الخميس، 23 فبراير 2012

دراسة أمريكية: استغلال "الإسلام الرسمي" لمكافحة التطرف

أمل خيري
 إسلام أون لاين
 
على مدى العقد الماضي بذلت السلطات الأمريكية جهودا مضنية، معلنة وأخرى غير معلنة، من أجل "مكافحة التطرف". إلا أن كثيرا من سياسات مكافحة التطرف منيت بالفشل الذريع، كما قوبلت بالانتقاد نظرا لانتهاكها الحريات الدينية. لذا اقترح البعض استراتيجيات جديدة لمكافحة التطرف عبر التحول نحو القوة الناعمة، أو النهج الوقائي الذي يتسم بكونه أقل ضررا على سمعة الحكومة، وأكثر فعالية في نتائجه.
ومن بين هذه الاستراتيجيات الناعمة ما اقترحه صامويل راسكوف (أستاذ القانون في جامعة نيويورك) بتأسيس ما يسمى بـ"الإسلام الرسمي"، والتي قدمها في دراسة بعنوان "تأسيس الإسلام الرسمي: قانون وإستراتيجية مكافحة التطرف"، ونشرت في دورية ستانفورد للقانون الفصلية Stanford Law Review، في العدد الأخير الصادر في يناير 2012.
ويتلخص مفهوم "الإسلام الرسمي" في نظر راسكوف، في التوجه الإسلامي السائد الذي ترعاه الحكومات لتواجه به الأيديولجيات المتطرفة.

مكافحة التطرف
على عكس مفهومي "مكافحة الإرهاب"، أو "مكافحة التمرد"، القائمين على أسس مفاهيمية ثرية، فإن مفهوم "مكافحة التطرف" لا يزال في طور التنظير.
وبالنسبة لأنصار مكافحة التطرف، فإنه يبدأ مع افتراض غير مثير للجدل، يتمثل في أن مظاهر
وجذور التطرف والعنف تكمن في الأفكار والعمليات الاجتماعية السلوكية، ومن ثم فإن فهم هذه الأفكار والعمليات يساعد في منع هجمات في المستقبل، وينبغي أن تؤدي بذلك دورا مهما في سياسة مكافحة الإرهاب الأميركية.
إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة، فالإدارة الأمريكية عادة ما تستخدم إحدى إستراتيجيتين لمكافحة التطرف: العلمانية، أو الدينية.
وتعني الإستراتيجية العلمانية أن الحكومة تسعى إلى إحداث تغييرات في التفكير الديني عن طريق
معالجة أسبابه من دون إشارة الى الدين أو الأيديولوجية. على سبيل المثال ما تبذله الولايات المتحدة من دعم للدول ذات الأغلبية المسلمة كالمساعدات المالية التي يمكنها أن تؤدي إلى الاستقرار، وبالتالي القضاء على البيئة التي ينمو فيها العنف والإرهاب. أيضا، ما تقدمه إلى هذه الدول من مساعدات لدعم الرياضة من أجل امتصاص طاقة الشباب بدلا من توجيهها نحو التطرف. وكذلك برامج الحكم الرشيد ومكافحة الفساد، وغير ذلك من السياسات التي تستهدف تجفيف المنابع وقطع الطريق على أي توجه نحو التطرف أو العنف.
أما الإستراتيجية الدينية (التبشير)، فتعني اتباع إستراتيجيات دينية واضحة لمكافحة التطرف. على سبيل المثال، تحت قيادة الجنرال دوج ستون، قام مسؤولون أمريكيون مكلفون بالإشراف على احتجاز السجناء العراقيين، بإصدار دليل لما أسموه بالآيات القرآنية "المعتدلة" و "المتطرفة"، من أجل غسل أدمغة المعتقلين، والقضاء على التفكير في أي تفسيرات متطرفة للإسلام، كما أصدروا دليلا بالأحاديث الأكثر اعتدالا. أيضا رعت وزارة الخارجية الأمريكية رحلات لدعاة أمريكيين من ذوي الفكر الإسلامي المعتدل لزيارة البلدان ذات الأغلبية المسلمة، بغرض نشر ما أسمته بالإسلام المعتدل.
وكما أنه على الحكومة الأمريكية أن تختار بين هاتين الإستراتيجيتين، فإن عليها أيضا أن تتبنى أحد النظريات الثلاث لمكافحة التطرف: السلوكية، أو الأيديولوجية، أو الوقائية.
وتركز النظرية السلوكية على التعرف على الأسباب الاجتماعية والنفسية التي قد تدفع المسلمين المعتدلين للسلوك المتطرف. إلا أن هذه النظرية تتعرض للانتقاد لكون العلوم الاجتماعية قاصرة عن التنبؤ بشكل صحيح بالعوامل التي تؤدي للإرهاب، وهو ما سجلته كثير من التقارير الأمريكية التي اتهمت الإدارة الأمريكية بالفشل في ذلك النهج.
أما النظرية الأيديولوجية،  فتركز على وجود وانتشار الأيديولوجية الإسلامية المتطرفة، وليس على العمليات النفسية أو السلوكية للأفراد. فقد أكد البعض أن هناك عديدا من الجماعات الاسلامية التي تعلن رفضها للعنف، إلا أنها بفكرها المتطرف تلعب دور "السيور الناقلة" له، ومن بين هذه الجماعات: الإخوان المسلمون، وحزب التحرير، وجماعة التبليغ، فكلها جماعات لا تنتهج العنف، ولكنها في نظر بعض المحللين تعمل على تشجيع التطرف بأساليب أيديولوجية. على سبيل المثال لقد أخرجت السلفية الجهادية قادة متطرفين مثل بن لادن وأنور العولقي وغيرهما.
النظرية الأخيرة هي الوقائية، والتي تعتمد على منع الأفراد أو الجماعات من التوجه نحو التطرف، باتباع أسلوب وقائي شامل، يشار إليه عادة بمصطلح "اجتثاث التطرف"، والذي طبقة دوج ستون كما أسلفنا في المعتقلات الأمريكية.

