الأربعاء، 5 أكتوبر 2011

يوميات صحفية من منازلهم ..الحلقة السابعة


في العمل عن بعد تجنبي الاستنساخ
أمل خيري

أحيانا ما تواجه العاملات عن بعد بعض الإحباطات أو شعورا بعدم الانجاز أو الفشل، ويعود ذلك بالتأكيد لأسباب كثيرة لكن هناك آفتان رئيسيتان لا يمكن تجاهلهما وهما المقارنة والتقليد.

فالمقارنة بالآخرين الذين حققوا نجاحا قد يجعلك تصابي باليأس والإحباط، ومحاولة محاكاة تجارب الغير عن طريق استنساخها كما هي كذلك قد توقعك في الفشل الذي يولد مزيد من الإحباط واليأس.

لا تظلمي نفسك بمقارنتها بالآخرين، لا تقولي زميلتي تدير مشروعا منزليا بطريقة أكفأ مني، أو زميلتي الأخرى تنجز أعمالا من المنزل أضعاف ما أنجزه أنا، وذلك لعدة أسباب. أولها أن كل إنسان له ظروفه ومشكلاته وتحدياته التي يواجهها.

اعملي لتعيشي


وصلتني عدة رسائل من زميلات تركن العمل الوظيفي وبدأن العمل من المنزل، والآن يشعرن بالتوتر، لأن الوقت يضيع بسبب الأولاد، فلا يستطعن انجاز نصف أو ربع ما كن ينجزنه أثناء الوظيفة، لأن طلبات الأولاد لا تنتهي، خاصة الصغار منهم، بينما كن فيما سبق يذهبن بأطفالهن للحضانة أثناء فترة العمل.

لهؤلاء الزميلات أقول كما يروى في الأثر "كل لتعيش ولا تعش لكي تأكل"، يمكننا القول "اعمل لتعيش لا تعش لكي تعمل"، فلا تجعلي العمل يطغى على مهامك الأخرى، خاصة أطفالك الذين قررت ترك العمل من أجلهم، أو على استمتاعك بالحياة فالعمل مجرد وسيلة لا غاية في حد ذاته، فلا تتركيه يسبب لك الشعور بالضغط أو التوتر.

وكما قررت ذات يوم أن تتركي الوظيفة لتسببها في ضغوط نفسية عليك، قد تجدين نفسك تقررين ترك العمل من المنزل لفترة ما إن كانت تسبب لك ضغوطا مماثلة. على أن تعودي وتتابعي العمل مرة أخرى. كل ما في الأمر أن فرصتك في الحصول على إجازة راحة من العمل عبر المنزل أفضل من الوظيفة بدوام كامل لأنك كما اتفقنا من قبل رئيسة نفسك.

لا تتوقعي أن تعملي بنفس طاقتك وأنت لديك طفل حديث الولادة، أو أن يكون معدل انجازك وأطفالك صغار مثل أم أخرى اجتاز أبناؤها مرحلة الطفولة المبكرة، ودخلوا في طور المراهقة والاعتماد على النفس. ظروف أخرى قد تجعل معدل انجازك أقل سواء لمعاناتك من مشكلات صحية مزمنة أو كثرة عدد الأبناء، أو كون أحدهم يعاني من مشكلات خاصة، أو كونك ترعي أحد والديك في البيت، أو ربما حتى مدى تقبل زوجك لفكرة عملك ومقدار تشجيعه لك أو إعاقتك.

فيجب أن تتوقفي عن لوم نفسك ومقارنتها بالآخرين فلكل ظروفه التي لا يتشابه فيها مع غيره، والمقارنة في حد ذاتها قد تفسد العمل وقد تجعلك تشعرين بالفشل رغم أنك تحققين نجاحا معقولا مقارنة بظروفك فربما تقررين حينها عدم المواصلة مع أنك لو انتظرت قليلا حتى تتغير الظروف لتحسنت أحوالك كثيرا.

كوني نفسك!

هناك سبب آخر يجعلك تبتعدين عن مقارنة نفسك بالآخرين لأنه مضيعة للوقت والجهد والتفكير فيما لا طائل منه، فكل شخص منا يتفرد في إمكاناته ومواهبه وقدراته. وهذه القدرات والمواهب لا تظهر فجأة، وإنما يفتش كل منا في نفسه عن مواهبه التي نشأ معها وينقب عن معارفه ومهاراته وقدراته، والتي قد تكون في تصميم مواقع الانترنت أو التسويق الالكتروني أو الترجمة أو الكتابة، أو مشروعات منزلية صغيرة.

وأريد التأكيد على ذلك لأن هناك المئات من الرسائل وصلتني من فتيات وسيدات لا علاقة لهن سابقة بالعمل الصحفي أو الكتابة، وبمجرد متابعتهن لهذه اليوميات اعتقدن أن مهنة الكتابة هي الوحيدة التي يمكن ممارستها عن بعد، وأن الأمر لا يستحق سوى تعريفهن ببعض المؤسسات الصحفية فيصبحن هكذا وبدون مقدمات صحفيات عن بعد أو كاتبات ومحررات في المواقع الالكترونية.

وذلك طبعا دون اعتبار لمدى توافر الموهبة اللازمة أو الخبرات والدراسات الضرورية للعمل الصحفي، بل هناك من لم تمسك قلما في حياتها بل ولا تستطيع صياغة جملة واحدة وتريد أن تصبح صحفية عن بعد!. ولو نظر كل شخص في نفسه لوجد طاقات ومواهب وقدرات كامنة ما عليه سوى أن ينقب عنها ويصقلها بالمعرفة والتدريب والخبرة، فكوني نفسك ولا تقلدي غيرك الذي قد يختلف عنك في خبراته وقدراته.

لا تقولي لماذا نجحت غيري في مشروعها المنزلي ولم أوفق أنا في تنفيذ نفس المشروع، فربما تكوني اخترت المشروع الخطأ أو الوقت غير المناسب أو لم تحسني استثمار مهاراتك وربما لم تقومي بعمل دراسة جدوى مستفيضة قبل شروعك في التنفيذ. نفس الأمر ينطبق على نجاحات الآخرين في مجالات مختلفة في العمل عن بعد.

ابتكري ولا تحاكي

إحدى صديقاتي علمت نفسها بنفسها مبادئ صيانة الكمبيوتر وبدأت تجاربها في إصلاح أجهزة بعض الأقارب والجيران والأصدقاء وبعد مرور عدة سنوات عانت فيها بالطبع من كثير من المشكلات، من بينها عدم أخذ الكثيرين لعملها مأخذ الجد وتهكمهم عليها. ولكنها بإصرارها نجحت اليوم في إنشاء شركة صغيرة تديرها من المنزل لصيانة أجهزة الكمبيوتر، وتراجع من كانوا يسخرون منها عن مواقفهم وهناك من تريد أن تكرر تجربتها بحذافيرها بالنظر إلى ما انتهت إليه من نجاح دون النظر إلى البدايات فأحيانا تصقل المتاعب والمشكلات المواهب وتخرج الطاقات الكامنة.

ابتعدي عن استنساخ تجارب الآخرين دون النظر للظروف والإمكانات والقدرات والمهارات، وليس معنى نجاح إحداهن في عمل ما أنه يصلح للتكرار بالنسبة للجميع.

وقد تتوصلين أنت لابتكار وظيفة جديدة عن بعد لم يتوصل لها أحد من قبل وتحققين من النجاح ما لم يحققه غيرك، فتوقفي عن المحاكاة والتقليد العشوائي وبالتأكيد سيوفقك الله لما يناسبك، وتذكري أن مقياس نجاحك في العمل من المنزل أو عن بعد يختلف عن مقاييس نجاحك الوظيفي، وهو ما سنتناوله في حديث آخر.

الأحد، 4 سبتمبر 2011

خطة أمريكية لغزو إعلامي في ثوب جديد

في دراسة جديدة لـ"معهد بروكينز" حول العلاقة بين واشنطن والعالم الإسلامي

خطة أمريكية لغزو إعلامي في ثوب جديد؟

أمل خيري

إسلام أون لاين ـ القاهرة

لسنوات عديدة ظلت العلاقة بين الإسلام والولايات المتحدة محكومة بالقوالب النمطية التي يكرسها الإعلام في كلا الجانبين، لاسيما في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتي ساهمت في تنميط صورة كل طرف لدى الطرف الآخر.

فالصورة النمطية للمسلم في الإعلام الغربي تتمثل في رجل إرهابي يرتدي عمامة ويطلق لحيته ويقوم بتفجير الطائرات ونسف المباني العامة وقتل المدنيين، بينما تظل الصورة النمطية للأمريكي في الإعلام الإسلامي تتركز حول الرجل الإمبريالي الذي يسعى لنهب ثروات العالم الإسلامي ونفطه، ويعمل على غسل أدمغة الشعوب الإسلامية لفرض ثقافة الكاوبوي على هذه المجتمعات.

والمشكلة في هذه الصور النمطية أنها لا تفرق بين المواطنين العاديين وبين صناع القرار، وتقوم بتعميم الصورة لتشمل الجميع، وكل ذلك يسهم في إذكاء مشاعر الاستياء والكراهية بين الجانبين، مما يعني أن وسائل الإعلام في كلا الجانبين تكرس المفاهيم الخاطئة سواء بقصد أو بدون بوعي، ومع ذلك تظهر بين الحين والآخر مبادرات إيجابية تحاول القضاء على هذه الصور النمطية الخاطئة، غير أن هذه المبادرات الإعلامية تكاد تقتصر على القطاع غير الربحي الذي يخضع لقيود مالية شديدة خاصة في ظل الانكماش الاقتصادي الأخير.

كان هذا محور بعض الأوراق المقدمة للمنتدى العالمي الأمريكي الإسلامي الذي عقد في أغسطس 2011 بالعاصمة الأمريكية واشنطن، في إطار مشروع معهد بروكينز Brookings للعلاقات بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي.

وفي تقرير بعنوان "حوارات مقطوعة بين الولايات المتحدة والمجتمعات العالمية المسلمة"، وأصدره المعهد في نفس الشهر (أغسطس 2011) تم عرض بعض المبادرات والجهود الرامية لتغيير الصور النمطية في وسائل الإعلام بين الطرفين.

الإعلام المرئي


على الرغم من أننا نعيش في عصر انتشار الشبكات الاجتماعية، فما زالت وسائل الإعلام المرئية من أقوى الأدوات في تشكيل والتأثير على الرأي العام.

لذا فقد حاول المنتدى العمل على إتاحة فرص مد جسور التعاون بين العالمين الإسلامي والغربي، وقد أجمع المشاركون فيه على ضرورة انتهاز التغيير في العالم العربي من أجل تحسين العلاقات مع الغرب والولايات المتحدة لاسيما أن استطلاعات للرأي أظهرت أن أحداث العالم العربي انعكست إيجابا على نظرة الأميركيين إلى الشعوب العربية.

وبتحليل دور وسائل الإعلام المرئية في تكريس القوالب النمطية، يمكن الكشف عن خطاب إعلامي أمريكي سائد يدعم العداء المسبق للإسلام والمسلمين.

فعلى سبيل المثال رصد وسائل الإعلام الأمريكية لردود أفعال المسلمين على نشر رسوم كاريكاتيرية مسيئة للإسلام يكاد يقتصر على أقلية تدعو للعنف والانتقام من الغرب، دون تفرقة بين مسيء وبين مسالم، بينما لا يتم تسليط الضوء على أصوات أخرى متعقلة تدعو للحوار وتميز بدقة بين متعمدي الإساءة وبين هؤلاء الذين يرفضونها من داخل الغرب نفسه.

في الوقت نفسه لا تفرق وسائل الإعلام في الدول الإسلامية بين الممارسات الأمريكية الصهيونية الرامية لاحتلال الشعوب الإسلامية واستنزاف ثرواتها، وبين المواطن الأمريكي أو الغربي العادي الذي يعارض مثل هذه الممارسات وينتقدها بشدة. والنتيجة أن الصورة الذهنية الخاطئة تتأصل في الوعي الشعبي لدى الجانبين.

وفي استطلاع للرأي العام العربي أجرته جامعة ميريلاند عام 2010 بالتعاون مع مؤسسة الزغبي الدولية، أظهرت النتائج أن 39% من العرب اعتبروا الدين هو المكون الأهم لهويتهم، على الرغم من أن 47% من المشاركين أكدوا أنهم يشاهدون الأفلام الأمريكية والأوروبية يوميا، مما يعني تعرضهم بشكل يومي لثقافة البوب الأمريكية.

والأكثر من ذلك أن استطلاع رأي أجراه معهد جالوب بعنوان "رصد العلاقات الغربية الإسلامية" كشف عن أن كلمة السر التي يمكن للغرب أن يكسب بها ثقة المسلمين لتتحسن علاقته بالمجتمعات الإسلامية تتلخص في "احترام الإسلام".

- فقد ذكر 72% من المشاركين في الاستطلاع أن الامتناع عن تدنيس القرآن والرموز الإسلامية ستكون ذات معنى طيب.

- كما قام 54% من المشاركين بتعريف كلمة الاحترام بأنها معاملة عادلة في السياسات التي تمسهم، وأشار 49% إلى أن الاحترام يعني أن يتم رسم صورة صحيحة وإيجابية للمسلمين في الأفلام الأجنبية، فالمعايير المزدوجة من أكثر ما يضايق المسلمين من الغرب والتي يساهم الإعلام في تفاقمها بشدة .

الإعلام غير الربحي


بعد عدة محاولات أمريكية لتمويل وسائل إعلامية تسعى للتقارب مع العالم الإسلامي، وجدت أن الفشل يحيق بها خاصة مع صدور فتاوى من بعض علماء المسلمين بتحريم مشاهدة هذه القنوات، ومنها على سبيل المثال قناة الحرة، التي تمولها الولايات المتحدة، فصدرت عدة فتاوى بتحريم مشاهدتها على أساس أنها أنشئت لمحاربة الإسلام، ونشر الانحلال الأمريكي على نطاق واسع داخل البلدان الإسلامية.

