه في الجامعات الإسلامية في السعودية وتأثر بالفكر الوهابي، وبقيادة هذه المنظمة انتشرت انتفاضة اسلامية في جميع أنحاء وادي فرغانة -وهي منطقة معروفة حتى في زمن الاتحاد السوفيتي بكونها معقل الحركات الإسلامية- وقامت هذه الانتفاضة بتحدي الحكومة علنا، وأعربت عن أملها فى إسقاط نظام كريموف. ومع ذلك بقي نظام كريموف الذي ضرب بيد من حديد على هؤلاء المتشددين الاسلاميين، الذي اضطر الكثير منهم إلى مغادرة البلاد والانضمام إلى الحركات الجهادية في طاجيكستان وأفغانستان. وكان ذلك بداية عصر من التحول نحو مزيد من سيطرة الحكومة على الدين.
الهيكل الديني الرسمي في أوزبكستان
واحدة من المشاكل التي تواجهها العلمانية في أوزبكستان تتمثل في تصنيف علمانية الحكومة، وهل هي نوع من العلمانية السلبية أم الإيجابية. فالدستور يبدو أنه يعزز الحياد الديني في الدولة ولكن منذ اعتماده، وضعت الدولة العديد من الأدوات القانونية الأخرى التي تتعامل مع التطرف الديني، مثل التعديلات على قانون العقوبات.
ومن أجل الوصول إلى قبضة قوية على النشاطات الدينية في البلاد، أقامت حكومة أوزبكستان هيئات دينية تستند جزئيا على الهياكل القائمة من قبل في الحقبة السوفيتية. وجعلت هذه الهيئات تحت إدارة مجلس الوزراء (الحكومة) مباشرة، وعلى رأسها لجنة الشؤون الدينية (CRA)، التي تتألف من خبراء في مختلف المجالات، والتي تشرف على جميع الأنشطة الدينية في البلاد. وباستثناء الإسلام، هناك (16) ديانة معترف بها رسميا في أوزبكستان، وأكثر من 2000 منظمة دينية مسجلة، والتي يجب أن تحصل على ترخيص من اللجنة.
ونظرا لكون الإسلام ، يشكل دين غالبية السكان، فبطبيعة الحال يتمتع بموقف متميز، إذ يجب أن تكون جميع المساجد ومؤسسات التربية الإسلامية تابعة لمجلس مسلمي أوزبكستان، وهو هيئة تمثيلية تتكون من الأئمة والشيوخ من جميع مناطق البلاد. ويشرف المجلس أيضا على إعادة بناء وصيانة المساجد والأماكن المقدسة مثل المقابر وأضرحة الأولياء المختلفة. والأيديولوجية الرسمية لهذا المجلس هي الإسلام السني الحنفي -على الرغم من وجود أقلية صغيرة من الشيعة الإسماعيلية-، ويرأس هذا المجلس المفتي الذي يتم ترشيحه منن قبل المجلس، بشرط موافقة الحكومة عليه.
وكل هذه الممارسات الحكومية تدل في نظر أولسون على توجه نحو مزيد من التدخل الحكومي في القضايا الدينية مما قد يفيد في فهم نظرة الحكومة الأوزبكية للعلمانية، والتي قد تبدو نوعا من السيطرة والهيمنة على الدين لصالح تقوية النفوذ الحكومي على حساب احتواء الدين.


[1] Henrik Ohlsson, « Islam and Secular State in Uzbekistan: State Control of Religion and its Implications for theUnderstanding of Secularity », Cahiers d’Asie centrale , 19-20 / 2011, mis en ligne le 01 janvier 2012.
[2] يمكن الاطلاع على محتويات هذا العدد على الرابط التالي:
http://asiecentrale.revues.org/index1343.html
[3] أستاذ مشارك، بقسم العلوم السياسية (ومركز الدراسات الإسلامية والعربية)، جامعة ولاية سان دييغو الأمريكية، ومؤلف كتاب "الديمقراطية والإسلام والعلمانية في تركيا"، وكتاب "العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين: الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا".


رابط النشر:
http://www.islamonline.net/ara/article/1304971289338