الإسلام الرسمي المستورد
على مدى السنوات الخمس الأخيرة، التفتت الولايات المتحدة إلى ضرورة مكافحة التطرف على المستوى المحلي، إلا أنها قامت باستيراد بعض الإستراتيجيات الأوروبية، خاصة من بريطانيا.
ولفترة طويلة ظلت سياسة الإسلام في القارة الأوروبية تركز على الهجرة والاندماج وقضايا الهوية، إلا أن التطور الأخير تمثل في سعي بعض الدول الأوروبية –فرنسا وألمانيا خاصة - إلى "تدجين" الإسلام، من خلال إنشاء مؤسسات رسمية تعبر عنه.
على سبيل المثال في عام 2002، أنشأ نيكولا ساركوزي وزير الداخلية في فرنسا آنذاك، المجلس الفرنسي للدين الإسلامي، كوسيلة لإيجاد مؤسسة رسمية تتحدث باسم مسلمي فرنسا من جهة، وللحد من
التدخل الأجنبي في الشؤون السياسية الداخلية لمسلمي فرنسا من جهة أخرى. كما قام المسؤولون الألمان بتعيين أكاديميين مسلمين معتدلين لتدريب الدعاة والمدرسين في المدارس العامة، والتي أثارت انتقادات من بعض المنظمات الألمانية الإسلامية.
على النقيض من ذلك، نجد السياسات البريطانية تختلف في كونها تتبع نهجا استباقيا وقائيا عبر الإسلام الرسمي، حيث استخدمت جميع المؤسسات الحكومية والأجهزة الأمنية لمواجهة صعود الإسلام المتطرف. ومع ذلك فقبل هجمات السابع من يوليو عام 2005، ظلت بريطانيا تنتهج أسلوب عدم التدخل في شؤون مواطنيها المسلمين، إلا أن هذه الهجمات اضطرتها لتغيير نهجها، فاتبعت إستراتيجية جديدة مكونة من أربعة محاور: الملاحقة والحماية والتأهيل والمنع.
تجسدت الملاحقة في قيام السلطات الأمنية بملاحقة وتتبع الإرهابيين والقبض عليهم. في حين تعني الحماية، اتخاذ وسائل أمنية تحسبا لأي هجوم إرهابي محتمل. أما التأهيل فيركز على التخفيف من تأثير الهجمات الإرهابية بمجرد حدوثها.
أخيرا يأتي المنع، الذي يعتمد على تدشين ما يسمى بالإسلام الرسمي من خلال إنشاء وتمويل مؤسسات تابعة للدولة تتصدى للتطرف. على سبيل المثال، اعتمدت الحكومة البريطانية برنامج تمويل إنشاء مجموعات عمل من المسلمين البارزين وكلفتهم باقتراح أفكار لمكافحة التطرف، واتحدت المجموعات تحت شعار "معا لمنع التطرف"، وقدمت عددا من المقترحات، مثل إنشاء المجلس الاستشاري للمساجد والأئمة.
ومع مرور الوقت، توسعت هذه الإستراتيجية لتشمل إنشاء مجموعة أدوات للمدارس لحثها على القيام بدورها في الوقاية من التطرف والعنف، وتقديم الدعم للأفراد المعرضين للعنف والتطرف. ويبدو أن هذه الإستراتيجية الأخيرة استهوت الإدارة الأمريكية وسعت إلى استخدامها.
تأسيس الإسلام الرسمي الأمريكي
اتبعت الإدارة الأمريكية عدة مناهج لتأسيس الإسلام الرسمي؛ فقد بنت الإدارة الأمريكية جهودها لمكافحة التطرف على فكرة الاشتباك، أي الوصول إلى المجتمعات المسلمة، وجعلها جزءا من النظام، بهدف فرض الإسلام الرسمي كواقع اجتماعي.
على سبيل المثال، أنشأ المدعي العام الأمريكي في ولاية أوريجون "شبكة من قادة المجتمع المحلي المسلمين"، بدافع من الرغبة في تثقيف المسلمين، ومنحهم الموارد والدعم حتى يتمكنوا من مواجهة
التطرف من تلقاء أنفسهم. كما قامت الإدارة الأمريكية بإرسال أحد الدعاة المعتدلين إلى جزر المالديف ليحاضر عن التسامح في الإسلام. أيضا قامت برعاية حفلات لفرقة نيتيف دين
Native Deen، في أنحاء الولايات المتحدة لنشر الإسلام المعتدل من خلال الإنشاد.
كما اتبعت الإدارة الأمريكية في بعض الأحيان أسلوب تفويض مهمة مكافحة التطرف إلى المنظمات الإسلامية، ووصل الأمر إلى التدخل في اختيار أئمة المساجد، بل وتوظيف مراقبين (مخبرين) لمتابعة أنشطة المراكز الإسلامية. والأمر نفسه يتكرر مع المدارس الحكومية، حيث يتم التدخل في اختيار المعلمين الذين يوصفون بالاعتدال.
كما أصبح المسؤولون الأمريكيون يشاركون في صياغة ونشر الإسلام الرسمي كجزء من إستراتيجية الحكومة الأمريكية لمكافحة التطرف، عبر جميع الوسائل الممكنة بما فيها الكتيبات والندوات والإنترنت، لمحاولة تشكيل الهوية الإسلامية.
ومع ذلك، هناك العديد من الانتقادات التي تتعرض لها الإدارة الأمريكية بهذا الخصوص، فمن ناحية، تحتاج برامج من هذا النوع إلى قدر من التبصر والقدرة على التنبؤ، وهو ما يؤكد كثير من المحللين افتقاد الإدارة الأمريكية إليه. ومن ناحية أخرى، قد تفشل الحكومة، ليس بسبب الرسالة بل بسبب حاملها، أي أن  الحكومة الأمريكية تفتقر إلى المصداقية بين المجتمعات المسلمة، وتفتقر إلى الخبرة فيما يتعلق بالقضايا ذات الصلة بالدين.
أضف إلى ذلك أن كل الأفكار الراديكالية المعاصرة تعد شكلا من أشكال الرفض للسلطة الإسلامية التقليدية التي ارتبطت تاريخيا بالدولة بشدة. من هنا فإن رفض المسلمين لفكرة الإسلام الرسمي قد تشكل عائقا أمام الإدارة الأمريكية في جهودها لمكافحة التطرف.
ومن بين الانتقادات كذلك لفكرة تأسيس الإسلام الرسمي، ما تؤدي إليه من تمييز مصطنع بين "المعتدلين" و"المتطرفين"، خاصة أن الإدارة الأمريكية تعبر أحيانا عما يسمى بالمسلمين الصالحين والمسلمين السيئين، مما يخلق نوعا من التمييز وعدم المساواة بين المسلمين، قد يفضي في نهاية المطاف إلى المزيد من التطرف بين أولئك المنبوذين. وهناك الانتقادات التي تأتي من دافعي الضرائب الذين يرون تمويل مثل هذه البرامج التي تعزز الإسلام الرسمي نوعا من إهدار الأموال.
تحديات
يرى راسكوف أن هناك تحديات أساسية تواجه عملية تأسيس الإسلام الرسمي، التحدي الأول يكمن في ضرورة ألا تقوم فكرة الإسلام الرسمي على افتراض أن التطرف هو حركة سياسية، بل لا بد أن تعي أن التطرف في الأساس له جذور دينية.
من هنا فإن الإسلام الرسمي يعني إيجاد بديل لهوية دينية راسخة تمنع التوجه نحو التطرف العنيف. ولا يصح النظر إلى التطرف على أنه أيديولوجية سياسية، بل هو أيديولوجية دينية نابعة من المفاهيم الإسلامية نفسها.
كما أن كثيرا من مفردات ومفاهيم الإسلام الراديكالي مستمدة من الأيديولوجيات السياسية الحديثة، بما في ذلك الأيديولوجية الليبرالية. فصعود الإسلام السياسي يتجسد في حركات متنوعة مثل الإخوان المسلمين، وحزب التحرير، وحزب الله، وكل هذه الحركات تشهد على أن لغة ومفردات الخطاب الحديثة مستعارة من الغرب، ولكن تم تسييسها لصالح الأيديولوجية الإسلامية.
بالإضافة إلى أن التمييز بين الإسلام السياسي والإسلام الديني أمر مبالغ فيه بشدة، فهناك جماعات متطرفة – في نظر راسكوف - ومع ذلك ليست سياسية، كجماعة التبليغ، التي تعلن أنها لا تتدخل في النواحي السياسية. كما أن هناك الكثير من الدول على المستوى الرسمي تضع الشريعة الإسلامية من مصادر التشريع الرئيسية في دساتيرها كمصر والسعودية وإيران، ومن ثم فإن الإسلام الرسمي في هذه الدول لا يفصل بين الدين والسياسة.
أما التحدي الثاني فيتعلق بمدى قانونية ودستورية إستراتيجيات الإسلام الرسمي، ومدى انتهاكها للحريات، خاصة أن الدستور الأمريكي ينص على حرية المعتقد وحرية التعبير، ومن ثم فلا يجوز للمسؤول الحكومي أن يتحدث باسم فئة معينة، بل يفوض ذلك إلى فاعلين آخرين خارج المنظومة الحكومية، مثلما يحدث مع المنظمات والمراكز الإسلامية المشاركة في عملية تأسيس الإسلام الرسمي على النمط الأمريكي.
ويبقى السؤال: هل ينجح الإسلام الرسمي على النمط الأمريكي في مكافحة الأفكار المتشددة؟ أم أن المجتمعات الإسلامية سترفضه، كما رفضت من قبل الإسلام الرسمي المرتبط بحكوماتها؟
 http://www.islamonline.net/ara/article/1304971367796