وعلى نفس المنوال يتشكك الكثير من المسلمين في القنوات الممولة من الحكومات الإسلامية والعربية ذاتها وفيما تقدمه، معتبرين إياها أبواق للحكومة مما يقلل من مصداقيتها.

لذا فإن البديل الأنسب للولايات المتحدة يتمثل في دعم منظمات المجتمع المدني في الدول الإسلامية نفسها، من خلال تمويل وسائل إعلامية ذاتية بدلا من إنشاء قنوات تابعة للإدارة الأمريكية.

ويتلخص هذا البديل في أن تستعين الولايات المتحدة بمذيعين ومقدمي برامج دوليين، من العاملين في الولايات المتحدة، وذلك بالاستفادة من صلاتهم غير الرسمية بهذه المنظمات المدنية غير الربحية وبمن يمكن أن يصبحوا منتجين محتملين في المستقبل، وبالمؤسسات التي تقدم منح ومساعدات، مثل "مؤسسة التفاهم العالمي".

وهناك العديد من المبادرات في هذا الصدد التي كللت بالنجاح، من بينها على سبيل المثال خدمة التليفزيون المستقلة (ITVS) والتي تتلقى تمويلا هائلا من الحكومة الأمريكية، ولكن على العكس من قناة الحرة، تقوم المنظمة بتمويل منتجين مستقلين يتناولون قضايا معقدة ويعرضون لمختلف الرؤى والآراء حولها، والتي يفتقدها الإعلام الرسمي.

وبحسب ما هو معلن عن خدمة التليفزيون المستقلة، فإنها عبارة عن "تجمع مستقل، لبث إعلام وبرامج جديدة ذات جودة عالية على الأصعدة المحلية والوطنية، والدولية". وذلك بقصد "إثراء المشهد الثقافي مع تمثيل أصوات ورؤى المجتمعات، لتعكس مصالح واهتمامات متنوعة للمجتمع".

فضائيات للجميع


يعكس المشهد الفضائي العربي تنوعا هائلا نجح في جذب الشركات الإعلانية لاستثمار ارتفاع معدلات المشاهدة العربية.

فمن بين أكثر من 600 فضائية عربية، تنتشر القنوات الدينية والتي تستحوذ على نسب مشاهدة عالية، وهناك أيضا البرامج الإخبارية الحوارية التي تجتذب المشاهدين من مختلف الأطياف، حتى أن الشركات الخليجية وخاصة السعودية أصبحت تتنافس على رعاية هذه البرامج.

على سبيل المثال تتنافس عدة شركات سعودية محلية ودولية على الحصول على مساحات إعلانية في برنامج "يا ليل يا عين" الذي تقدمه قناة LBC اللبنانية وهو برنامج ثقافي تحرري، كما تستأثر إحدى الشركات السعودية برعاية برنامج "الاتجاه المعاكس" الذي تقدمه قناة الجزيرة وهو برنامج حواري سياسي.

وقد دفع نجاح هذه القنوات الفضائية (الخاصة وشبه الخاصة) إلى محاولة الفضائيات المحلية المملوكة للدولة تغيير خريطة برامجها إلا أنها لم تحرز نجاحا يذكر لسيطرة التوجيهات الحكومية.

وفي العادة لا تجتذب وسائل الإعلام العربية المستثمرين من القطاع الخاص الأمريكي، لكونها أسواقا نائية عن هوليوود، ومن ثم لا تميل الشركات الأمريكية للإعلان عن أفلامها مثلا في الفضائيات العربية بسبب أن أغلب المشاهدين العرب إما ينتظرون مضي فترة على عرض الأفلام –ومن بينها أفلام هوليوود- ليشاهدوها مجانا، أو يقومون بمشاهدتها أثناء العرض مجانا أيضا بسبب انتشار عمليات القرصنة في ظل غياب سياسات حماية الملكية الفكرية.

من أجل ذلك فإن فرصة الولايات المتحدة لتغيير الصورة النمطية عنها لدى العرب والمسلمين ستظل محدودة جدا خاصة مع استمرار تقديمها لمحتوى فني لا ينسجم مع المعايير والثقافة الإسلامية.

فالأمريكيون لا يدركون أن تغيير الصورة النمطية لا تحتاج للتقنيات والتكلفة العالية في هوليود بقدر ما تحتاج للتبسيط واحترام الثقافة والتقاليد وتقديم الصورة الصحيحة للمسلمين.

ونفس الأمر ينطبق على الإعلام العربي الذي يحاول البحث عن مكان له على خارطة الأمريكيين الإعلامية، على سبيل المثال أطلقت قناة الجزيرة الإنجليزية في عام 2006 من واشنطن لكنها لم تنجح في إقناع شركات الكابل الأمريكية لتقديم القناة لعملائها، ويعود ذلك بشكل جزئي إلى مقاومة مزودي خدمات الكابل للعلامة التجارية للجزيرة خوفا من احتمال رد فعل عنيف من المعلنين، إضافة إلى أسباب سياسية نظرا لما كانت إدارة الرئيس الأمريكي بوش تكنه من عداء لشبكة الجزيرة.

توصيات التقرير


ويحاول التقرير في ختامه أن يقدم بعض التوصيات التي يمكن من خلالها للولايات المتحدة أن تجد لها مكانا في الساحة الإعلامية في المجتمعات الإسلامية، فيما يمكن اعتباره خطة أمريكية لغزو إعلامي للمسلمين من نوع جديد مغلف بدعوات للحوار والتفاهم. ومن أهم هذه التوصيات:

- تغيير التصورات والبدء في الحوار: فالدعم الأميركي حتى الآن للثورات العربية ما زال متفاوتا، بل سرعان ما تحول إلى خوف متزايد من تولي الإسلاميين الحكم، وهو أمر واضح في التغطيات الإعلامية الأميركية، مما يساهم في تأصيل الصورة النمطية لدى المسلمين والعرب عن سياسة الكيل بمكيالين الأمريكية.

- استخدام أسلوب سابيدو (Sabido) لتثقيف المشاهدين والتأثير على التصورات: وقد أثبت أسلوب Sabido فعاليته في إحداث تغييرات اجتماعية هامة. وهو أسلوب تم استخدامه في ميجيل سابيدو في المكسيك، وهو عبارة عن نهج يمزج بين الترفيه والتعليم. ويمكن من خلال هذا الأسلوب تناول موضوعات حساسة اجتماعيا في صورة إيجابية عبر الترفيه والنقاش سواء كانت في شكل من الكوميديا ​​أو الدراما.

وينصح التقرير الولايات المتحدة أن تتأكد بدقة أثناء استخدامها هذا الأسلوب في البلدان الإسلامية من قدرتها على جذب تعاطف المشاهدين استنادا إلى التعرف الدقيق على احتياجات المشاهدين وردود أفعالهم.

- إعادة تحديد دور القطاع غير الربحي في سوق الإعلام العربي: فالعديد من المبادرات التي يقودها القطاع غير الربحي تمكنت من تحقيق نتائج إيجابية. ومع ذلك فما زال تأثيرها محدود بسبب القيود المالية المترتبة على الانكماش الاقتصادي الأخير.

- إنشاء منابر إعلامية وتعليمية قوية: حيث تستخدم القنوات الدينية تقنيات منوعة لتعليم الإسلام، ووفقا للتقرير لا ينبغي أن تكون هذه القنوات هي المصدر الوحيد لتثقيف الناس حول الإسلام، فعلى الأمريكيين أن يتخذوا خطوات إيجابية لتعليم المسلمين دينهم!!. فالولايات المتحدة لا تحتاج بالضرورة لتثقيف المسلمين في العالم حول أمريكا، وإنما تحتاج لتعريفهم الإسلام بهدف ردع الناس عن اللجوء إلى العنف طالما كان هناك إمكانية للحوار.

- تعزيز الإنتاج الإعلامي الأمريكي الإسلامي المشترك: فهناك العديد من القضايا المشتركة التي ينشغل بها الناس في كلا المجتمعات المسلمة والأمريكية على حد سواء، فلابد من العمل على توحيد الجهود في هذا المضمار بما لا يتسبب في حساسيات دينية أو ثقافية أو اجتماعية. ويتم ذلك من خلال برامج حوارية تعليمية حول الإسلام لتثقيف المسلمين في المجتمعات الإسلامية، وكذلك المسلمين وغير المسلمين في المجتمع الأمريكي.

- بناء مؤسسات أو العمل مع مؤسسات مثل نيلسن للاستطلاعات: فالفضائيات العربية تفتقد قياسات دقيقة حول مشاهديها، ويمكن لمثل هذه المؤسسات أن تساعد هذه الفضائيات على عدم خسارة مشاهديها من خلال الدراسات الاستقصائية ومجموعات التركيز.

- تنفيذ دورات تدريبية حول وسائل الإعلام: فهناك حاجة ماسة لتدريب البلدان النامية على وسائل الإعلام الرقمية، وصناعة الأفلام، والبرمجة، والتعامل مع الشبكات الاجتماعية، والمهارات الإعلامية. ويتعين على أميركا عدم تصدير منتجات "هوليوود" فقط، ولكن ينبغي عليها أيضا تصدير المهارات الإعلامية، بالشراكة مع المنظمات المحلية التي تعرف احتياجات المتدربين بشكل أفضل.

