هل يمكن للإسلاميين العرب استلهام التجربة التركية؟
إسلام أون لاين
ينظر الكثيرون للتجربة التركية على أنها نموذج فريد للإسلاموية المنفتحة، التي استطاعت بذكاء الدمج بين معطيات الواقع والقيم الإسلامية؛ إلا أن عوامل نجاح هذا النموذج لم تلق الاهتمام الكافي من التحليل، فالتحليلات المادية البنيوية للظاهرة الإسلاموية وما بعد الإسلاموية تعتبر العولمة والتغريب هما المتغيرين الأساسيين اللذين أحدثا التحول في سلوك الإسلاميين نحو الانفتاح.
وعلى الرغم من أن الدراسات الأكاديمية قد لفتت الانتباه إلى العولمة، وإلى إخفاق تجارب الحكومات الإسلامية السابقة سواء في تركيا أو خارجها كعوامل لها تأثير على تحول الإسلاميين، فإن المتغير الاجتماعي- الثقافي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار كذلك.
وهو الأمر الذي دعا إحسان يلمازIhsan Yilmaz لدراسة العوامل التي أدت إلى تغيير طبيعة الإسلام السياسي في تركيا، لمعرفة الأسباب الحقيقية لظهور الإطار المعياري المتسامح الذي يمثله حزب العدالة والتنمية اليوم، والذي ينتمي رجاله للإسلاموية. ونشرت دراسة يلماز بالعدد الأخير لصيف 2011 من المجلة الأوروبية للاقتصاد والدراسات السياسية الصادرة عن جامعة الفاتح التركية.
الانفتاح والتسامح
يسعى يلماز في دراسته للكشف عن العوامل الرئيسية التي تقف وراء التحول الذي يشهده الإسلاميون في تركيا، والذي يتخذ طابعا خاصا يجعل الإسلاموية التركية تختلف عن غيرها من التجارب الإسلامية الأخرى. وبعيدا عن خصائص التجربة العلمانية التركية، يركز يلماز على دور حركة فتح الله جولن العالمية، التي يراها العامل الحاسم والمؤثر في جعل الإسلاميين في تركيا اليوم أكثر انفتاحا وتسامحا، دون إغفال عوامل أخرى.
لكن يبقى تأثير حركة جولن أشد فاعلية، في ظل انتشار الحركة عالميا، وما تديره من مدارس وجمعيات خيرية ومؤسسات إعلامية، صحيح أن هناك عوامل أخرى خارجية مثل: التحولات العالمية والقيود المؤسسية الداخلية التي تفرض العلمانية بقوة، إلا أن كل هذه العوامل قد لقيت الاهتمام المطلوب في دراسات أخرى.
وبناء على فرضية يلماز التي بنى عليها فكرته، يحاول في دراسته تقديم تحليل مقارن بين خطاب فتح الله جولن، وبين أفكار الإسلاميين الأتراك حول العديد من القضايا ذات الصلة بالإسلام والتي طرحت بقوة في مرحلة ما بعد الإسلاموية من بينها: العلمانية والتعددية والديمقراطية وسيادة القانون، والقومية، والدولة، الإسلام، التدين، والآخر، والحدود والحوار.
بين الإسلامية والإسلاموية
يثير مصطلح الإسلاموية أو الإسلامية Islamism الكثير من الجدل، وتتباين تعريفاته، وعلى الرغم من تداول المفهوم بكثرة خلال العقدين الماضيين، فما زال هناك خلط شديد بين الإسلام، والإسلاموية، والإسلام السياسي، حتى إن الكثير يستخدم هذه المصطلحات بالتبادل.
ويرى يلماز أن الإسلاموية مصطلح يشير عادة إلى الإسلام السياسي، وإلى أدلجة الدين واستخدام الإسلام كأداة للسياسة. ومن ثم فالإسلاموية تفترض أن الإسلام ليس دينا فحسب بل هو أيضا نظام سياسي، إلا أن الخطأ يكمن في إطلاق وصف الإسلامي أو الإسلاموي على أي ناشط إسلامي سواء في المجال الاجتماعي أو السياسي، مما وسع مفهوم الإسلاميين ليشمل كل المسلمين المتدينين أو الناشطين في المجتمع، بغض النظر عن مدى رؤيتهم الإسلام كأيديولوجية من عدمه.
ويعتبر يلماز أن هذا الاستخدام للمصطلح يطمس الفروق بين الأفراد الذين يتخذون الإسلام كفكر، والأفراد الذين يرون الدين ببساطة منحصرا في العبادات والصدقات ومساعدة المحتاجين. كما أن استخدام مصطلح الإسلام السياسي أيضا لا يعبر عن الإسلاموية، إذ إن الإسلام السياسي قد ينصرف إلى الممارسات الديمقراطية كالانتخاب على خلفية إسلامية أيديولجية، وقد ينصرف إلى محاولة أسلمة المجتمع من أعلى لأسفل وإعادة هندسته الاجتماعية.