الثلاثاء، 7 فبراير 2012

جزر المالديف.. دولة إسلامية في مواجهة الإسلاميين

دراسة في جامعة البحرية الأمريكية تقترب من الظاهرة

أمل خيري

إسلام أون لاين


ربما لا يعلم الكثيرون منا بوجود دولة صغيرة، عبارة عن مجموعة جزر تقع في المحيط الهندي، جميع سكانها من المسلمين. وعلى الرغم من غياب هذه الدولة المسماة بجمهورية جزر المالديف عن العقل الإسلامي وذاكرة المسلمين، إلا أن الإسلام يحتل فيها مكانة بارزة على مدى قرون طويلة منذ أن دخلها الإسلام.

وشهدت هذه الدولة نوعا من الحكم الاستبدادي الذي أدى في نهاية المطاف لتصاعد المد الثوري الإسلامي، أو كما يحلو للبعض تسميته بالراديكالية الإسلامية. وهو الأمر الذي جذب انتباه بعض الباحثين الغربيين قبل المسلمين. إلا أن الدراسة التي بين أيدينا اليوم ربما تكون الأولى من نوعها في مجال الدراسات الأكاديمية التي تتناول الوضع في جزر المالديف، ويقوم بإعدادها باحث مسلم، ويشرف عليها أيضا أستاذ مسلم. حيث نوقشت رسالة الماجستير المقدمة من الباحث حسن أمير، وأشرف عليها البروفيسور محمد حافظ بمدرسة الدراسات العليا البحرية، بولاية كاليفورنيا الأمريكية، في ديسمبر 2011.

وتهدف الرسالة لاستكشاف العوامل التي أدت إلى تصاعد التيارات الإسلامية في المالديف، وأهم هذه التيارات الموجودة على الساحة.

الإسلام في المالديف

دخل الإسلام جزر المالديف في القرن السادس الهجري - الثاني عشر الميلادي، على يد أبي البركات يوسف البربري الداعية الإسلامي القادم من المغرب العربي. ويروي الأدب الشعبي قصة دخول الإسلام إلى المالديف، حيث قدم هذا الداعية إلى المالديف وراعه أن وجد أهلها غارقين في الخرافات والجهل، الأمر الذي دعاهم بالتضحية بأجمل فتياتهم كل شهر وإلقائها في المحيط اتقاء للعنات إحدى الأرواح الشريرة التي تحيط بالجزر. واستطاع البربري إقناع أهل المالديف بعدم وجود روح شريرة؛ إذ ظل طوال الليل يتلو القرآن في مكان تقديم الأضحية ولم تظهر الروح الشريرة لعدة أيام، وهكذا دخل السلطان المالديفي "درمس كويمالا كالو" الإسلام، وسمى نفسه السلطان محمد بن عبد الله، وأصدر مرسوما ملكيا داعيا جميع المالديفيين إلى اعتناق الإسلام.

ولم يكتف السلطان بذلك، بل أمر بإنشاء المساجد والمدارس الإسلامية في جميع أنحاء الجزر. وهكذا دخل الإسلام المالديف بمرسوم ملكي، مما يفسر ارتباط الدين بالقائم على الحكم منذ أمد بعيد في هذه الجزر المنسية. وربما أيضا يفسر ذلك امتداد بعض التأثيرات الجاهلية على من أسلموا في البداية واستمرار بعض مظاهر الوثنية من الديانات السابقة. وظلت المرأة المالديفية محافظة على تقاليدها، فلم يكن هناك التزام بالحجاب، كما تمسك المجتمع المالديفي بعاداته الاجتماعية، فشهد تاريخ المالديف وجود العديد من الحكام من النساء، ويذكر أن المجتمع المالديفي مجتمع أمومي على غرار بعض المجتمعات الهندية.