الثلاثاء، 19 يوليو 2011

القاعدة والصين.. مسارات في تحول العلاقات الإستراتيجية


هل يصبح مسلمو الإيغور ضحية المصالح الجيوسياسية؟

أمل خيري
إسلام أون لاين

أصبحت التكهنات حول نهضة الصين الاقتصادية والسياسية والعسكرية هي الحديث المفضل لدى السياسيين وواضعي السياسات الغربية. إلا أن العلاقة بين الصعود الصيني وبين توجهات الجهادية العالمية لم ينل الاهتمام الكافي من قبل المراقبين الغربيين.
فقضية مسلمي الإيغور في الصين لم تشغل بال التنظيمات الجهادية العالمية كثيرا، كما تباينت آراء المنظرين الجهاديين تجاه الصين، ما بين اعتبارها شريكا وحليفا يجب ألا يخسره المسلمون لكسب المعركة ضد قوى الشر الممثلة في الولايات المتحدة، وما بين وضعها على مصاف الدول المعادية لانتهاكها حقوق المسلمين في أراضيها.
وهنا يطرح السؤال نفسه: هل تأتي الجغرافيا السياسية على حساب الإيغور؟ وهو السؤال الذي حاول بريان فيشرمان Brian Fishman الإجابة عنه في دراسته الأخيرة التي جاءت بعنوان "تنظيم القاعدة وصعود الصين: الجغرافيا السياسية الجهادية في عالم ما بعد الهيمنة" والتي نشرت بالعدد الأخير لمجلة واشنطن الفصلية لصيف 2011.
الصين في الفكر الاستراتيجي للجهاد
على مدى السنوات السابقة ركز تنظيم القاعدة على توجيه الهجمات نحو الولايات المتحدة، في الوقت الذي كان الاهتمام بالصين ضئيلا جدا خلال فترة حكم حركة طالبان في أفغانستان. ولا يعني هذا في نظر فيشرمان أن الصين لم تواجه مشاكل مع المجاهدين خلال تلك الفترة.
بل على العكس واجهت الصين مجموعات جهادية تزعمت الثورة في صفوف مسلمي الإيغور في إقليم شينجيانج، والذين تلقى بعضهم بحسب فيشرمان تدريبا في أفغانستان، إلا أنه رغم حرية مجاهدي الإيغور في تنقلهم بين أفغانستان والصين، فإن مقاتلي طالبان منعوا أفراد حركة تركستان الشرقية الإسلامية من مهاجمة الصين من أراضيها، منعا للحرج مع الحكومة الصينية، وهذا يفسر أن التدريبات التي تلقاها أفراد الحركة الإسلامية كانت على يد تنظيم القاعدة وليس حركة طالبان.
ويرى فيشرمان أن هذا الحذر من قبل طالبان في مهاجمة الصين مقابل هجومها الواضح على معسكر الولايات المتحدة وحلفائها، يعود لفهم طالبان الواسع للواقع الجيوسياسي حول دور الصين في النظام الدولي.
ويمكن فهم التوجه الطالباني تجاه الجهاد ضد الصين من كلمات أبو مصعب السوري أحد أبرز قادة المقاومة الجهادية، التي لخص فيها سياسة طالبان إزاء حركة تركستان الشرقية الإسلامية والصين خلال فترة التسعينيات، حيث قال: "عاد مجاهدو تركستان الشرقية لوطنهم، وتم توظيف المجاهدين الذين عادوا لأفغانستان ليتدربوا على التكتيكات العسكرية الموجهة ضد الحكومة الصينية. هذه المجموعة اعتبرت الملا عمر إمامها الرسمي. وتحت كثير من الضغوط الأمريكية، أمرت طالبان مجموعة مجاهدي تركستان الشرقية بوقف هجماتها ضد الصين. فقد أرادت طالبان استمرار العلاقات الودية مع الصين، باعتبارها وسيلة لمواجهة التهديد الأمريكي".
وعلى الرغم من أن طالبان أمرت أسامة بن لادن بعدم مهاجمة الولايات المتحدة، ولم تقبل تقديره بأن الولايات المتحدة تمثل تهديدا مركزيا لنظام طالبان، فلم يستجب بن لادن لذلك واستمر في مهاجمة الولايات المتحدة، إلا أنه بخصوص الصين استجاب لطالبان ولم يقم بهجمات عليها. بل واتهم الولايات المتحدة بعد سلسلة التفجيرات التي شهدتها بكين عام 1997 - والتي ألصقت بمسلمي الإيغور- بمحاولة التحريض على النزاع بين الصين والمسلمين، متهما وكالة الاستخبارات المركزية بتنفيذ هذه التفجيرات حتى تلقي الصين باللائمة على المسلمين في شينجيانج. وكثيرا ما حذر بن لادن حكومة الصين من نوايا الشر التي تضمرها الولايات المتحدة وإسرائيل تجاهها ورغبتهما في الاستيلاء على موارد البلاد.
ليس هذا فحسب بل إن مجاهدي الإيغور أنفسهم نفوا في أكثر من مناسبة أي صلة لهم ببن لادن، كما نفوا تلقيهم للمساعدة منه بأي وسيلة، وأعلنوا أن جهادهم يعتمد على أنشطتهم الذاتية لطرد الغزاة الصينيين من أراضيهم.
الصين عدو أم حليف؟
ويواصل فيشرمان دراسته بمحاولة التعرف على توجهات الحركات الجهادية العالمية تجاه الصين بعد تغير الظروف الدولية منذ أواخر التسعينيات، حيث يرى أن المعطيات الإستراتيجية التي أجبرت طالبان والقاعدة على التعامل الحذر مع الصين قد تغيرت. ومن ثم يؤكد أن هناك اليوم خلافات بين الجهاديين المعاصرين بشأن التعامل مع الصين.
ففي حين يرى البعض أن تنامي القوة السياسية والاقتصادية للصين من شأنه إضعاف قوة الولايات المتحدة، فإن البعض الآخر ينظر للصين على أنها قوة أخرى كافرة من شأنها اضطهاد المسلمين بدعمها الأنظمة التي يهدف الجهاديون لتدميرها.
المفكرون الإسلاميون أيضا على حد قول فيشرمان تباينت نظرتهم إزاء الصين والجهاد ضدها، فالشيخ حامد العلي كتب عن العلاقة بين قضية مسلمي الإيغور وما أسماه بالمشروع الغربي لتقويض النهوض الصيني، وطالب الصين بوقف مجازرها ضد مسلمي الإيغور حتى لا تخسر علاقاتها الطيبة مع المسلمين والعرب. كما اعتبر العلي أن المساعدات التي يقدمها الغرب وخاصة الولايات المتحدة لمسلمي الإيغور ليس حبا في المسلمين أو تعاطفا مع قضيتهم، بل لأن هدفها في النهاية حصار الصين والقضاء على نفوذها، واقتطاع أجزاء من أراضيها.
ويرى العلي أن هذا التوجه الغربي للتعاطف مع مسلمي الإيغور لا يهدف إلا إلى إظهار الصين كقوة معادية للإسلام بعد أن تنامت قوتها الاقتصادية خاصة في إفريقيا والشرق الأوسط، مما هدد المصالح الغربية في هذه المناطق. بل ويعتبر العلي أن الصين كانت دوما الدولة المسالمة التي لم تسع يوما للتدخل في شؤون الآخرين، ولم تتبع السياسات الاستعمارية التي اتبعها الغرب معنا.
على الجانب الآخر فإن بعض المنظرين الجهاديين تبنوا نهجا مغايرا، معتبرين أن النظر للولايات المتحدة على أنها العدو الأوحد، بمثابة نظرة ضيقة، فعلى سبيل المثال نجد أكرم حجازي الكاتب الأردني الذي يصفه البعض بمنظر القاعدة أو مفكر القاعدة، له عدة كتابات فيما يتعلق بالموقف من الصين، يستنكر فيه على من أعطوا صك غفران للصين على أساس أنها لم تكن يوما صليبية، ولكنه تساءل "هل يمكن أن يحل التنين الصيني ذو الرؤوس المتعددة، في مرحلة ما، محل رأس الأفعى؟" قاصدا الولايات المتحدة.
بل وحاول حجازي في بعض دراساته أن يتنبأ بما قد تنتهجه الجهادية العالمية في حالة انتقال رأس الأفعى من مكان لآخر، وفي حالة قيام الصين بدعم وحماية إسرائيل كما تفعل الولايات المتحدة اليوم، وهل ستعلن حينها التيارات الجهادية حربها على الصين؟ خاصة أن هناك من الأدلة على زيادة سوء موقف الجماعات الجهادية مع تصاعد قوة الصين، في ظل الاتفاقات بين الصين وإسرائيل من جهة، وقمع مسلمي الإيغور من جهة أخرى. ولا يستغرب فيشرمان من أن آراء حجازي قد تم نشرها من قبيل الدعاية الجهادية التي استخدمها البعض لتسليط الضوء على قضية الإيغور.
التحول في المسار الجهادي
منذ عام 2008، نشط المجاهدون خاصة على الإنترنت للتعريف بقضية الإيغور، خاصة بعد أن فتر نشاط حركة تركستان الشرقية الإسلامية منذ عام 2003 بعد مقتل أميرها حسن محسوم، إلا أن ظهور مجموعة جهادية أخرى أطلقت على نفسها اسم حزب تركستان الإسلامي، قد أعاد لقضية الإيغور ثقلها مرة أخرى منذ عام 2008، وأعلنت هذه المجموعة الجهادية أنها جاءت خلفا لحركة تركستان الشرقية الإسلامية، وأخذت في توسيع نطاق دعايتها باللغة العربية على شبكة الإنترنت والمنتديات الإلكترونية، لتذكير المسلمين والعرب بمسلمي الإيغور، وتصاعدت الأعمال الجهادية ضد الصين منذ ذلك الحين، فظهر في يوليو 2008 شريط فيديو للحزب يعلن فيه مسؤوليته عن تفجير حافلتين في مقاطعتي شانغهاي ويونان في الصين. كما استغلت هذه المجموعات الجهادية مركز الفجر الإعلامي كمنبر للدعاية لتنظيم القاعدة والجهاد.
ومع كل تلك الدعاية الجهادية لم يقم التيار الجهادي في الإيغور باستهداف الصين إلا في يوليو 2009، عندما قامت الحكومة الصينية بقمع المظاهرات التي اجتاحت شينجيانج، ومواجهة أعمال العنف بين الإيغور وقومية هان الصينية. في أعقاب تلك الاشتباكات ، دعا عبد الحق التركستاني أمير حزب تركستان إلى استخدام العنف ليس فقط في الداخل، بل ضد المصالح الصينية في جميع أنحاء العالم. فظهر حديثه الموجه للإيغور مصحوبا بترجمة عربية حيث قال: "يجب أن نستهدف الصينيين داخل وخارج الدولة. ويجب استهداف السفارات والقنصليات والمقرات والتجمعات، وأن نقتل الرجال وعائلاتهم، لتخليص إخواننا المحتجزين في تركستان الشرقية. وكل هذه الأعمال ما هي إلا دعم منا لإخواننا في تركستان الشرقية".
وبعد هذه الكلمات هدد تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بالرد على العنف في شينجيانج من خلال مهاجمة المصالح الصينية في الجزائر. ثم قام أحد كبار منظري الجهادية وهو أبو يحيى الليبي في أكتوبر 2009 ، بالدعوة للتضامن مع الإيغور، ورادف بين سياسة الصين في شينجيانج والسياسة الإسرائيلية في الضفة الغربية.
وإزاء مثل هذه الدعوات كان رد الصين أعنف، إذ وجهت ضربات قوية ضد التنظيمات الجهادية المرتبطة بالإيغور، حتى إنها في يوليو 2010 اعتقلت مجموعة مرتبطة بالحزب في النرويج، واتهمتهم بالتآمر لمهاجمة السفارة الصينية هناك وكذلك مكاتب صحيفة يولاندس بوستن، والتي كانت قد نشرت الرسوم المسيئة للنبي عام 2005.
وإذا صحت تلك الاتهامات فإنها تعكس توليفة من المفاهيم الأيديولوجية للجهادية العالمية، التي تتبنى العصيان المسلح ضد الصين. وفي حين تركزت كل النقاشات بين منظري الجهاد حول ما إذا كان صعود الصين يمثل فرصة جيدة للجهاديين أم العكس؟ فإن الاتجاه الفعلي للجهاديين على الأرض يعكس تبنيهم لخط واضح في المواجهة مع الدولة الصينية.
الجهادية العالمية في الاستراتيجية الصينية
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر لم تتبع الصين نفس الإستراتيجية التي تبنتها الولايات المتحدة، إلا أنها على الرغم من ذلك استغلت هذه الأحداث في تبرير قمعها للإيغور بدعوى صلتهم بتنظيم القاعدة. وكانت استراتيجية الصين الأولي تعتمد على التركيز على اكتساب دعم دولي لجهودها الرامية إلى الحفاظ على الاستقرار الداخلي، وهو ما فعلته من خلال قبول تدخل الولايات المتحدة في أفغانستان (التي تشترك في حدود قصيرة جدا مع الصين)، في مقابل الربط بين الانفصاليين الإيغور وبين تنظيم القاعدة من أجل الضغط على الولايات المتحدة لوضع جماعات الإيغور على قائمة المنظمات الإرهابية. وبالفعل استجابت الولايات المتحدة بوضع حركة تركستان الشرقية الإسلامية على هذه القائمة، إلا أنها لم تدرج باقي المنظمات الجهادية الأخرى.
لكن مع تطور الأحداث، وتصاعد قوة الصين الدولية من جهة واستهداف الجهاديين المصالح الصينية في الخارج من جهة ثانية، دفع بالصين للعودة إلى إستراتيجيتها قبل الحادي عشر من سبتمبر والتي تحددت في اعتبار قضية الإيغور شأنا داخليا، وعدم الربط بينها وبين تنظيم القاعدة أو الجهادية العالمية.
ويعود فيشرمان بالحديث عن ما أسماه بتمرد الإيغور ضد الحكم الصيني في شينجيانج إلى عام 1962، حينما فر عشرات الآلاف من الإيغور إلى كازاخستان، وناشدوا الاتحاد السوفيتي بدعمهم وتقديم المساعدة، لكن الصين رفضت التدخل في أمنها الداخلي، وفي النهاية لم يقدم السوفيت لقومية الإيغور سوى القليل (من المرجح أن الاتحاد السوفيتي خشي من دعم الإيغور حتى لا يحفز النزعة الانفصالية في آسيا الوسطى). وفي التسعينيات توالت الدعوات مرة أخر من الإيغور لطلب الدعم السوفيتي إلا أن الاتحاد السوفيتي كان خارجا لتوه من أفغانستان خاسرا.
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ازدهرت قوة الصين السياسية والاقتصادية وكانت هذه القوة سببا مقنعا للدول الناشئة في آسيا الوسطى لتفادي دعم جماعات الإيغور. خاصة عندما تشكلت منظمة شانغهاى للتعاون عام 1996 بعضوية الصين، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان. وزادت الصين من ضغوطها على هذه الدول للحد من دعم الإيغور.
بل وظلت الصين تناشد دول الشرق الأوسط وإفريقيا بعدم التدخل في شؤونها مقابل التوسع في نشاطها الاقتصادي. ويؤكد المفكرون الجهاديون مثل أكرم حجازي ذلك حين شكا من أن الدول العربية والإسلامية لا تدعم الانفصاليين الإيغور.
في الوقت الذي كانت الصين تدعم فيه الإسلاميين المتشددين في أفغانستان وباكستان، بل أظهرت دعمها لطالبان التي حفظت لها الجميل فأعلنت أن أراضيها لن تستخدم لضرب الصين.
التحول نحو التدويل
إلا أن الاستراتيجية الصينية بعدم تدويل قضية الإيغور لم تدم طويلا، ففي يناير 2002 قدمت الصين كتابها الأبيض داعية فيه إلى النظر لقضية الإيغور على أنها تتعلق بقضية مكافحة الإرهاب، وعلى النقيض من الجهود السابقة في التقليل من أهمية عنف الإيغور في شينجيانج، تضمنت وثيقة الكتاب الأبيض لائحة طويلة من الاتهامات ضد حركة تركستان الشرقية الإسلامية، واتهمتها مباشرة بتلقي تدريبات على يد أسامة بن لادن في أفغانستان.
وترتب على هذا التحول في إستراتيجية الصين تجاه قضية الإيغور بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أن وافقت الولايات المتحدة على إدراج حركة تركستان على قائمة المنظمات الإرهابية، كما اعتقلت العديد من ناشطي الإيغور في معتقلات جوانتنامو، غير أنها قامت بإرسال من أفرج عنهم إلى دول أخرى بدلا من إعادتهم إلى الصين. وهو الأمر الذي دفع الأخيرة إلى اتهام الولايات المتحدة بمساعدة الإرهاب والكيل بمكيالين.
وإذا كانت الصين لم تنجح في إجبار الولايات المتحدة على تسليم نشطاء الإيغور، فإنها نجحت عموما في تشتيت الانتباه العالمي عن حملاتها على مجموعات الإيغور في الصين نفسها. وكما أشار أكرم حجازي، فإنها حتى الدول العربية والإسلامية قد تجنبت عموما هذه المسألة، حتى في أحداث عام 2009 عندما قمعت الصين المسلمين وتعاملت معهم بالعنف. ويمكن تفسير ذلك بتنامي العلاقات الاقتصادية الصينية مع العديد من دول العالم خاصة دول الشرق الأوسط وإفريقيا. فلم يصدر احتجاج رسمي واحد ضد أعمال العنف في شينجيانج إلا من قبل تركيا التي تتقاسم روابط تاريخية ولغوية مع الإيغور.
الآثار الجيوستراتيجية
لا شك أن العلاقة المتطورة بين الجهاديين والصين لها آثار على الولايات المتحدة. فمنذ عام 1998، يقوم تنظيم القاعدة بتبرير وجوده على أساس ظرف جيوسياسي معين يتمثل في هيمنة الولايات المتحدة عالميا ودعمها للأنظمة العربية، إلا أن هذه الظروف قد تغيرت الآن، ومثل غيره من الجهات الفاعلة حاول تنظيم القاعدة تطوير تعامله مع الحقائق الجيوسياسية الجديدة.
فقد زادت قوة الصين الاقتصادية والعسكرية والسياسية مما قد يؤدي لتوترات مع الولايات المتحدة في مجالات عديدة، ولكنها أيضا سوف تخلق فرصاً للتعاون بينهما. فالصين تعلم أنها يمكنها الاعتماد على جهود الولايات المتحدة لقمع عناصر القاعدة التي تستهدف مصالح في إفريقيا.
وفي حين أن تنظيم القاعدة لديه الحد الأدنى من القدرة على مهاجمة الصين مباشرة، إلا أنه قد تجاهل قضية مسلمي الإيغور عن طيب خاطر، ومن الصعب الهروب من الاستنتاج بأن هذا التجاهل ناجم عن عدم الرغبة في فتح جبهات للصراع مع كل من الولايات المتحدة والصين في وقت واحد. لذا فإن الهجمات تتركز على بعض المصالح الصينية في شمال إفريقيا وتبتعد تماما عن المناطق الصينية نفسها.
ويرى فيشرمان أن القاعدة بعد أسامة بن لادن ربما تفقد قدرا من توجها العالمي، وتعود للتركيز على الأهداف المحلية، وأخيرا فبالنسبة لبكين، فإن رد فعل تنظيم القاعدة ليس سوى أحد العوامل التي قد تجبر الصين على إعادة النظر في سياستها التي انتهجتها منذ أمد بعيد بعدم التدخل في شؤون الآخرين. لكنها لن تستطيع التغاضي عن المصالح المستهدفة في شمال إفريقيا أو جنوب آسيا لذا ينبغي عليها تطوير استراتيجيتها تجاه الجهادية العالمية.