ويستخدم يلماز في دراسته مصطلح الإسلاموية باعتباره "شكلا من أشكال استخدام الإسلام كأداة من قبل الأفراد والجماعات والمنظمات التي تسعى لتحقيق أهداف سياسية. فالإسلاموية تقدم استجابة سياسية لمواجهة التحديات المجتمعية اليوم عن طريق إقامة مؤسسات ترتكز في قيمها ومفاهيمها على أسس مستعارة من التراث الإسلامي".
الإسلاميون –إذن- يتصورون أن الإسلام يمثل دينا كاملا وجاهزا للتطبيق في المجتمع، ويضم نموذجا سياسيا، وقيما ثقافية، وهيكلا قانونيا، وترتيبات اقتصادية، وهو نظام يستجيب لحاجة كل البشر ويؤكد حقوق الإنسان، بل والأكثر من ذلك يقدم للمسلمين شعوراً باحترام النفس والثقة بها، ومن ثم يدعو الإسلاميون كل المسلمين المعاصرين للعودة لدينهم والاتحاد السياسي للأمة الإسلامية، كما يهدف الإسلاميون لتطبيق الشريعة الإسلامية بالكامل، والقضاء على التأثيرات الغربية في العالم الإسلامي، خاصة في مجالات الاقتصاد والسياسة والمجتمع والثقافة، والتي يعتبرونها غير متوافقة مع قيم الإسلام الحقيقية والأصيلة.
ويستند خطاب الإسلاميين على رفض الغرب، ومع ذلك ليس من الواضح ما إذا كانوا يعارضون تماما مشروع الحداثة، أم أنهم فقط يختلفون مع بعض القيم والمفاهيم الغربية كالعلمانية والعقلانية والوضعية والفردية. إلا أن الواقع يؤكد أن كثيرا من الإسلاميين اضطروا للعمل في إطار الدولة القومية وتعاملوا مع منتجات غربية مثل التكنولوجيا، والنظم الاقتصادية والسياسية، لكونهم لم يطورا نظاما بديلا حتى الآن. وهناك الكثير من الإسلاميين الذين لا يجدون غضاضة في ارتداء الزي الغربي.
ما بعد الإسلاموية
ومن الإسلاموية إلى ما بعد الإسلاموية وهو المصطلح الذي استخدم لأول مرة من قبل الأكاديمي الإيراني آصف بايات عام 1996، في إشارة إلى السياق الإيراني. وكان يعني بالمصطلح حالة يتصالح فيها المجتمع مع الدين، من خلال تبني نظم حكم ديمقراطية، لكن هذه الحالة لا تعني معاداة الإسلامية بل ربما تعني –أكثر- الجنوح نحو إعادة علمنة الدين، والحد من الدور السياسي للدين. وعبر آصف بايات عن ما بعد الإسلاموية الإيرانية بكونها فكرة الدمج بين الإسلام (كدين شخصي) والحرية الفردية وحرية الاختيار، وأن ما بعد الإسلاموية ترتبط بالديمقراطية وجوانب الحداثة. ومنذ ذلك الحين، انتشر المصطلح واستخدمه العديد من الكتاب في أوروبا.
ويرى يلماز أن مصطلح ما بعد الإسلاموية يمثل توجهاً يسعى نحو المزج بين التدين والإيمان، والحقوق والحريات، والإسلام والحريات المدنية، ويركز على الحقوق بدلا من الواجبات، والتعددية بدلا من السلطة المنفردة، والمستقبل بدلا من الماضي.
تطور الإسلام السياسي التركي
منذ تأسيسها في نهاية القرن الثالث عشر، كانت الدولة العثمانية على اتصال مستمر مع أوروبا. وعندما دخلت في مرحلة الضعف في القرن السابع عشر، أدرك حكامها أن هناك حاجة حيوية للإصلاح. وفي البداية ، قاموا بالبحث عن حلول من الداخل، ثم قرروا محاكاة الغرب. وبعد إنشاء مناصب دبلوماسية دائمة للعثمانيين في العواصم الأوروبية بدأ إرسال الطلبة إلى هذه المدن، على أمل أن يعود هؤلاء الطلاب لتنفيذ عملية الإصلاح.
وعندما عاد هؤلاء الشباب حاولوا تطوير الدولة العثمانية لتتواكب مع المؤسسات السياسية الغربية، ورأوا أنه لا إصلاح إلا بتبني النموذج الديمقراطي الغربي، والنظم الأنجلوسكسونية، إلا أنهم واجهوا التيارات المحافظة.