ومنذ دخول الإسلام جزر المالديف، أصبح المحيط الهندي قوة عربية لا يُستهان بها، إلا أن هذه القوة تراجعت خلال القرن السابع عشر الميلادي، تزامنا مع بدء اهتمام القوى الاستعمارية بالمنطقة. ومما مهد للاحتلال البرتغالي للمالديف اعتناق السلطان حسن التاسع (المعروف باسم مانويل دوم بعد تعميده) للمسيحية، حيث رحب بالمحتل البرتغالي ودخل في حمايته.

احتلال المالديف

ظلت المالديف تحت الاحتلال البرتغالي من عام 1558 حتى 1573، إلى أن استطاع محمد ذاكروفانو تحريرها بالكامل، وأعلن نفسه سلطانا في البلاد، وبدأ حملته لتطهير الجزر من كافة مظاهر المسيحية التي أدخلها سلفه.

وبعد أقل من قرن، وقعت المالديف تحت الاحتلال الهولندي، ثم البريطاني، ففي عام 1887 أصبحت جزر المالديف محمية بريطانية تابعة لمستعمرة سيلان. وفي عام 1965 نالت المالديف استقلالها، وتحولت من سلطنة إلى نظام جمهوري بناء على استفتاء شعبي، وتولى إبراهيم ناصر رئاسة البلاد عام 1968.

وبرغم التحول من السلطنة إلى الجمهورية، ظلت الممارسات الديكتاتورية للحكام، إذ احتفظ الرئيس بالسلطات المركزية في يده، ولم يسمح بتكوين أحزاب سياسية. بل وأعطت التعديلات الدستورية التي أجريت أعوام 1970، و1972، و1975 مزيد من السلطات للرئيس. وظل رئيس المالديف أيضا مخولا بنشر وحماية الدين الإسلامي، وتطبيق أحكام الشريعة.

وفي عام 1978 تولى مأمون عبد القيوم رئاسة البلاد، خلفا لناصر الذي رفض ترشيح نفسه لفترة ثالثة، رغم عدم وجود أي تقييد على عدد مرات الترشح للرئاسة. وقد تلقى عبد القيوم تعليمه في الأزهر بمصر، وشغل بعض الوظائف التعليمية في نيجيريا. وعندما عاد إلى بلاده بدأ في انتقاد الحكومة فيما يتعلق بمسألة التجاوزات الأخلاقية في السياحة، وبيع المشروبات الكحولية، وغيرها من الأمور التي تتنافى مع الشريعة الإسلامية. وبسبب هذه الانتقادات وضع عبد القيوم قيد الاقامة الجبرية ونفي من المالديف عام 1973. وبعد عودته أصبح وزيرا للنقل، حتى وصوله سدة الرئاسة.

طلائع الصحوة الإسلامية

منذ اضطلاعه بمهام رئيس الجمهورية على مدى ثلاثين عاما، شهدت المالديف في عهد عبد القيوم مزيدا من عمليات الأسلمة للمجتمع، وأصبح الإسلام محركا أساسيا في الخطاب الاجتماعي والسياسي السائد في البلاد.

ومن بين المبادرات التي قام بها إنشاء معهد الدراسات الإسلامية عام 1980. وفي عام 1984 قام بتأسيس المركز الإسلامي بمساعدات من بعض الدول الإسلامية، مثل باكستان وسلطنة بروناي، وبعض دول الخليج العربي. وخلال السنوات الأولى لحكمه بدأت أعداد كبيرة من الشباب المالديفي في الحصول على منح وبعثات للتعليم في دول العالم الإسلامي المختلفة، وكان هؤلاء الشباب هم طليعة الحركة الإسلامية في جزر المالديف.

ولم ينس عبد القيوم يوما أنه نفسه مفكر وداعية إسلامي، فكان يقوم بإلقاء الخطب والدروس بنفسه في المساجد وعبر شاشات التليفزيون. ويرى البعض أن عبد القيوم لم يسمح بظهور أي معارضة ولو حتى في المسائل الدينية، لذا فإن المعارضة كانت تلقى في عهده التنكيل والقمع، وهو الأمر الذي يراه الباحث أحد الدوافع الأساسية لتصاعد المد الإسلامي المتشدد في البلاد.

وربما كان عبد القيوم يحاول تقديم دولته على أنها نموذج للإسلام المعتدل، لتحقيق أمرين:

الأول: من أجل القضاء على التشدد الديني، وتجفيف منابع التطرف.

والثاني: جذب المساعدات والاستثمارات الأجنبية لجزر المالديف، خاصة أن الاقتصاد المالديفي يعتمد على السياحة التي تأتي من الغرب.

من هنا، مكنت سياسة عبد القيوم دولته من اجتذاب الاستثمارات الأجنبية، خاصة من دول الخليج، التي قدمت القروض بشروط ميسرة، مما مكن البلاد من القيام بدور متزايد على الصعيد الدولي، لا سيما في مجال تزعم قضايا المناخ، والتنمية المستقلة للدول الصغيرة.

التحول الديمقراطي والحركة الإسلامية

على الرغم من دور عبد القيوم في نهضة بلاده، ونجاحه في تحقيق العديد من النجاحات على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، إلا أن التدابير القمعية التي انتهجها نظامه على مدى ثلاثين عاما مهدت لتصاعد الحركات الإسلامية، خاصة أنه كان يصم معارضيه بالزندقة والكفر، أو على أحسن الأحوال (أعداء الإسلام).

وما لبثت الساحة السياسية في المالديف أن شهدت قدرا هائلا من التغيير مع الشروع في عملية الإصلاح الديمقراطي، والتي بدأت جديا عام 2003. فقد سمح بتكوين الأحزاب السياسية، وظهرت تحولات في نمط الحكم المركزي بمزيد من الصلاحيات والسلطات للمجالس المحلية.

ومنذ عام 2005 نشأت العديد من الأحزاب السياسية مثل حزب المالديف الديمقراطي، وحزب الشعب الثوري – الذي أسسه عبد القيوم نفسه – ثم أحزاب أخرى أقل حجما مثل، الحزب الجمهوري، والحزب الاجتماعي التحرري.