الاثنين، 11 يوليو 2011

الجيش التركي.. من الهيمنة إلى الانزواء


أمل خيري

إسلام أون لاين – القاهرة

كان ولا يزال الجيش في تركيا يلعب دوراً محورياً في السياسة التركية، منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية وحتى اليوم، ويجادل كثير من المحللين حول أثر هذا الدور في تقويض الديمقراطية في الدولة التركية، فعملية بناء الدولة التركية الحديثة اعتمدت على مجموعة من النخب العسكرية "المستنيرة"، في ظل غياب الجماهير، مع أدوار ثانوية محدودة للنخب المدنية.

وهناك عديد من العوامل التي منحت الجيش هذا الثِقَل، من أهمها دوره التاريخي في بناء الدولة القومية، كما أنه ينظر إليه بوصفه الضامن الوحيد للأيديولوجية الكمالية، إلاَّ أن فهم العلاقة الدينامية المعقدة بين المدني والعسكري في تركيا، وفهم طبيعة دور الجيش وأثره في الديمقراطية يتطلب تحليل السياق التاريخي للعلاقات بين المدنيين والعسكريين في تركيا الحديثة، والتعرف على طبيعة النخب التي فرضت وصايتها على الدولة عبر حماية المبادئ الكمالية على مدار العقود الماضية.

وفي العدد الأخير من المجلة الأوروبية للاقتصاد والدراسات السياسية الصادرة عن جامعة الفاتح التركية، قدمت "بيجوم بوراك Begüm Burak" - أستاذة العلوم السياسية والإدارة العامة بجامعة الفاتح باسطنبول - دراسة حول دور الجيش في السياسة التركية، محاولة تحليل الإطار الدستوري والمؤسسي الذي تستند إليه النخب العسكرية لتبرير تدخلها في السياسة.

الجيش من العثمانية إلى التركية

يستند مشروع التحديث في تركيا إلى حد كبير على التغريب والعلمانية، وهو ما يتعارض إلى حد ما مع تدخلات الجيش في حماية الدولة من أعداء "الداخل"، ولا يمكن تفسير انخراط النخب العسكرية في السياسة فقط بدعوى حماية النظام، علاوة على ذلك فإن الجيش التركي كان المؤسسة الوحيدة التي نجت بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، ففي حين سقطت المؤسسات البيروقراطية المدنية، ومؤسسات التعليم والصحافة وغيرها ظلت المؤسسة العسكرية قيدَ الحياة، واستمر دورها المحوري كما كان في العهد العثماني.

وترى بوراك أن الحجة الرئيسة التي يتم تسويقها حول أهمية دور الجيش في حماية المبادئ الكمالية ليست صحيحة، فالواقع يثبت أن الجيش يحمي الدولة من الأمة أو الشعب، وهو ما يعيق توطيد الديمقراطية، كما أن تصوير الجيش نفسه على أنه حارس الجمهورية التركية يجعل من الصعب على النخب العسكرية قبول مبدأ سيادة المدنيين.

وتطلق بوراك على هذا التوجه مصطلح "تسييس الجيش"، الذي يُعتقد أنه بدأ مع نهايات الدولة العثمانية، فقد ظل الجيش منضبطاً ومطيعاً للسلطة المركزية ومديناً بالولاء للسلطان العثماني، حتى تم إرسال بعض قادته للتدريب في الغرب، حيث اكتسب الجيش الطابع السياسي.

كما لعب الجيش دوراً رئيسياً في الثورة الدستورية عام 1876، و1908، إذ اعتقد بعض العسكريين أن هناك حاجة ملحة لوضع قيود تحد من قوة السلطان، ولتحديث الدولة والمجتمع على أساس مجموعة من الأفكار القومية والوضعية، وتوالت الأدوار الحاسمة للجيش في حرب الاستقلال (1919-1922)، وفي تأسيس الجمهورية التركية.

المؤسس والحامي

كان عزل الجيش عن التدخل المباشر في السياسة الحزبية واحداً من أهداف أتاتورك حين تولى الحكم عام 1923، وعلى الرغم من انعزاله عن السياسة الحزبية فقد احتفظ الجيش بقوته في المشاركة في خطط التنمية الاقتصادية خاصة خلال عقد الثلاثينيات، كما عمل على تطوير المهارات الإدارية لعناصره، الأمر الذي أدى إلى تولي بعض القادة العسكريين مناصب مدنية في أوقات الطوارئ، وبصرف النظر عن عزل الجيش عن الحياة الحزبية، فإنه كان يُستخدم في الواقع أداة لحزب الشعب الجمهوري في مواجهة القوى التي تعارض التحديث، وظل الحزب يحكم بمفرده حتى عام 1950، حين بدأت العلاقات المدنية العسكرية تتغير وتختلف.

فمع تولي الحزب الديمقراطي ذي التوجه الليبرالي الحكم، اتخذ شكلاً مختلفاً عن حزب الشعب الجمهوري، وبخاصة أن الكثير من معارضي نظام حكم الحزب الواحد قد انضموا إليه مما أكسبه دعماً شعبياً موسعاً.

إلا أنه قبل حلول منتصف الخمسينات، انتهج الحزب الديمقراطي سياسات استبدادية أثارت الاستياء بين النخب العسكرية وقادة حزب الشعب الجمهوري، وكذلك بين طلاب الجامعات والموظفين الأكاديميين، مما أفقد الحزب شرعيته في نظر الجهات البيروقراطية للنظام.

وفي عام 1960 اندلعت سلسلة من المظاهرات الطلابية داخل الجامعات، وأصابتها بالشلل التام، وأسفرت عن مواجهات دامية بين الطلاب وقوات الشرطة، ولم يفلح فرض الأحكام العرفية في إنهائها، إضافة إلى انضمام تركيا إلى حلف شمال الأطلنطي عام 1952 الذي أحدث مزيداً من السخط في صفوف ضباط الجيش، كل هذه العوامل دفعت لانقلاب عام 1960، الذي تعهد فيه قادة الجيش بسرعة تسليم السلطة إلى المدنيين، وتم إعداد دستور جديد عام 1961، اشتمل على مجموعة واسعة من الحريات المدنية إلى جانب الحقوق الاجتماعية، لكن مع ذلك زاد تدخل الجيش في الجامعات والمناصب الأكاديمية.

وبلغ التدخل العسكري حد إجبار حكومة ديميريل على الاستقالة عام 1971، وإعلان الأحكام العرفية، ثم إجراء مجموعة من التعديلات الدستورية التي منحت الجيش نفوذاً أكبر، إضافة إلى استقلال ميزانية الجيش، بل وتم توسيع مهمة مجلس الأمن القومي الذي يضم نخباً عسكرية ومدنية ليقدم توصيات إلى الحكومة.

التحول الأكبر

ويبقى التحول الأكبر في مسار السياسة التركية متمثلاً في انقلاب 1980، الذي جعل أجهزة الدولة تتخذ طابعاً عسكرياً في جميع المجالات، ثم جاء دستور 1982 ليعزز الاستقلال السياسي للجيش، وزيادة سلطات الرئيس.

ومع وصول تورجوت أوزال للسلطة عام 1983، شهدت تركيا قدراً كبيرا من الديمقراطية، ثم زادت مشاركة المدنيين في الحياة السياسية، التي انتهت بتصاعد نشاط الإسلاميين، الذي لم يسمح به الجيش، فكان الانقلاب الناعم في عام 1997، فلم يتدخل الجيش بشكل مباشر لإقالة حكومة أربكان، بل لعبت وسائل الإعلام دورها في حشد الجماهير لإشعارهم بالقلق على المبادئ العلمانية، وإثارة الخوف المصطنع بتهديد العلمانية والديمقراطية، وشاركت منظمات مدنية في هذا الانقلاب وقد لعبت دوراً حاسماً في تبرير التدخل العسكري في السياسة، وأخيراً اضطر أربكان إلى تقديم استقالته، ليثبت الجيش التركي أنه الحارس الوحيد للنظام مهما كانت قوة الحزب الحاكم.

من الشمولية إلى الفيتو

لكي يتم فهم الإطار النظري الذي يحكم العلاقات المدنية والعسكرية في تركيا لابد من تحديد نمط هذه العلاقة وتصنيفها في ضوء النماذج المختلفة لتدخل الجيش في السياسة، وباستثناء النمط الذي يقتصر فيه الحكم على المدنيين وتبقى النخب العسكرية بعيداً عن السياسة، يوجد عديد من أنماط التدخل العسكري في الحكم والحياة السياسية.

فبالنسبة لنماذج عدم تدخل الجيش في السياسة، هناك أولاً نموذج "الأرستقراطية التقليدية"، إذ تنتمي السلطات المدنية والعسكرية إلى الأصول الطبقية الارستقراطية نفسها، لكن نظراً للمهنية العالية التي تتمتع بها نخب الجيش فإن تسييس الضباط العسكريين ليس له محل من الحديث.

والنموذج الثاني هو "النموذج الشمولي"، حيث يكون الجيش في وئام مع السلطة السياسية، وتتم مكافأة الضباط بسبب انسجامهم مع السلطة، وهو النموذج الذي كان مطبقاً في الصين الشيوعية والاتحاد السوفياتي السابق، وأخيراً هناك نموذج "الديمقراطية الليبرالية"، وفيه ينأى الجيش تماماً عن التدخل في السياسة، بل هو خاضع لسلطة المدنيين، ولا يخضع للتسييس.

على النقيض من هذه النماذج، هناك أنماط أخرى من التدخلات العسكرية في السياسة، وبخاصة في الدول التي تفتقر إلى مؤسسات اقتصادية واجتماعية قوية في البلدان التي تعاني من أزمات، لذا يزداد تدخل الجيش في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كافة.

فهناك مثلا نموذج "الفيتو"، حيث لا يحكم الجيش بشكل مباشر، لكنه يحتفظ بنوع من سلطة الفيتو على عمليات صنع القرار، وهناك أيضاً نموذج "الحارس"، الذي يحكم فيه الجيش بصورة مؤقتة، ويعلن استعداده للتخلص من الفوضى التي يحدثها الحكم المدني، ثم يعود لثكناته بمجرد انتهاء الفوضى.

وأخيراً هناك النموذج "الشمولي"، إذ يمارس العسكريون دوراً أكبر في السلطة السياسية، فترة طويلة من الزمن، معتبرين أنفسهم دعاة التحديث الراديكالي، فيسيطرون على وسائل الإعلام، ويقومون بحل الأحزاب والنقابات، ويتدخلون في إغلاق الجمعيات المدنية وغيرها من أنشطة التدخل الصارمة.

وبالعودة إلى الجيش التركي نجد أنه قد انتمى إلى النموذج "الشمولي" حتى أواخر الأربعينيات، ثم تحول إلى نموذج "الحارس" في انقلاب عام 1960، بينما بدا أنه يتبع نموذج "الفيتو" في انقلاب 1970، وعاد مرة أخرى لنظام "الحارس" عام 1980، وأخيرا تبع نموذج "الفيتو" في الانقلاب الناعم عام 1997.

الإطار الدستوري للتسييس

بعيداً عن دور الجيش في إنشاء الدولة القومية، والحماية من أعداء الداخل والخارج، ترى بوراك أن هناك مجموعة من الأسس القانونية والمؤسسية التي ساعدت الجيش في التدخل في المجال السياسي، ففي دستور عام 1961 منح الجيش سلطة التدخل في القوانين من خلال مجلس الأمن القومي، الذي شَكَّل منصة يعبر فيها الجيش عن رأيه في مسائل الأمن الوطني، وفي دستور عام 1982 جرت زيادة عدد الأعضاء العسكريين عن المدنيين، كما جرى تغيير صفة قرارات المجلس لتتحول من مجرد توصيات إلى قرارات ملزمة للحكومة.

وبالإضافة إلى السند الدستوري، فإن هناك عاملاً آخر في اتساع نفوذ الجيش التركي يتمثل في وزارة الدفاع، فعلى الرغم من وجود وزارة واحدة للدفاع إلا أنها لا تخضع للرقابة أو السلطة المدنية، فتعيين القائد العام للجيش مرَّ بمراحل ثلاثة: الأولى عام 1924، حيث كان التعيين من قبل رئيس الوزراء، ثم أصبح تحت سيطرة وزير الدفاع عام 1949، وعاد إلى سلطة رئيس الوزراء مرة أخرى بموجب دستور 1961.