وقد انقسم الخطاب السياسي الديني إلى خطين رئيسيين:

الأول: انتهجته جميع الأحزاب ضد منافسيها، بوصمهم بمعاداة الإسلام والهرطقة. وهذا النوع من الخطاب قد استخدمه الحزب الديمقراطي بشدة في مواجهة حزب الشعب الثوري.

الثاني: يتركز حول تصاعد الراديكالية والتطرف في المالديف، وكيف أن الحزب الديمقراطي قد ساهم في هذا التصاعد.

وفي مواجهة هذين الخطابين، ظهر خطاب ثالث جديد، تبناه حزب العدالة، وهو أحد الأحزاب السياسية الإسلامية التي تضع الإسلام في مركز السياسة. وقد تمكن الحزب عام 2008 من حصد 15% من الأصوات لصالح مرشحه في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة. إلا أنه في جولة الإعادة شكلت المعارضة تحالفا ضده بقيادة الحزب الديمقراطي، حيث فاز محمد ناشد برئاسة الجمهورية خلفا لعبد القيوم.

حزب العدالة

ويعمل حزب العدالة على نشر الدين الإسلامي والحفاظ على الهوية الإسلامية لشعب المالديف، ويسعى لتطبيق الشريعة الإسلامية. ومن ثم يعد الحزب جزءا من الصحوة الإسلامية، وينتمي العديد من قياداته إلى طلائع الحركة الإسلامية الذين تلقوا تعليمهم في السعودية وباكستان وماليزيا، وبعد عودتهم لبلادهم تم تهميشهم وقمعهم في عهد عبد القيوم لرفضهم قبول فكرة "الإسلام المعتدل" التي روج لها عبد القيوم، لذا حينما شهدت البلاد قدرا من الانفتاح السياسي كانوا أول من سارع بدخول الساحة السياسية للاستفادة من هذا الانفتاح.

ومنذ انتخاب ناشد رئيسا للبلاد، حرص على إزالة كافة المظاهر الإسلامية من الدولة التي أصلها عبد القيوم. ومن هنا بدأ حزب العدالة في الانتقاد العلني لسياسات الحكومة، ومن أهمها ترحيب ناشد بعودة العلاقات مع الكيان الصهيوني، بعد أن كان عبد القيوم قد قطع كافة هذه العلاقات، وسحب اعتراف بلاده بإسرائيل.

وقد دفعت سياسات ناشد بحزب العدالة إلى تنظيم احتجاجات موسعة ومسيرات جابت العاصمة "ماليه"، ضد قرار ناشد بسماحه لفريق طبي إسرائيلي بزيارة المالديف. كما عارض الحزب الحكومة بخصوص السياسات المتعلقة بإعادة التعليم المختلط، وانتقد الحزب هذه السياسات علانية، وازدادت حدة المعارضة حين قررت الحكومة إغلاق المدرسة الوحيدة لتعليم اللغة العربية في البلاد.

كذلك انتقد الحزب توجه الحكومة لإضفاء الشرعية على بيع الكحول ولحم الخنزير في الفنادق التي تستقبل السياح، بحجة اجتذاب المزيد من السياح الأجانب، ودعم الاقتصاد المحلي، مما أجبر الحكومة على التراجع عن هذه القرارات.

بين التحديث والتغريب

ظلت جزر المالديف نقطة التقاء العديد من الحضارات والثقافات على مدى تاريخها لوقوعها على طريق القوافل، وبالتالي شهدت ثقافتها مزيجا من تقاليد منوعة، مثلت فسيفساء ثقافية مميزة. إلا أن هذا المزيج شكل تهديدا دائما للهوية الإسلامية، مع تزايد أعداد السائحين الأجانب الوافدين بعادات وتقاليد مختلفة، مما أدى إلى حدوث تغيرات اجتماعية واقتصادية هائلة، ومعاناة الشعب المالديفي من آثار الحداثة والتغريب.

ومن أبرز ما ترتب على هذا الانفتاح، ازدياد معدلات الجريمة والعنف، وانتشار المخدرات بين أوساط الشباب، وكذلك انتشار البطالة بين الطبقات الوسطى، وظهور حدة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية بين ساكني العاصمة، والمناطق النائية، التي لم تلق نفس الاهتمام بالمرافق الأساسية والخدمات العامة.

بطبيعة الحال كان هناك أيضا إيجابيات للحداثة، فبفضل هذا الانفتاح شهدت المالديف ثورة في الرعاية الصحية، ونشر المعرفة. وتكفي الإشارة إلى انخفاض معدلات وفيات الرضع، واختفاء ظاهرة الأمية بين الشعب المالديفي.

ومع ذلك، فإن الاحتكاك بين منظومتي القيم التقليدية والتحديثية قد أدى في نهاية المطاف إلى نشوء اتجاه محافظ وآخر حداثي. ومثّل الاتجاه المحافظ بعض الحركات الإسلامية غير المسلحة التي ظهرت على الساحة منذ عام 2009.

ففي هذا العام ظهرت الجماعة السلفية، وكذلك منظمة المالديف الإسلامية، وكلاهما تيارات إسلامية لا تنتهج العنف، وتتبنى فكرة الاصلاح الاجتماعي. وقبل هذا الوقت حالت الطبيعة الجغرافية لجزر المالديف دون ظهور علماء ودعاة على المستوى القومي، نظرا لصعوبة التنقل بين الجزر، لذا كان التركيز على القيادات الدينية المحلية، ومن ثم كان وجود جماعات دينية منظمة أمرا مستحيل حدوثه.

وفي مرحلة ما قبل التحول الديمقراطي، لم يكن مسموحا لأي جماعة دينية أن يكون لها هيكل تنظيمي، إذ كان ينظر إليها باعتبارها تهديدا محتملا للسلطة. إلا أن ذلك لا ينفي تأثر جزر المالديف بالحركات الإسلامية المختلفة التي اجتاحت منطقة الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، غير أن تأثيرات فكر مثل هذه الحركات على أرض المالديف اقتصر على بعض الجزر النائية.

السلفية والوهابية

يرى الباحث في دراسته أن جذور السلفية في المالديف تعود إلى الطلاب الذين تلقوا تعليمهم في عدة دول إسلامية، وتأثر بعضهم بالفكر الوهابي. وقد تمكن هؤلاء من الوصول إلى عامة الناس في المساجد، وكذلك في التليفزيون والراديو، وشبكة الانترنت.

وقد بدأت هذه المنظمات، وعلى الأخص، الجماعة السلفية، في توعية الجماهير من خلال المحاضرات الدينية لعلماء مشهورين تمت دعوتهم مثل الداعية بلال فيليبس. كما بدأت المنظمة الإسلامية في التواصل مع المالديفين المغتربين في سريلانكا والهند وماليزيا، واستخدمت كذلك وسائل الإعلام الجماهيري خاصة الأشرطة والانترنت.

ولم تكن الحركات الإسلامية بمعزل عن الحركات الأخرى خارج المالديف، فقد تأثر الكثير من الشباب في أواخر الثمانينيات بالفكر الجهادي، حيث سافر العديد منهم لتلقي العلم في باكستان وتمكن بعضهم من الاحتكاك بمجاهدين أفغان وعرب شاركوا في الجهاد ضد الاتحاد السوفيتي.

أما النقطة الفاصلة التي مكنت لوجود الإسلاميين في المالديف، فيعود إلى عام 2004، حين اجتاحت الجزر موجات تسونامي، وتدفقت العديد من منظمات الإغاثة على البلاد، ومن بينها منظمات تبشيرية، وبالطبع كان على المنظمات الإسلامية أن تبحث لها عن موطئ قدم. وبالفعل نجحت بعض هذه المنظمات في تقديم المساعدات الإنسانية والطبية للمتضررين من الفيضانات، كما نجحت في تقديم الكتيبات والأشرطة الصوتية التي تروج لما أسماه الباحث بالفكر الوهابي.

وعلى حد قول الباحث، فقد قامت هذه المنظمات أيضا بمساعدة الكثير من الشباب المالديفي على التسجيل في المدارس الدينية في باكستان، وبعضها نجح في تجنيد هؤلاء الشباب لأغراض أكثر تطرفا. ومن بين هذه المنظمات المتطرفة بعض الجماعات الدعوية التي تعمل في مجال التبليغ ونشر الدعوة وترتبط ببعض المنظمات الموضوعة على قائمة المنظمات الإرهابية مثل "عسكر طيبة"، المسئولة عن تدبير العديد من الهجمات في الهند وباكستان. وبحسب الباحث فقد نجحت بعض هذه المنظمات في تجنيد الشباب المالديفي وإرسالهم إلى معسكرات التدريب في باكستان، وبعضهم شارك في عمليات انتحارية بما أضر بالأمن القومي المالديفي.

الأربعاء، 1 فبراير 2012

الإسلاميون في مقدونيا جناة أم مفترى عليهم؟


أمل خيري

إسلام أون لاين

شهدت منطقة البلقان على مدى تاريخها صراعا دمويا حادا منذ انفصالها عن الإمبراطوية العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر. ومع بدايات انهيار الاتحاد اليوغوسلافي، انفصلت جمهورية مقدونيا عام 1991، وأعلنت استقلالها، متخذة من سكوبيا عاصمة لها. وتضم مقدونيا حوالي 30% من المسلمين بين سكانها، والذين يتنوعون بين العرق الألباني والتركي والرومي والبوشناقي.

ويعيش المسلمون في مقدونيا في ظروف صعبة، ويتعرضون للتضييق وهدم المساجد، بل ويتهمون دائما بالإرهاب من قبل الأغلبية السلافية الأرثوذكسية، على الرغم من أنهم لم يتعرضوا لأي كنيسة، مثلما لاقت مساجدهم من إغلاق وهدم.

تلك الاتهامات امتدت حتى للدراسات التي تجرى حولهم، كان آخرها رسالة الماجستير المقدمة من الباحث أتاناس بانوفسكي بعنوان "انتشار التطرف الإسلامي في جمهورية مقدونيا"، التي نوقشت بمدرسة الدراسات العليا البحرية، بولاية كاليفورنيا الأمريكية، والتي أشرف عليها البروفيسور مايكل فريمان في ديسمبر 2011.

وعلى الرغم مما تحتويه هذه الدراسة من مغالطات واتهامات بحق حركات إسلامية معروف عنها عدم انتهاجها العنف، وصلت إلى حد اعتبار الاهتمام بالقضية الفلسطينية مؤشرا على ازدياد التطرف، فإننا نعرض تلك الدراسة من باب الاطلاع على الرؤى الغربية التي قد تساهم في صناعة صورة ذهنية مشوهة عن بعض الأقليات أو الحركات الإسلامية.

قامت هذه الأطروحة بمحاولة تحديد أسباب انتشار ما وصفته بالتطرف الإسلامي، باعتباره تهديدا محتملا لجمهورية مقدونيا. وتمثلت أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة في أن التغيرات السياسية والاقتصادية والقانونية الكبرى التي شهدتها مقدونيا، قدمت أرضا خصبة للأيديولوجيات الإسلامية غير التقليدية. وتشير النتائج أيضا إلى أن المسلمين في مقدونيا هم الأكثر عرضة للتجنيد من قبل هؤلاء "المتشددين"، وهناك محاولات دائمة من "المتطرفين الإسلاميين" المحليين لحشد أكبر عدد من الأنصار.

ويرى الباحث أن ظهور ما يصفها "بالأيديولوجيات الإسلامية المتطرفة" في مقدونيا ليست رد فعل على العلمانية والحداثة، كما أنها لا تدافع عن الدين. وبالتالي، يمكن تصنيف أنشطتها كشكل من أشكال الأعمال الإرهابية، ومن ثم قدم الباحث توصياته حول السياسات التي يجب على الدولة اتخاذها كتدابير لمكافحة الإرهاب.

الأيديولوجيات المتطرفة


بغض النظر عن الانتماء إلى معتقدات دينية بعينها، فإن هناك بعض الخصائص المشتركة بين الأيديولوجيات المتطرفة. فالأيديولوجية المتطرفة هي ظاهرة تتميز بالسلطوية، والأحادية والشمولية، والجماعية، والطوباوية، والتزمت، وتميل هذه النوعية من الأيديولوجيات غالبا إلى الترويج لفكر المؤامرة، وشيطنة الأعداء.

وقد استعرض الباحث بعض أشكال التيارات الإسلامية التي يعتبرها متطرفة، ومن أهمها الإسلاموية والوهابية والسلفية. وأشار إلى أن التشدد الموجود في الإسلاموية ليس ناتجا عن خصائص كامنة في الإسلام نفسه، بل هو نتيجة فهم خاطئ للإسلام.