كما يستمد الجيش سلطته المؤسسية من خلال النظام الأساسي للجيش الذي ينص على دوره في حماية البلاد من أعداء "الداخل" و"الخارج"، ثم جاء قانون الخدمة المدنية بدستور 1982 لينص على أن للقوات المسلحة التدخل للدفاع عن البلاد بالقوة إذا لزم الأمر.

وعلى النقيض من النظم الليبرالية، لا تخضع ميزانية وزارة الدفاع للبرلمان، وأخيراً سعى الجيش إلى التعاون مع النخبة الصناعية الناشئة مستغلاً الامتيازات الدستورية التي تعفيه من الضرائب عند ممارسة الأنشطة الاقتصادية.

من هم أعداء "الداخل"؟

ظل مفهوم أعداء "الداخل" الذريعة التي استند إليها العسكريون لتبرير تدخلاتهم في الحياة السياسية، وقد تنوع مفهوم أعداء "الداخل" عبر المسار التاريخي، فتمثل أعداء الداخل في القوى الرجعية التي عارضت حركة التحديث الكمالية في أواخر العهد العثماني، وفي وقت لاحق صار المفهوم ينسحب إلى كل من التهديد الإسلامي والتهديد الكردي.

ويحتكر القادة العسكريون دوماً تحديد المقصود بأعداء "الداخل"، فقد يتسع المفهوم ليشمل كل الأحزاب السياسية، والجماعات العرقية، والدينية، في وقت من الأوقات، ويمكن لأي من هذه القوى أن تكون دافعاً لتدخل الجيش في السياسة بدعوى الحفاظ على أمن البلاد من أعداء "الداخل"، وبالتالي يتابع الجيش من كثب الأنشطة المدنية في البلاد كافة، ويقرر بنفسه مدى خطورة أي نشاط على الأمن الوطني، فيندفع إلى التدخل.

باختصار: نجد أن مفهوم أعداء "الداخل" يستخدم أداة هامة لإضفاء الشرعية على دور الجيش في المجال السياسي.

عشر سنوات من التحول

شهدت العلاقات المدنية العسكرية منذ مطلع القرن الحادي والعشرين العديد من التحولات، خاصة بعد الشروط التي حددها الاتحاد الأوربي التي يجب الوفاء بها لتتمكن تركيا من اكتساب العضوية الكاملة في الاتحاد.

وجاءت بداية التحولات في أواخر التسعينات بإلغاء المحاكم العسكرية من النظام القضائي، ثم كانت التعديلات الدستورية عام 2001 التي رجحت كفة المدنيين في عضوية مجلس الأمن القومي، كما حدت من سلطات المجلس التي كانت توجب على الحكومة أخذ قراراته بعين الاعتبار، لتصبح فقط مطالبة بتقييم هذه القرارات.

ثم كانت الإصلاحات الأكثر أهمية في التعديلات الدستورية عام 2003، التي ألغت هيمنة المؤسسة العسكرية على بنية مجلس الأمن القومي، وتقليص سلطات المجلس التنفيذية عندما أصبحت قرارات المجلس ذات صفة استشارية فقط، كما زاد عدد أعضاء المجلس من المدنيين وأصبح المجلس يجتمع مرة كل شهرين بدلا من اجتماعاته الشهرية.

المطلوب تغيير شامل

وعلى الرغم من كل هذه الإصلاحات، فمازال الاتحاد الأوربي رافضاً النفوذ العسكري المهيمن عبر القنوات غير الرسمية، إذ إن تلك الإصلاحات لم تفك الارتباط بين العسكريين والسياسة، ظهر ذلك جلياً عام 2007 عقب قرار حزب العدالة والتنمية ترشيح عبد الله غُل رئيساً للجمهورية، مما أثار مخاوف رئاسة الأركان فأصدرت بياناً في منتصف الليل عبر موقعها الإلكتروني، مع الإشارة إلى حجاب زوجة غُل على أنه تهديد للعلمانية، ومع ذلك صمدت الحكومة المنتخبة أول مرة في وجه التدخلات العسكرية، بل وأصدر أردوغان في اليوم التالي تصريحاً شديد اللهجة بضرورة التزام رئاسة الأركان بحدودها، الأمر الذي دفع برئاسة الأركان لسحب بيانها الإلكتروني.

وتشير بوراك إلى دلالة هذا البيان على الرغبة القوية لدى الجيش في استعادة مكانته الهامة في المشهد السياسي، من خلال اللعب على وتر حماية العلمانية، واعتبار التدخل في اختيار المرشحين لمنصب رئيس الجمهورية واجباً سياسياً، وكأن الجيش التركي مازال يرى في نفسه الضامن الرئيس لحماية النظام.

وتختتم بوراك دراستها بالتأكيد على الحاجة إلى تغيير شامل في سلوك وتصورات النخب العسكرية، وألا يستمروا في دور المحافظة على النظام والمبادئ الكمالية والعلمانية من أجل ترسيخ الديمقراطية، فهذا الدور لا يصلح لمشروع التحديث على النمط الغربي، لأن المؤسسة العسكرية في الديمقراطيات الغربية تخضع للسلطة المدنية المنتخبة.

وينبغي إعادة النظر في واجبات النخب العسكرية لتقرر الاكتفاء بحماية البلاد من أعداء "الخارج"، بدلا من الاستمرار في حماية الدولة من الشعب، وذلك إذا كانت الدولة مازالت راغبة في الحصول على عضوية الاتحاد الأوربي.


الخميس، 30 يونيو 2011

إسلاميو تركيا.. مشروع في تجنب المعارك الخاسرة


هل يمكن للإسلاميين العرب استلهام التجربة التركية؟

أمل خيري
إسلام أون لاين

ينظر الكثيرون للتجربة التركية على أنها نموذج فريد للإسلاموية المنفتحة، التي استطاعت بذكاء الدمج بين معطيات الواقع والقيم الإسلامية؛ إلا أن عوامل نجاح هذا النموذج لم تلق الاهتمام الكافي من التحليل، فالتحليلات المادية البنيوية للظاهرة الإسلاموية وما بعد الإسلاموية تعتبر العولمة والتغريب هما المتغيرين الأساسيين اللذين أحدثا التحول في سلوك الإسلاميين نحو الانفتاح.

وعلى الرغم من أن الدراسات الأكاديمية قد لفتت الانتباه إلى العولمة، وإلى إخفاق تجارب الحكومات الإسلامية السابقة سواء في تركيا أو خارجها كعوامل لها تأثير على تحول الإسلاميين، فإن المتغير الاجتماعي- الثقافي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار كذلك.

وهو الأمر الذي دعا إحسان يلمازIhsan Yilmaz لدراسة العوامل التي أدت إلى تغيير طبيعة الإسلام السياسي في تركيا، لمعرفة الأسباب الحقيقية لظهور الإطار المعياري المتسامح الذي يمثله حزب العدالة والتنمية اليوم، والذي ينتمي رجاله للإسلاموية. ونشرت دراسة يلماز بالعدد الأخير لصيف 2011 من المجلة الأوروبية للاقتصاد والدراسات السياسية الصادرة عن جامعة الفاتح التركية.

الانفتاح والتسامح

يسعى يلماز في دراسته للكشف عن العوامل الرئيسية التي تقف وراء التحول الذي يشهده الإسلاميون في تركيا، والذي يتخذ طابعا خاصا يجعل الإسلاموية التركية تختلف عن غيرها من التجارب الإسلامية الأخرى. وبعيدا عن خصائص التجربة العلمانية التركية، يركز يلماز على دور حركة فتح الله جولن العالمية، التي يراها العامل الحاسم والمؤثر في جعل الإسلاميين في تركيا اليوم أكثر انفتاحا وتسامحا، دون إغفال عوامل أخرى.

لكن يبقى تأثير حركة جولن أشد فاعلية، في ظل انتشار الحركة عالميا، وما تديره من مدارس وجمعيات خيرية ومؤسسات إعلامية، صحيح أن هناك عوامل أخرى خارجية مثل: التحولات العالمية والقيود المؤسسية الداخلية التي تفرض العلمانية بقوة، إلا أن كل هذه العوامل قد لقيت الاهتمام المطلوب في دراسات أخرى.

وبناء على فرضية يلماز التي بنى عليها فكرته، يحاول في دراسته تقديم تحليل مقارن بين خطاب فتح الله جولن، وبين أفكار الإسلاميين الأتراك حول العديد من القضايا ذات الصلة بالإسلام والتي طرحت بقوة في مرحلة ما بعد الإسلاموية من بينها: العلمانية والتعددية والديمقراطية وسيادة القانون، والقومية، والدولة، الإسلام، التدين، والآخر، والحدود والحوار.

بين الإسلامية والإسلاموية

يثير مصطلح الإسلاموية أو الإسلامية Islamism الكثير من الجدل، وتتباين تعريفاته، وعلى الرغم من تداول المفهوم بكثرة خلال العقدين الماضيين، فما زال هناك خلط شديد بين الإسلام، والإسلاموية، والإسلام السياسي، حتى إن الكثير يستخدم هذه المصطلحات بالتبادل.

ويرى يلماز أن الإسلاموية مصطلح يشير عادة إلى الإسلام السياسي، وإلى أدلجة الدين واستخدام الإسلام كأداة للسياسة. ومن ثم فالإسلاموية تفترض أن الإسلام ليس دينا فحسب بل هو أيضا نظام سياسي، إلا أن الخطأ يكمن في إطلاق وصف الإسلامي أو الإسلاموي على أي ناشط إسلامي سواء في المجال الاجتماعي أو السياسي، مما وسع مفهوم الإسلاميين ليشمل كل المسلمين المتدينين أو الناشطين في المجتمع، بغض النظر عن مدى رؤيتهم الإسلام كأيديولوجية من عدمه.

ويعتبر يلماز أن هذا الاستخدام للمصطلح يطمس الفروق بين الأفراد الذين يتخذون الإسلام كفكر، والأفراد الذين يرون الدين ببساطة منحصرا في العبادات والصدقات ومساعدة المحتاجين. كما أن استخدام مصطلح الإسلام السياسي أيضا لا يعبر عن الإسلاموية، إذ إن الإسلام السياسي قد ينصرف إلى الممارسات الديمقراطية كالانتخاب على خلفية إسلامية أيديولجية، وقد ينصرف إلى محاولة أسلمة المجتمع من أعلى لأسفل وإعادة هندسته الاجتماعية.

ويستخدم يلماز في دراسته مصطلح الإسلاموية باعتباره "شكلا من أشكال استخدام الإسلام كأداة من قبل الأفراد والجماعات والمنظمات التي تسعى لتحقيق أهداف سياسية. فالإسلاموية تقدم استجابة سياسية لمواجهة التحديات المجتمعية اليوم عن طريق إقامة مؤسسات ترتكز في قيمها ومفاهيمها على أسس مستعارة من التراث الإسلامي".

الإسلاميون –إذن- يتصورون أن الإسلام يمثل دينا كاملا وجاهزا للتطبيق في المجتمع، ويضم نموذجا سياسيا، وقيما ثقافية، وهيكلا قانونيا، وترتيبات اقتصادية، وهو نظام يستجيب لحاجة كل البشر ويؤكد حقوق الإنسان، بل والأكثر من ذلك يقدم للمسلمين شعوراً باحترام النفس والثقة بها، ومن ثم يدعو الإسلاميون كل المسلمين المعاصرين للعودة لدينهم والاتحاد السياسي للأمة الإسلامية، كما يهدف الإسلاميون لتطبيق الشريعة الإسلامية بالكامل، والقضاء على التأثيرات الغربية في العالم الإسلامي، خاصة في مجالات الاقتصاد والسياسة والمجتمع والثقافة، والتي يعتبرونها غير متوافقة مع قيم الإسلام الحقيقية والأصيلة.

ويستند خطاب الإسلاميين على رفض الغرب، ومع ذلك ليس من الواضح ما إذا كانوا يعارضون تماما مشروع الحداثة، أم أنهم فقط يختلفون مع بعض القيم والمفاهيم الغربية كالعلمانية والعقلانية والوضعية والفردية. إلا أن الواقع يؤكد أن كثيرا من الإسلاميين اضطروا للعمل في إطار الدولة القومية وتعاملوا مع منتجات غربية مثل التكنولوجيا، والنظم الاقتصادية والسياسية، لكونهم لم يطورا نظاما بديلا حتى الآن. وهناك الكثير من الإسلاميين الذين لا يجدون غضاضة في ارتداء الزي الغربي.

ما بعد الإسلاموية

ومن الإسلاموية إلى ما بعد الإسلاموية وهو المصطلح الذي استخدم لأول مرة من قبل الأكاديمي الإيراني آصف بايات عام 1996، في إشارة إلى السياق الإيراني. وكان يعني بالمصطلح حالة يتصالح فيها المجتمع مع الدين، من خلال تبني نظم حكم ديمقراطية، لكن هذه الحالة لا تعني معاداة الإسلامية بل ربما تعني –أكثر- الجنوح نحو إعادة علمنة الدين، والحد من الدور السياسي للدين. وعبر آصف بايات عن ما بعد الإسلاموية الإيرانية بكونها فكرة الدمج بين الإسلام (كدين شخصي) والحرية الفردية وحرية الاختيار، وأن ما بعد الإسلاموية ترتبط بالديمقراطية وجوانب الحداثة. ومنذ ذلك الحين، انتشر المصطلح واستخدمه العديد من الكتاب في أوروبا.

ويرى يلماز أن مصطلح ما بعد الإسلاموية يمثل توجهاً يسعى نحو المزج بين التدين والإيمان، والحقوق والحريات، والإسلام والحريات المدنية، ويركز على الحقوق بدلا من الواجبات، والتعددية بدلا من السلطة المنفردة، والمستقبل بدلا من الماضي.

تطور الإسلام السياسي التركي

منذ تأسيسها في نهاية القرن الثالث عشر، كانت الدولة العثمانية على اتصال مستمر مع أوروبا. وعندما دخلت في مرحلة الضعف في القرن السابع عشر، أدرك حكامها أن هناك حاجة حيوية للإصلاح. وفي البداية ، قاموا بالبحث عن حلول من الداخل، ثم قرروا محاكاة الغرب. وبعد إنشاء مناصب دبلوماسية دائمة للعثمانيين في العواصم الأوروبية بدأ إرسال الطلبة إلى هذه المدن، على أمل أن يعود هؤلاء الطلاب لتنفيذ عملية الإصلاح.

وعندما عاد هؤلاء الشباب حاولوا تطوير الدولة العثمانية لتتواكب مع المؤسسات السياسية الغربية، ورأوا أنه لا إصلاح إلا بتبني النموذج الديمقراطي الغربي، والنظم الأنجلوسكسونية، إلا أنهم واجهوا التيارات المحافظة.

ثم بدأ الوعي الإسلامي منذ أواخر القرن التاسع عشر، والذي اتخذ شكلا من أشكال الإسلام السياسي، في الوقت نفسه الذي ظهر فيه الوعي القومي التركي. بينما وجد العثمانيون الشباب فرصة لطرح أفكارهم موضع التنفيذ في عام 1876 عندما حاول الساسة الإصلاحيون الاستفادة من الفوضى في البلاد، والضغط من أجل تشكيل حكومة دستورية، فصدر أول دستور عثماني على غرار الدستور البلجيكي، والبروسي، وهو أول دستور مكتوب في التاريخ لدولة إسلامية.

ومع مجيء حزب الاتحاد والترقي للسلطة بدأ تأسيس نظام دستوري حقيقي. ولكن هذا النظام لم يدم طويلا، حيث جاء أتاتورك ليعيد الاستبداد بصورة جديدة، وحينها حاول القضاء على الهوية الإسلامية العثمانية، وبالفعل تم تهميش كل ما هو إسلامي حتى عام 1950.

وعلى الرغم من ذلك ظهرت حالة التضامن والهوية المشتركة العثمانية والإسلامية داخل تركيا الحديثة، وكان محمد عاكف (1873-1936) أول صوت إصلاحي إسلامي كممثل في الجمعية الوطنية ومؤلف النشيد الوطني للجمهورية.

وبعد أن ألغيت جميع الطرق الصوفية، استمر وجودها بصورة غير رسمية دون ضجيج. وفي المقابل، غض المسؤولون الطرف عنها، حتى إن الطريقة النقشبندية بدأت تلعب دورا بارزا، حتى خرج منها قادة صوفيون شاركوا لأول مرة في السياسة الوطنية، مثل الشيخ محمد زاهد كوتكو (1897-1980) الذي كان يحث الناس على ضرورة المشاركة في الشؤون الوطنية، ولم ير كوتكو في الدولة العلمانية عدوا مطلقا، وإنما حاول إرساء الشرعية الإسلامية بجانب الشرعية الدستورية.

وقد أثر كوتكو في العديد من الإسلاميين السياسيين، وبرعايته نشأ حزب النظام الوطني عام 1970، وحزب الخلاص الوطني عام 1972، اللذان أشرف على تأسيسهما البروفيسور نجم الدين أربكان ، والذي كان تلميذا لكوتكو، بل إن معظم قادة الحزبين كانوا من تلاميذ كوتكو.

أربكان مهندس الحركة الإسلامية

من المعروف أن حركة أربكان الإسلامية كانت تحوي مزيجا من الثقافة السنية الإسلامية والتقليدية القائمة على النظرة الصوفية، مترافقة مع خطاب تنموي. وارتكز خطاب أربكان الاقتصادي على تعزيز النظام الاجتماعي القائم على قيم وطنية بدلا من المبادئ الغربية، وتعزيز الهوية الإسلامية التركية على حساب العلاقات مع الغرب.

واعتمد أربكان على أن تطوير الصناعات الثقيلة في تركيا سيجعل منها دولة قوية تستطيع تخفيف علاقاتها مع الغرب، بل ويمكنها أن تصبح زعيمة العالم الإسلامي، تحت مظلة سوق إسلامية مشتركة، يكون فيها الدينار عملة رسمية مشتركة، وبها جيش دفاع قوي يجعلها في مصاف الدول الكبرى.

وبعد الانقلاب العسكري في عام 1980، أطيح بحزب النظام الوطني كغيره من الأحزاب السياسية الأخرى. وعندما عاد الجيش إلى ثكناته في عام 1983، قام أربكان بتأسيس حزب جديد تحت اسم حزب الرفاه، والذي لم يختلف في فكره كثيرا عن حزبي النظام والخلاص، واستطاع الرفاه حصد المزيد من الأصوات في الانتخابات، وبعد انتخابات عام 1994 المحلية، تولى العديد من قادة الحزب كرؤساء بلديات مدن رئيسية عدة مثل أنقرة واسطنبول، على سبيل المثال رئيس الوزراء الحالي رجب طيب أردوغان كان رئيس بلدية اسطنبول في ذلك الوقت، وكان عضوا بالرفاه.

وفي عام 1996، أصبح نجم الدين أربكان أول رئيس وزراء تركي إسلامي، وكان من أول أعماله تقديم دعوة لقادة الصوفية لحضور مأدبة إفطار لرئاسة الوزراء. كما سعى لإقامة تعاون اقتصادي بالاتفاق مع الدول الثماني الكبرى الإسلامية تحت اسم D - 8. ومع زيادة مخاوف جنرالات الجيش والنخب العلمانية من أنشطة أربكان التي اعتبرت مناهضة للعلمانية، وبالضغط على أربكان اضطر لتقديم استقالته في يونيو 1997، فيما سمي بانقلاب ما بعد الحداثة.

وتم حل حزب الرفاه في يناير 1998، ومنع أربكان من ممارسة السياسة لخمس سنوات. ولأن الإسلاميين في تركيا يتعلمون من التاريخ فقد كان الحزب البديل جاهزا قبل صدور قرار حل حزب الرفاه، وبالفعل تأسس حزب الفضيلة بزعامة أصدقاء وتلاميذ أربكان قبل أن يتم حله عام 2001 .

الإسلام المدني

ينتقل بعد ذلك يلماز إلى حركة جولن ودورها في تشكيل الإسلاموية التركية المعاصرة، في صورة الإسلام المدني. وتعد حركة جولن من أوسع الحركات الإسلامية انتشارا على مستوى العالم، ومن أكثرها نفوذا على المستوى الفكري والحركي. لذا يسلط يلماز الضوء على أهم أفكار جولن حول العلمانية والديمقراطية وسيادة القانون.

يرى جولن أن المؤمنين بإمكانهم العيش في البيئات العلمانية، التي لا تتأسس على أساس الدين، وبالتالي فإن الدولة لا تتداخل مع الدين أو الحياة الدينية، أي إن الدولة تكون على الحياد. كما يعتبر أن هناك نوعاً من التوافق بين الإسلام وعلمانية الدولة، فالدولة الإسلامية كان لديها الحرية في اختيار شكل المؤسسات التشريعية والتنفيذية، بناء على احتياجات المجتمع، داخل إطار القواعد العامة للشريعة.

أما نظرة جولن بشأن الديمقراطية فهي معروفة، فهو دائما يؤكد أن الإسلام لا يقترح شكلا معيناً من أشكال الحكم، بل يحدد المبادئ الأساسية التي توجه الحكومة، ويترك للشعب اختيار نوع وشكل الحكومة حسب الوقت والظروف. فالإسلام يرى أن المجتمع يتكون من أفراد واعين ولديهم إرادة حرة تمكنهم من تحمل المسؤولية تجاه أنفسهم والآخرين. ولا يعني فهم جولن لحكم الأغلبية السماح بطغيان الأغلبية وانتقاص حقوق الأقلية، بل على العكس ينبغي السماح للأقليات المختلفة في العيش وفقا لمعتقداتهم.

في حين يرفض جولن القومية، على اعتبار أن المسلم الملتزم يجب أن يحب الجميع، ولا يستبعد أحدا، كما أن جولن لديه العديد من الأتباع والمتعاطفين معه في جميع أنحاء العالم، حتى من الأكراد، وهو يعتبر أن القوميين يقومون باستبعاد القوميات الأخرى وهو ما يرفضه فكريا، خاصة أن أحد أبرز أساتذته وهو سعيد النورسي كان كرديا، وكثير من أصدقائه الحاليين أيضا من الأكراد.

استمر فتح الله جولن بعيدا عن الحدة الإيديولوجية، التي يواكبها دمج الدين بالسياسة، فهو يرى أن السيادة للأمة دون قيد أو شرط. كما يرفض جولن بشكل قاطع الفكر الشمولي للإسلاموية، باعتبار العقيدة الشمولية منافية تماما لروح الإسلام، التي تعزز سيادة القانون وترفض علنا القمع ضد أي شريحة من شرائح المجتمع. وبهذه الروح فالإسلام يشجع أيضا إجراءات تحسين أحوال المجتمع وفقا لرأي الأغلبية.

ومن ثم فإن جولن يرى أن الإسلام ينبغي أن يقدم كمكمل للديمقراطية لا كبديل لها، فالإسلام يمكنه أن يثري الديمقراطية في الجانب الروحي من خلال الاستجابة لاحتياجات البشر العميقة، مثل الارتياح الروحي.

وأعلن جولن مرارا أنه لا يوجد شكل محدد لإدارة الانتخابات أو نظم الحكم في الإسلام، والتاريخ الإسلامي شهد تنوعا كبيرا، ولا مانع من الاجتهاد في شكل جديد، كما لا يوجد مانع أن يعمل الإسلاميون في ظل نظام غربي طالما لم يكن لهم الأغلبية.

وتمتاز حركة جولن بالدعوة للإسلام بانفتاحية من خلال التعليم والتنمية، لا بالتشدد، ويدعو إلى إعادة إحياء المفاهيم الصوفية من خلال التركيز على تجديد الإيمان الداخلي. ولا ننسى أن نفس هذا النهج اتبعه من قبل حسن البنا في مصر ومحمد إقبال في الهند وسعيد النورسي في تركيا، فكلهم كانوا يعون تماما البعد الروحي للإسلام.

وفي حين ركز الإسلاميون على الممارسات السياسية، اقتصر تركيز جولن على الأنشطة الاجتماعية والتعليمية والتنموية والروحية. حيث يعتبر جولن كتاب الله معينا لا ينضب من الحكمة لا ينبغي حصره في الخطاب السياسي أو اعتباره كتابا عن النظريات السياسية أو أشكال الدولة. بل لقد رأى جولن أن استخدام القرآن كأداة في الخطاب السياسي هو عدم احترام لذلك الكتاب المقدس، ويشكل عائقا يحول دون استفادة الناس من هذا المصدر العميق.

جولن والآخر

لا يعترف جولن بتقسيم العالم إلى دار الحرب ودار الإسلام، ويعتبر هذه الحدود بين الدارين وهمية، فهو يظل مسلماً حتى لو أقام في دولة لا تطبق شرع الإسلام، ومن ثم فهو لا يرى المسلمين في مقابل الآخرين. كما أنه لا يعتقد بعملية محاولة إحياء الخلافة.

انتقد جولن أيضا ما فعله أربكان من التوجه نحو العالم الإسلامي على حساب الغرب؛ إذ إنه يرفض فكرة أن الصدام بين "الشرق" و"الغرب" أمر لا مفر منه. ولذا عمل جولن على تشجيع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ويرى كثير من المحللين أن أفكار جولن هذه قد لعبت دورا رئيسيا في تخفيف حدة الاحتقان الأوربي تجاه الجماعات الإسلامية، خاصة أن كثيرا من هذه الجماعات كانت تنتقد أفكار جولن في البداية ثم ما لبثت أن تبنتها، بعد أن ظلوا مقتنعين أن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يشكل تهديدا للأمن التركي والثقافة الإسلامية.

وعلى النقيض من الوهابية والجهادية والصوفية سعت حركة جولن لتقديم وجهة نظر إيجابية للعالم كله، والدعوة إلى الحوار مع الجميع.

حزب الفضيلة

بعد التعرف على أهم أفكار جولن يحاول يلماز تحديد مدى تأثير هذه الأفكار في الإسلاميين الأتراك في مرحلة ما بعد الإسلاموية. والتي تمثلت في حزب الفضيلة، الذي رأى أن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تنجح في تفادي المواجهة مع المؤسسة الكمالية، تتمثل في العزوف عن استخدام الخطاب الديني في السياسة.

وبالفعل بدأ الحوار الداخلي بين الإسلاميين حول هذا التوجه، وترتب عليه حدوث انشقاق داخل الحركة بين مجموعتين مختلفتين: المجموعة التي أُطلق عليها التقليديون؛ ممثلين في نجم الدين أربكان وريكاي قوطان، وهذه المجموعة عارضت أي تغيير جدي في النهج أو السياسة، أما المجموعة الثانية فتمثلت في مجموعة من الشباب بقيادة رجب طيب أردوغان، وعبد الله غول، وهذه المجموعة رأت أن الحزب بحاجة إلى مراجعة وتجديد النهج لعدد من المسائل الأساسية، خاصة الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعلاقات مع الغرب.

وقد انعكس تأثير هذه المناقشة الداخلية في النظام الأساسي لحزب الفضيلة، والذي بدا أنه لا يعبر عن الإسلام السياسي، بل على العكس تبنى الكثير من القيم الغربية، حتى أصبح حزبا ليبراليا محافظا، ورفض الحزب استخدام الدين والعلمانية على حد سواء في السياسة، كما رفض نائب الرئيس أي تفاهمات سياسية قائمة على استغلال الدين أو الرموز الدينية.