أما الوهابية، فقد اعتبرها الباحث من أهم الأيديولوجيات المتطرفة، وقد أولاها اهتماما كبيرا في دراسته. وأخيرا جاء مفهوم السلفية، مشيرا إلى أن السلفيين يدافعون عن التطبيق الصارم للشريعة، ويرفضون بالتالي فكرة الديمقراطية الغربية والقوانين الوضعية، حسبما يرى الباحث.

المسلمون والعنف في منطقة البلقان

تعد البلقان من أكثر المناطق تعقيدا من الناحية الدينية واللغوية والعرقية في العالم. وفي حين يرى البعض في هذه المنطقة مركزا للتنافس بين الحضارات، يعتبرها البعض الآخر حلقة الوصل بين الثقافات المختلفة.


وصل الإسلام إلى البلقان على يد العثمانيين الذين حكموا المنطقة لمدة خمسة قرون. وفي هذه الفترة تعايشت الأديان المختلفة بفضل تسامح المسلمين. وانضم كثير من غير المسلمين إلى الإسلام –على حد قول الباحث- تهربا من دفع الجزية للدولة العثمانية.

وبعد حرب البلقان الأولى، انهزم العثمانيون وغادروا البلقان. ويرى الباحث أنه خلال الحرب العالمية الثانية، وأثناء المواجهة بين المسلمين وخصومهم في البلقان، سنحت الفرصة لتسلل التأثير الإسلامي الراديكالي. وبفضل الحاج أمين الحسيني مفتي القدس الذي تعاون مع النازيين أثناء الحرب، تم تجنيد المسلمين في البلقان للقتال إلى جانب الألمان- بحسب الباحث- وأنشئت في البوسنة شعبة حربية، عرفت باسم "Handzar" ، أو الخنجر. وتطورت هذه الشعبة حتى أصبحت تسمى Kama في منتصف عام 1994.

وبعد انهيار الدولة اليوغوسلافية، أصبحت منطقة البلقان نقطة جذب رئيسية للتشدد الإسلامي، ونشوب الصراعات العرقية. ففي البوسنة والهرسك، انضم المجاهدون الأجانب الذين حاربوا مع البوسنيين إلى الجيش البوسني. وفي ألبانيا، تسللت منظمات إرهابية مثل القاعدة، والجبهة الإسلامية للإنقاذ، والمجموعة الإسلامية المسلحة (GIA) ، وحركة الجهاد الإسلامي المصري (EIJ) في البلاد، واستخدمت المؤسسات الخيرية لجمع وتوزيع الأموال. ووفقا لمصادر مختلفة، فإنه خلال النزاع في مقدونيا، ضم جيش التحرير الوطني في صفوفه حوالي 150 من المجاهدين من ألبانيا والبوسنة وتركيا والمملكة العربية السعودية، وأفغانستان ، وجميعهم شاركوا في الصراع.

الوهابية والسلفية

يذكر الباحث أنه عقب تفكك يوغوسلافيا، واندلاع الحروب في البوسنة وكوسوفو، شارك المجاهدون من كل أنحاء العالم في هذه الحروب. وبعد انتهاء الحروب ظل التأثير الوهابي السعودي مستمرا على حد قوله. ومن هنا بدأت وسائل الإعلام وكذلك الخبراء الدوليون في لفت الانتباه إلى تزايد التطرف الاسلامي في العاصمة المقدونية، حيث ينتمي أغلب المسلمين في هذه المنطقة إلى العرق الألباني. ويتهم الباحث المشيخة الإسلامية المقدونية المعروفة باسم الاتحاد الإسلامي IVZ بكونها ذات تمويل وهابي، الأمر الذي أدى إلى سيطرة الفكر الوهابي على مساجد عدة في العاصمة. حتى أن رئيس المشيخة نفسه سليمان أفندي رجبي، قد طلب رسميا في سبتمبر 2010، من السلطات السياسية والمجتمع الدولي المساعدة في التعامل مع الجماعات الوهابية، ودعا إلى اتخاذ تدابير لوقف انتشار الراديكالية الإسلامية في مقدونيا.

ويرصد الباحث بعض التأثيرات الناجمة عما أسماه بانتشار التشدد الوهابي في مقدونيا، ومن بين هذه التأثيرات ظهور التعصب تجاه باقي المسلمين، ورفض الاعتراف بالمذاهب الأخرى كالصوفية والشيعية. ويكفي التذكير بأن الفرقة البكتاشية الصوفية اكتسبت شعبية كبيرة في ظل الحكم العثماني، ومن أهم مؤسساتها تكية "حرابتي" التي يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر، وهي موجودة بمنطقة تيتوفو ومقدونيا.

وفي أبريل 2006، دخل جناة مجهولون إلى ساحة التكية في تيتوفو ومزقوا صورة الزعيم البكتاشي حاجي ديدي رشيد. وفي ديسمبر 2010، اندلعت النار في التكية، ونسب زعيم الطائفة البكتاشية أعمال العنف هذه إلى جماعات وهابية متطرفة.

كما أشار الباحث إلى سيطرة بعض الجماعات الإرهابية على عدة مناطق مقدونية خلال عام 2001، حيث ظهرت جماعات مسلحة تابعة للقاعدة، مما أثار مخاوف المجتمع الدولي حينها. الأمر الذي دعا خبراء في مكافحة الارهاب من الاستخبارات الفرنسية ومركز الأمن الأوروبي، إلى الكشف عن وجود ما يصل إلى مائة إرهابي في مقدونيا. كما ادعى بعض الخبراء وجود صلات مالية بين تنظيم القاعدة وهؤلاء الإرهابيين، واتهموا مفتي مقدونيا في ذلك الوقت بدعمه التطرف، من خلال تعينه أئمة وهابيين في المساجد.

الوهابيون في المجال العام

وإلى جانب الحوادث التي وقعت في بعض المساجد، فإن أتباع الحركة الوهابية لم يترددوا في إبراز النشاط في الأماكن العامة، واستدل الباحث على ذلك بقيادة بعض المظاهرات المنددة بالرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم في عام 2006، معتبرا إياها دليل على انتشار النفوذ الوهابي، رغم أن أغلب العواصم العربية والأوروبية شهدت وقتها مثل هذه التنديدات!.