وبدأ أعضاء الحزب من الشباب ينتقدون علنا حزب الرفاه على أساس أنه ارتكب خطأ باستخدام الدين. وأكد أردوغان أن الدولة لا يمكن ولا ينبغي أن يكون لها أن تكون دينية، وأكد أيضا أهمية الديمقراطية واقتصاد السوق الحرة وحقوق الإنسان.

علاوة على ذلك، وخلافا للإسلاميين في كثير من البلدان الأخرى، قطعت الحركة الإسلامية التركية علاقاتها مع التقليد، ولم تستسلم لحرفية الخطاب، وهو ما ساعدها على البقاء بعيدا عن التطرف في الدين.

حزب العدالة والتنمية

ولد حزب العدالة والتنمية من رحم حزب الفضيلة، والذي ضم مجموعة الشباب الإصلاحيين الذين أكدوا على احترام حقوق الإنسان والديمقراطية ومبادئ السوق الحرة. وقدموا نموذجاً يجمع بين الإسلام والليبرالية الديمقراطية بالقيم المحافظة، ومع الإقرار بأهمية الدين والمعتقدات الشخصية، فإنهم يقيمون أنفسهم داخل الإطار الدستوري العلماني.
وبالطبع تعرض الحزب للعديد من الانتقادات الراديكالية القاسية حتى من أربكان وحزب السعادة، ومع ذلك ظل حزب العدالة والتنمية يقدم نفسه على أنه الحزب الديمقراطي المحافظ، مما يعني ضمنا أنه حزب ديمقراطي مسلم مماثل لحزب الديمقراطيين المسيحيين في أوروبا الغربية.

وسعى الحزب لتعزيز الهوية التقليدية المرتبطة بنجاح العدالة الاجتماعية، ونتيجة لذلك اجتذب الكثير من الأصوات الانتخابية، حتى إنه اجتذب أصوات الإسلاميين المتشددين الذين كانوا من قبل يدعمون حزب الرفاه، وحصل الحزب على 34% من أصوات الناخبين في انتخابات نوفمبر 2002، ثم زاد نصيبه إلى 47% من الأصوات في انتخابات يوليو 2007، وللمرة الثالثة على التوالي يحصل على نسبة 50% في انتخابات 2011.

جولن وحزب العدالة

يعود يلماز مجددا للحديث عن العوامل التي أدت للتحول في فكر الإسلاميين في تركيا، ويؤكد أن هناك الكثير من العوامل التي لا يمكن إغفالها، من بينها العولمة، وفشل تجارب الحكم الإسلامية السابقة في دول مثل السودان وباكستان وإيران.

ومع ذلك تظل للتجربة التركية خصوصيتها، خاصة أن الإسلاميين رغبوا في تجنب المواجهة مع جنرالات الجيش الذين يحافظون بقوة على العلمانية، ويعملون على منع وصول الإسلاميين للحكم، كما حدث مسبقا مع حزب الرفاه، ومع ذلك يبقى العامل الأكثر حسما وهو تجربة الإصلاحات الموجهة نحو التصدير، التي اتبعها تورجوت أوزال في الثمانينيات، والتي شجعت كثيرا من الملتزمين دينيا، ذوي النزعة الليبرالية البرجوازية اقتصاديا ليصبحوا اللاعبين الرئيسيين في الساحة الداخلية التركية. وهذه الفئات الجديدة كانت أكثر ليبرالية من غيرها، حتى إنها اكتسبت خبرة كبيرة في الأعمال التجارية القائمة على الثقة بالنفس، وتخفيف الخوف من العالم الخارجي.

ومن ثم أصبحت أكثر مرونة وتكيفا مع الآخر، وهذه الفئة الجديدة أيدت ضمنا الانضمام للاتحاد الأوروبي. وتشكل هذه النخبة من رجال الأعمال المحافظين اجتماعيا والليبراليين اقتصاديا العمود الفقري لدعم حزب العدالة والتنمية.

ومع أهمية كل هذه العوامل يرى يلماز أن أكثر العوامل أثرا في تعديل الخطاب الإسلامي في تركيا يعود لأفكار جولن. فمنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر تبنى جولن خطابا انفتاحيا، كان له تأثير على توجه الإسلاميين في تركيا نحو رفض النهج التصادمي، والتقارب مع الأفكار الغربية والمؤسسات الغربية.

كما استفاد الإسلاميون في تركيا من حركة جولن في انفتاحها على المجتمع، فأصبح الجيل الجديد من الشباب أكثر اتصالا مع الشارع، خاصة أنهم علموا جيدا من خلال استطلاعات الرأي أن الشعب التركي لن يصوت للإسلاميين، فكان تلاحمهم مع الناس والخدمات الاجتماعية أحد مفاتيح الوصول لأصوات الشعب في الانتخابات.

ومن الجدير بالذكر أن العديد من رجال الأعمال فضلا عن بعض قادة وأعضاء حزب الفضيلة، ثم حزب العدالة والتنمية فيما بعد قد دفعوا بأبنائهم للدراسة في مدارس جولن. ومن الواضح أن ما دعا إليه جولن على مدى العقود الثلاثة الماضية من الحاجة إلى مواءمة الإسلام مع الحاضر، قد لاقى صداه في ممارسات الإسلاميين، فقد بعث جولن مرارا برسالة إلى العالم مفادها أن المسلمين يمكنهم التحول للديمقراطية والتكيف التدريجي مع العولمة دون أن يفقدوا خلفياتهم ومعالمهم الدينية.

ونتيجة للتأثير الثقافي والديني لحركة جولن بين الطبقات السياسية داخل المجتمع، اندفعت الحركة الإسلامية نحو الوسطية، وفتح الطريق نحو الاندماج في الواقع الجديد للعولمة. فخطاب جولن الانفتاحي أضعف تأثير أربكان الاجتماعي المحافظ لدى قاعدة كبيرة من الإسلاميين.

ويجب أن نلاحظ أيضا انتشار وسائل الإعلام لحركة جولن في كل أنحاء الأناضول، فصحيفة زمان حاليا يوزع منها في معظم البلاد ما بين 800 ألف و100 ألف نسخة يوميا، وقناة سامانيولو هي واحدة من قنوات التلفزيون الرئيسية في البلاد، وتشاهد على نطاق واسع في الأناضول خاصة من قبل طوائف الشعب اليمينية والمحافظة والدينية.

استلهام التجربة التركية

ويتوقع يلماز أن تستلهم كثير من الحركات الإسلامية في العالم تجربة الإسلاميين في تركيا وأفكار جولن في تطوير الخطاب الإسلامي ليتوافق مع التعددية الثقافية في ظل العولمة. خاصة أن الحركة لها انتشار عالمي واسع من خلال مدارسها، وكذلك من خلال مجلة حراء التي بدأ نشرها بالعربية منذ 2005 باعتبارها جسرا ثقافيا بين الأتراك والعرب، وكمنتدى للقضايا الملحة التي تشغل العالم الإسلامي، وكأداة لترسيخ رؤية متجددة لعلاقة العالم الإسلامي الفكرية والاجتماعية والسياسية بالواقع العالمي المعاصر.

ويؤكد يلماز في ختام دراسته أنه لا يَدَّعِي أن التجربة التركية فريدة من نوعها تماما، أو أنها يمكن نسخها ولصقها مباشرة في سياقات أخرى. علاوة على ذلك فإن الإسلاميين في كثير من البلدان الأخرى يمرون أيضا بمرحلة انتقالية. ولكنه فقط يتصور أن التجربة التركية وتأثير حركة جولن سوف يتفاعلان معا، مما يمهد الطريق لمزيج جديد من الإسلاميين أكثر انفتاحا.



الثلاثاء، 28 يونيو 2011

إسرائيل والإسلاميون العرب.. قلق لا ينتهي


بعد هبات رياح التغيير العربي
إسرائيل والإسلاميون العرب.. قلق لا ينتهي
أمل خيري
إسلام أون لاين – القاهرة
في الوقت الذي اجتهدت فيه الأنظمة العربية لإثارة الخوف المصطنع تجاه الإسلاميين مدى العقود السابقة لتوطيد أركان حكمها، تعيش اليوم إسرائيل قلقا حقيقياً في ظل التحولات التي تشهدها المنطقة، فهل يأتي ربيع التغيير العربي بالإسلاميين ليحولوا الحلم الإسرائيلي كابوسا؟.
حول هذا الموضوع صدر قبل أيام العدد الجديد من مجـــــلـــة واشنــــــــطن الفصليـــــــــــــــــــة Washington Quarterly)(The، وضم العدد دراسة لـ"دانيــــــال بايمــــــــــــان[1]Daniel Byman" تحت عنوان:" نظرة إسرائيل المتشائمة للربيع العربي"، استعرض فيها قائمة من المخاوف الإسرائيلية تجاه موجة الثورات التي تجتاح المنطقة العربية، التي رأى أن بعضها قد يكون مفهوماً ومشروعاً، لكن بعضها الآخر مبالغ فيه أو غير صحيح بإطلاق.
الأعداء.. أصدقاء
من أكبر مخاوف إسرائيل موقف الشعوب العربية من السلام معها، فعلى مدار تاريخ إسرائيل لم تكن مصر سوى العدو اللدود التي خاضت حروباً دامية معها منذ 1948 وحتى 1973، ولم يتبدل الأمر إلا بعد توقيع الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979، وهنا أصبح أعداء الأمس أصدقاء بل وشركاء.
ومع ذلك تعتقد إسرائيل أن هذا السلام لم ينل رضا الشعب المصري، فلم يمض على توقيع معاهدة السلام سوى عامين حتى اغتيل السادات بيد جماعات إسلامية رفضت هذا السلام، لذا مازالت إسرائيل حتى اليوم تحرص على تكريم ذكراه.
وحينما تولى مبارك الحكم لم يحز رضا الشعب الإسرائيلي كله كما فعل السادات أو الملك حسين على سبيل المثال، لكنه لعب دوراً هاماً في الحفاظ على معاهدة السلام، وشريكاً متعاوناً في مجال مكافحة الإرهاب، وعدواً لإيران الخصم اللدود المشترك، إضافة لالتقائه مع إسرائيل في أهداف استراتيجية عدة، وأخيراً فإن نظامه كان يبدو راسخاً وثابتاً، مما بث الطمأنينة في قلوب الإسرائيليين.
ويشير المحلل الإسرائيلي "ألوف بِن Aluf Benn" إلى أن ''إسرائيل قد استبدلت ثمانية رؤساء وزراء، وخاضت العديد من الحروب، وانخرطت في محادثات السلام مع شركاء متعددين، وكان الرئيس مبارك دائماً هناك''، كل هذا الميراث التاريخي يثير مخاوف الإسرائيليين مما هو قادم في مصر، فإسرائيل لا تخشى من الثورة المصرية سوى أن تأتي بالإسلاميين متمثلين في الإخوان المسلمين، الذين ربما يكتسبون المزيد من القوة، سواء بصورة مشروعة من خلال انتخابات ديمقراطية، أو من خلال الاستيلاء على السلطة أثناء فترة الفوضى، وإسرائيل لا تنسى للإخوان المسلمين انتقادهم الدائم السادات ومن بعده مبارك، لحفاظهما على السلام مع إسرائيل، معتقدين أن هذا السلام كان أحد العوامل التي نزعت صفة الشرعية عن نظام مبارك.
الإخوان ومعاهدة السلام؟
مازال الأمر غامضاً تجاه مستقبل معاهدة السلام في مصر ما بعد مبارك، وإن كان بعضهم يرجح أن هناك توجه كبير لإلغاء المعاهدة خاصة إذا تولى الإسلاميون السلطة، فالمحللون الإسرائيليون يؤكدون ذلك باستعارة عبارة منسوبة إلى رشاد البيومي أحد قياديي الإخوان المسلمين في فبراير الماضي وقبل تخلي مبارك عن منصبه إذ قال: " بعد أن يتنحى الرئيس مبارك عن منصبه ويتم تشكيل حكومة مؤقتة، فسيكون هناك حاجة إلى إلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل''.
وعلق المحلل السياسي الإسرائيلي "يوسي كلاين هاليفي Yossi Klein Halevi"، على ذلك بقوله إنه في حال نجاح الإخوان المسلمين في الانتخابات فستتولى الحكم حركة مناهضة للسامية وملتزمة بإنهاء معاهدة السلام بين مصر والدولة اليهودية، أما "باري روبين Barry Rubin," وهو محلل إسرائيلي أخر، فيحذر من عودة مصر مرة أخرى لاعتناق القومية المتطرفة وأن تجدد تحالفها مع سوريا.
وبعد أن يورد "بايمان" – كاتب الدراسة – هذه المخاوف الإسرائيلية، يرى بأن شعبية الإخوان المسلمين وإمكانيات توليهم السلطة تبدو غامضة، صحيح أن هناك مؤشرات تدل على دعم كثير من فئات الشعب المصري للإخوان، إلا أن هذه النسبة ربما لا تتعدى 20% من إجمالي المصريين، والمشكلة في نظر بايمان ليست في عدد مؤيدي الإخوان بقدر ما تتعلق بتشتت القوى العلمانية المنافسة وعدم تنظيمها.
ويؤكد بايمان أن جماعة الإخوان المسلمين قد رفضت استخدام العنف في ظل حكم مبارك - على الرغم من تشكك بعض الإسرائيليين في أن هذا التخلي عن العنف كان مدفوعاً بقوة الأمن وليس عن قناعة بالتخلي عن العنف- كما أنهم أعلنوا تمسكهم بالديمقراطية وأنهم لا يسعون إلى الانفراد بالسلطة، بل وأكدوا عدم تقديم مرشح للرئاسة من أجل تهدئة المخاوف في مصر وكذلك في الخارج حول قوة الجماعة، ومع ذلك تظل جماعة الإخوان قوة مؤثرة وعاملاً هاماً في تحديد السياسة المصرية في السنوات القادمة.
الإخوان ليسوا وحدهم