ويستمر الباحث في إثباته انتشار التطرف الإسلامي، متخذا هذه المرة من الاهتمام بالقضية الفلسطينية مؤشرا على ازدياد هذا التطرف. فقد شهدت السنوات الخيرة اهتماما من مسلمي مقدونيا بالقضية الفلسطينية، وظهرت عدة مطالبات بوقف العنف على غزة في يناير 2009، كما كشفت القوات البحرية الإسرائيلية عن وجود ثلاثة أفراد مقدونيين بين فريق سفينة النجاة المتجهة إلى غزة، والتي استولت عليها السلطات الإسرائيلية.

كما شهدت المساجد أيضا ساحات حرب -على حد قول الباحث- بين الوهابيين والمسلمين العاديين في مقدونيا، حيث سيطرت الجماعات الوهابية على عدة مساجد وطردت أئمتها. ولم تسلم أيضا المنظمات غير الحكومية من امتداد النفوذ الوهابي، فقد قامت بعض هذه المنظمات بجمع تبرعات باسم الإنسانية دون اعتماد رسمي، ووجهت الاتهامات لبعض الجمعيات بالاشتراك في أنشطة مالية غير مشروعة.

ومن بين المنظمات غير الحكومية التي أشار إليها الباحث ووصفها بالتطرف: منظمة Kalaya Shkup، ومنظمة رازبودي Razbudi، و منتدى الشباب المسلم الذي تأسس في سكوبي عام 2000 بهدف "تعزيز وغرس القيم الإنسانية الإسلامية والعالمية، وحماية الشباب من الانحرافات وتوعيتهم"، ونجح المنتدى في اجتذاب الجمهور، بل وقد دعا المفكر الإسلامي طارق رمضان وشقيقه هاني لحضور بعضا فعالياته، وهو ما اعتبره الباحث توجها نحو الراديكالية الإسلامية!

هناك أيضا جماعة الشباب الإسلامي التي نشأت بعد الحرب في البوسنة والهرسك، وتضم في عضويتها المسلمين المحليين الذين قاتلوا بجانب مسلمي البوسنة، وقد صنفها الباحث ضمن الجماعات الراديكالية المتطرفة واتهمها بتلقي تمويل من القاعدة.

ثم انتقل الباحث إلى الجمعيات الخيرية وهيئات الإغاثة التي اعتبرها امتدادا للنفوذ الوهابي، وعلى رأسها هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، ومؤسسة الحرمين الإسلامية، ومنظمة Bamiresia المقدونية. ولم يغفل كذلك استغلال الوهابيين لشبكة الانترنت والوسائل التكنولوجية، مشيرا إلى انتشار أشرطة الفيديو والتسجيلات الصوتية لكبار علماء الوهابية، وكذلك من خلال موقع التوحيد الالكتروني.

التبليغ وحركة جولن

بعد استعراض أهم ملامح النفوذ الوهابي في مقدونيا، انتقل الكاتب إلى الحديث عن جماعة التبليغ والدعوة التي وصفها بنوع من المرونة مقارنة بالفكر الوهابي. وتعود نشأة الجماعة في مقدونيا إلى عام 1994 على يد إسماعيل سيف الله، ويوجد للجماعة عدة فروع في تيتوفو، وغيرها من المدن.

وحتى عام 2005 لم يكن لهذا الجماعة أي نشاط ملحوظ، إلا أنه ما لبثت أن وصلت مجموعات من أفراد الجماعة الباكستانيين إلى مطار سكوبي، ولاقت هذه المجموعات ترحيبا من الزعماء الإسلاميين المحليين. وقد انتشرت هذه المجموعات في عدة قرى مأهولة بالسكان "التوربيش" Torbeshوهو اسم يستخدم للإشارة إلى المقدونيين الذين تحولوا إلى الإسلام - وهناك بدأوا في العمل لنشر الدعوة.

ومن أهم خصائص جماعة التبليغ والدعوة عدم وجود رقابة مركزية، والعمل بأسلوب منظم فريد. وقد أثار مشهد انتشار رجال ملتحين ونساء متشحات بالسواد شكوك بعض الجهات الرسمية حول التمويل، خاصة أن بعض دول الخليج العربي تقوم بتقديم منح دراسية للشباب المقدوني المسلم، مما قد يثير المخاوف حول محاولات لفرض النهج الوهابي على سكان هذه القرى، من وجهة نظر الباحث.

أما الأمر المثير للدهشة في أطروحة بانوفسكي، فهو إدراجه حركة جولن الإصلاحية ضمن المنظمات التي ربما تنتهج التطرف وتسعى لنشره في مقدونيا، على الرغم مما هو معروف عن هذه الحركة من تبني فكرة التربية من خلال مدارس مخصصة لذلك، لا تتناول بين مناهجها الموضوعات الدينية. ولكن الباحث شكك في توجهات هذه المدارس في مقدونيا بسبب جو السرية الذي تفرضه الحركة على أنشطتها ومعلوماتها، إضافة إلى مقابلته لأحد الطلاب المقدونيين في هذه المدارس، الذي ذكر له أنه اختير من بين مجموعة أخرى متميزة من الطلاب لحضور أنشطة لا صفية بعد انتهاء الدوام الدراسي، وهو ما اعتبره الباحث نوعا من الأنشطة السرية التي ربما تخفي أنشطة أخرى أكثر تطرفا!

وعلى الرغم مما تحتويه هذه الدراسة من مغالطات واتهامات بحق حركات إسلامية معروف عنها عدم انتهاجها العنف، فإن أخطر ما في الدراسة تقديمها توصيات بخصوص مواجهة ما أسماه بانوفسكي بالتطرف الإسلامي في مقدونيا. ومن أهم هذه التوصيات:

· مواجهة الفكر الراديكالي بنشر الأفكار المناهضة للراديكالية في أوساط المسلمين.

· مكافحة الجريمة المنظمة.

· تطبيق مفاهيم العلوم الاجتماعية، وأهمها:

o أسلوب تحليل الشبكات الاجتماعية: للتعرف على هياكل هذه الجماعات المتطرفة.

o أسلوب التحليل البنيوي المتعمق: عبر استخدام استراتيجيات محددة للتأثير على التشكيل الاجتماعي للمنظمات المتطرفة، عن طريق توليد الوعي داخل المجتمعات المستهدفة، وتمكين الجماعات البديلة، والحد من العزلة، والطعن في الخرافات، وتفتيت التعاطف بين الأعضاء.

o وأخيرا يقترح بانوفسكي اختراق الشبكات الإلكترونية التي يستخدمها أعضاء هذه الجماعات عن طريق برامج الاختراق المختلفة.
http://www.islamonline.net/ara/article/1304971328523