ويشير بايمان إلى أن ما يزيد من خشية إسرائيل من الثورة المصرية أنها أظهرت لها أن هناك الكثير من المصريين الذين يشاركون الإخوان في مشاعر الكراهية نحو إسرائيل، وليس أدل على ذلك من هتافات بعض الثوار في ميدان التحرير التي وصفت مبارك بالعميل الصهيوني، بل وعلق البعض دمية تمثل مبارك مشنوقة وبجوارها نجمة داوود في إشارة لعلاقته بإسرائيل، مع ترديدهم عبارة "الله أكبر".
ليس هذا فحسب بل إن بعض الناشطين المصريين المعتدلين الذين يتمتعون بدعم من واشنطن ، مثل أيمن نور أو محمد البرادعي -الحائز على جائزة نوبل- قد دعوا إلى إعادة النظر في معاهدة السلام مع إسرائيل أو عرضها على الشعب في استفتاء.
فأيمن نور أعلن أن عصر كامب ديفيد قد ولى وأنه يدعو لإعادة النظر فيها وليس لإلغائها، والإخوان أنفسهم أعلنوا أنهم ملتزمون بالمعاهدات التي وقعتها مصر، وأنهم رغم معارضتهم السلام مع إسرائيل فلن يقدموا على إلغاء المعاهدة، إلا أن كل هذه المواقف ربما تتغير في حالة وجود نظام ديمقراطي حقيقي، إذ لا يمكن للسياسيين الهرب دائماً من وعود حملاتهم الانتخابية.
وتظل المشاعر المعادية لإسرائيل قوية في مصر، ففي استطلاع أجراه "منتدى بيو" بعد سقوط مبارك وجد أن 54% من المصريين يميلون لإلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل، وعلى الرغم من ذلك يشير بايمان إلى أنه من المستبعد أن تُقدم الحكومة المصرية على إلغاء معاهدة السلام على المدى القريب، في ظل وهن الاقتصاد المصري الذي يعتمد على أكثر من مليار دولار معونة سنوية من الولايات المتحدة، بل ويعتمد اقتصادها كثيراً على السياحة والاستثمار الأجنبي، وبالتالي لا يمكن تصور إقدام مصر على خوض حرب تدمر اقتصادها.
ومن أجل هذه العوامل يعترف كثير من النخب المصرية بأهمية السلام وضرورته، رغم معارضتها السياسات الإسرائيلية، ورغم رفض أغلبيتها شرعية الدولة اليهودية، وهناك الكثير من النخب التي قبلت السلام على مضض مدى أكثر من ثلاثين عاماً، لعلمها أن الحرب ستكون كارثية على مصر، وهناك من يتعامل مع إسرائيل على أنها أمر واقع.
خسارة الحليف الأكبر
ويعود بايمان ليؤكد ترجيحه باستمرار معاهدة السلام، ومع ذلك تظل بقية المخاوف الإسرائيلية، فمبارك الذي كان صديقاً لإسرائيل لم يقم بزيارتها مدى ثلاثين عاماً سوى مرة واحدة لحضور جنازة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق رابين وأعلن حينها أنه لم يأت للزيارة، ومع ذلك قدم الكثير لإسرائيل كالتعاون الاستخباراتي والضغط على دول عربية أخرى لتبني مبادرات السلام، كما أنه ساعد إسرائيل كثيراً على احتواء حماس، وأظهر عداءه لإيران، إلا أنه بمجرد خروجه من السلطة تجددت المخاوف لدى الجانب الإسرائيلي من استعادة العلاقات المصرية الإيرانية، كما صرح بذلك نبيل العربي وزير الخارجية المصري السابق.
لكن القلق الإسرائيلي أيضاً يأتي من جانب الحلفاء الآخرين الذين وقعوا أيضاً معاهدات سلام مع إسرائيل، مثل الأردن التي تتعاون أيضا بشكل وثيق في مجال الاستخبارات، وكثيراً ما قدمت العون إلى الجانب الإسرائيلي من خلال وقف عمليات التسلل إلى الضفة الغربية، أو كما يعدها الإسرائيليون شريكاً في مكافحة الإرهاب، والملك عبد الله، الذي سار على درب والده يُعد صديقاً وحليفاً هاماً لإسرائيل، ومع ذلك يبدو أنه لا يحظى بشعبية بين أبناء شعبه، فالمظاهرات عمت أرجاء الأردن تطالب بتشكيل حكومة شعبية وهناك احتمالات لتولي الإخوان المسلمين أيضاً زمام القيادة حال تشكيل مثل هذه الحكومة، وفي هذه الحالة ربما تخسر إسرائيل حليفاً آخر، ليصبح بين عشية وضحاها عدواً لها.
استنساخ مبارك
ويقول بايمان إن إسرائيل حاولت في السنوات السابقة زيادة حلفاءها في المنطقة، سواء في الأردن أو فلسطين، فالرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي تعده إسرائيل حليفاً معتدلاً، وأقرب الشخصيات المستنسخة من مبارك، قد تخسره إسرائيل أيضاً إذا عصفت رياح الديمقراطية بالمنطقة، وبخاصة أن الجانب الفلسطيني قد تغير مشهده أعقاب الثورة المصرية كثيراً.
مع ملاحظة أن وصف عباس بالمعتدل لا ينطبق إلا على علاقته بإسرائيل فقط، إذ أنه في الداخل الفلسطيني رمز للاستبداد، وقمع الحريات، في حين أنه مستعد دوماً للسلام مع إسرائيل، بل ولعب الدور الأكبر في سحق حماس التي يميل الرأي العام الفلسطيني إليها، ومن ثم فإن أكثر ما تخشاه إسرائيل أن يدوم اتفاق المصالحة بين فتح وحماس، الأمر الذي دعا نيتنياهو إلى تخيير عباس بين الصلح مع حماس أو السلام مع إسرائيل.
حلفاء الباطن
ويرى بايمان أن الجانب الأكثر غموضاً يتمثل في التغيير في سوريا، فالمعلن أمام لرأي العام أن نظام الأسد من أشد أعداء إسرائيل، لعدة أسباب من أهمها دعمه حماس، وعلاقته القوية بإيران وحزب الله، ومع ذلك تخشى إسرائيل التغيير في سوريا بسبب حقيقة يغفل عنها الكثيرون، وهي حقيقة وجود قواعد خفية في العلاقات الإسرائيلية السورية تختلف تماماً عن الموقف المعلن، ففي الوقت الذي تدعم فيه سوريا حماس فإنها تقيد من أنشطة الجماعة الإسلامية، وفي لبنان تدعم سوريا حزب الله لكنها ما تلبث أن تحبط بعض نشاطاته حين تتهدد مصالح دمشق.
والخوف أن تأتي حكومة جديدة لا تعرف شيئاً عن هذه القواعد الخفية فتتصاعد موجات الكراهية لإسرائيل، بل حتى لو بقي الأسد في السلطة، فربما يحاول أن يلعب على وتر تصعيد مشاعر العداء مع إسرائيل لكسب تعاطف السوريين وصرف أنظارهم عن قمعه واستبداده.
إسرائيل والشعوب
يرى بايمان أن إسرائيل استخدمت في الماضي ذريعة انعدام الديمقراطية في العالم العربي لتبرير تحالفها مع الولايات المتحدة وعزلتها في المنطقة، حين صورت نفسها على أنها الجزيرة الديمقراطية الوحيدة في محيط من الاستبداد، وبعد تولي حماس السلطة عبر انتخابات نزيهة بدأت مخاوفها، واليوم تصاعدت المخاوف إلى القمة مع رياح التغيير الديمقراطي التي تجتاح المنطقة إذاً إسرائيل تخاف الشعوب، ففي استطلاع أجرته جامعة ميريلاند عام 2010 تبين أن 90% من العرب يعدون إسرائيل الخطر الأكبر، والحقيقة المرة التي ينبغي على إسرائيل الاعتراف بها هي أن وجود حكام ديكتاتوريين هو الضمان الأفضل لمصالحها والحفاظ على معاهدات السلام، لأن الديكتاتور يكون منعزلاً عن الشعب ولا يمثله، والخوف كل الخوف من صوت الشعوب التي لا ترى في إسرائيل سوى الشيطان الأكبر.
ويقول بايمان، دعونا نكن أكثر وضوحاً حين نؤكد على أن أخطر ما يشغل إسرائيل ويثير مخاوفها مما تشهده المنطقة العربية من تغييرات ينحصر في أمرين لا ثالث لهما، وهما المواجهة مع حكومة حماس في قطاع غزة، والخوف على عملية السلام.
الأزمة القادمة في غزة

فمنذ سيطرة حماس على قطاع غزة في عام 2007 ، سعت إسرائيل إلى احتواء وتقويض النظام الإسلامي بمزيج من ضغوط العزلة الدبلوماسية والاقتصادية، وتوجيه ضربات عسكرية في بعض الأحيان، وصلت إلى قتل ما يزيد عن 1000 فلسطيني خلال حربها الأخيرة على غزة (2008-2009)، ومع ذلك عززت حماس من سلطتها، بل وأصبح لديها الآن صواريخ يمكن أن تصل إلى أبعد من البلدات الإسرائيلية القريبة، حيث يمكنها ضرب المدن الكبرى مثل عسقلان وأشدود وبئر السبع، وربما حتى تل أبيب.

في الوقت نفسه، ومنذ عملية الرصاص المصبوب ، التزمت حماس إلى حد كبير بوقف إطلاق النار، و أحياناً تقوم مجموعات مثل الجهاد الإسلامي وغيرها من الجماعات ذات الايديولوجية الأقرب إلى أسامة بن لادن بضرب إسرائيل، لكن حماس لا تشارك في ذلك لأن حماس تعي تماماً الآن أنها تحكم غزة، بالتالي فإنها لا تركز فقط على محاربة إسرائيل، ولكن أيضا على الازدهار في قطاع غزة، لمنع الوضع الاقتصادي الكارثي في ​​القطاع من أن يزداد سوءاً، دعماً لموقفها السياسي.

وتحت حكم مبارك، ساعدت مصر إسرائيل ضد حماس بهدوء، الأمر الذي آثار غضب حماس كثيراً، فمن جانب أبقت مصر على معبر رفح مغلقاً أغلب الوقت، كما قامت بمساعدة إسرائيل في تقييد تدفق السلع والأشخاص إلى غزة وخارجها، وفي الأشهر الأخيرة من حكم مبارك ، استجابت مصر لدعوة إسرائيل لبناء جدار يمتد في أعماق الأرض على الحدود لعرقلة إقامة الأنفاق.
ومع الثورة المصرية زاد التعاطف الشعبي مع سكان غزة، وشبه البعض مصر بالسجان الذي حبس الفلسطينيين نيابة عن إسرائيل وواشنطن، وعدَّ بعضهم ذلك إهانة كبيرة، مما اضطر الحكومة المصرية المؤقتة بعد الثورة إعلان عزمها فتح معبر رفح بشكل دائم، ومن المتوقع أن يكون هناك ضغط شعبي أكبر لمساعدة غزة وحماس مباشرة، وليس فقط في إنهاء الحصار، ومن هنا يأتي الخوف مرة أخرى من الإخوان المسلمين الذين سيرون في حماس حليفاً مستقبلياً بعد أن فقدت إسرائيل مصر الحليف القديم، وهذا ما يجعل إسرائيل ترتعد فرائصها كلما أطلقت حماس صاروخاً عليها أو أرسلت أحد فدائييها للقيام بمهمات انتحارية.
تقويض السلام
أما التهديد الثاني المحتمل للثورات العربية فيتمثل في السلام والاستقرار الإسرائيلي، فإذا كان مبارك قد رحل فمن الممكن أيضاً أن يرحل الأسد وعباس وغيرهما، وإذا لم يرحلا فسيخضعان لمزيد من الضغوط الشعبية، كل هذا دعا الإسرائيليين إلى مطالبة المجتمع الدولي بعدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ربط بعضهم الاعتراف بها بشرط أن تكون منزوعة السلاح.
ويؤكد بايمان أن على إسرائيل أن تفيق من سباتها وتعترف بحقيقة أن مبارك رحل، وأنه لن يعود، وأن الحكومات الموالية للغرب تزعزعت أركانها من البحرين إلى المغرب، والأمل الوحيد لدى إسرائيل أن تفشل الديمقراطية في مصر وبالتالي في بقية الدول العربية، وأن تستطيع إسرائيل إقناع العالم أن النموذج الغربي للديمقراطية لا يصلح للعرب، وأن التهديد الفعلي لأمن إسرائيل يكمن في أن تتحول مصر دولة ديمقراطية بحيث تصبح الزعيم المحتمل للمعسكر الديمقراطي العربي، وهنا على إسرائيل الاستعداد لاحتمالات عودة الصراع، لذا فمن الأفضل لها أن تغتنم فرص السلام وأن تكون أقل ميلاً للانخراط في تصعيدات مع الجيران قد تودي بها إلى كارثة محققة في ظل رفض الشعوب لها.

[1]دانيال بايمان هو أستاذ في برنامج الدراسات الأمنية في جامعة جورج تاون، ومدير البحوث في مركز سابان لسياسة الشرق الأوسط في معهد بروكينجز، وهو أيضاً مؤلف " انتصارات وإخفاقات مكافحة الإرهاب الإسرائيلي"، الصادر عن جامعة أكسفورد، وكاتب في العديد من الصحف والمجلات،وعضو هيئة التحرير لمجلة واشنطن الفصلية.