ثم بدأ الوعي الإسلامي منذ أواخر القرن التاسع عشر، والذي اتخذ شكلا من أشكال الإسلام السياسي، في الوقت نفسه الذي ظهر فيه الوعي القومي التركي. بينما وجد العثمانيون الشباب فرصة لطرح أفكارهم موضع التنفيذ في عام 1876 عندما حاول الساسة الإصلاحيون الاستفادة من الفوضى في البلاد، والضغط من أجل تشكيل حكومة دستورية، فصدر أول دستور عثماني على غرار الدستور البلجيكي، والبروسي، وهو أول دستور مكتوب في التاريخ لدولة إسلامية.
ومع مجيء حزب الاتحاد والترقي للسلطة بدأ تأسيس نظام دستوري حقيقي. ولكن هذا النظام لم يدم طويلا، حيث جاء أتاتورك ليعيد الاستبداد بصورة جديدة، وحينها حاول القضاء على الهوية الإسلامية العثمانية، وبالفعل تم تهميش كل ما هو إسلامي حتى عام 1950.
وعلى الرغم من ذلك ظهرت حالة التضامن والهوية المشتركة العثمانية والإسلامية داخل تركيا الحديثة، وكان محمد عاكف (1873-1936) أول صوت إصلاحي إسلامي كممثل في الجمعية الوطنية ومؤلف النشيد الوطني للجمهورية.
وبعد أن ألغيت جميع الطرق الصوفية، استمر وجودها بصورة غير رسمية دون ضجيج. وفي المقابل، غض المسؤولون الطرف عنها، حتى إن الطريقة النقشبندية بدأت تلعب دورا بارزا، حتى خرج منها قادة صوفيون شاركوا لأول مرة في السياسة الوطنية، مثل الشيخ محمد زاهد كوتكو (1897-1980) الذي كان يحث الناس على ضرورة المشاركة في الشؤون الوطنية، ولم ير كوتكو في الدولة العلمانية عدوا مطلقا، وإنما حاول إرساء الشرعية الإسلامية بجانب الشرعية الدستورية.
وقد أثر كوتكو في العديد من الإسلاميين السياسيين، وبرعايته نشأ حزب النظام الوطني عام 1970، وحزب الخلاص الوطني عام 1972، اللذان أشرف على تأسيسهما البروفيسور نجم الدين أربكان ، والذي كان تلميذا لكوتكو، بل إن معظم قادة الحزبين كانوا من تلاميذ كوتكو.
أربكان مهندس الحركة الإسلامية
من المعروف أن حركة أربكان الإسلامية كانت تحوي مزيجا من الثقافة السنية الإسلامية والتقليدية القائمة على النظرة الصوفية، مترافقة مع خطاب تنموي. وارتكز خطاب أربكان الاقتصادي على تعزيز النظام الاجتماعي القائم على قيم وطنية بدلا من المبادئ الغربية، وتعزيز الهوية الإسلامية التركية على حساب العلاقات مع الغرب.
واعتمد أربكان على أن تطوير الصناعات الثقيلة في تركيا سيجعل منها دولة قوية تستطيع تخفيف علاقاتها مع الغرب، بل ويمكنها أن تصبح زعيمة العالم الإسلامي، تحت مظلة سوق إسلامية مشتركة، يكون فيها الدينار عملة رسمية مشتركة، وبها جيش دفاع قوي يجعلها في مصاف الدول الكبرى.
وبعد الانقلاب العسكري في عام 1980، أطيح بحزب النظام الوطني كغيره من الأحزاب السياسية الأخرى. وعندما عاد الجيش إلى ثكناته في عام 1983، قام أربكان بتأسيس حزب جديد تحت اسم حزب الرفاه، والذي لم يختلف في فكره كثيرا عن حزبي النظام والخلاص، واستطاع الرفاه حصد المزيد من الأصوات في الانتخابات، وبعد انتخابات عام 1994 المحلية، تولى العديد من قادة الحزب كرؤساء بلديات مدن رئيسية عدة مثل أنقرة واسطنبول، على سبيل المثال رئيس الوزراء الحالي رجب طيب أردوغان كان رئيس بلدية اسطنبول في ذلك الوقت، وكان عضوا بالرفاه.
وفي عام 1996، أصبح نجم الدين أربكان أول رئيس وزراء تركي إسلامي، وكان من أول أعماله تقديم دعوة لقادة الصوفية لحضور مأدبة إفطار لرئاسة الوزراء. كما سعى لإقامة تعاون اقتصادي بالاتفاق مع الدول الثماني الكبرى الإسلامية تحت اسم D - 8. ومع زيادة مخاوف جنرالات الجيش والنخب العلمانية من أنشطة أربكان التي اعتبرت مناهضة للعلمانية، وبالضغط على أربكان اضطر لتقديم استقالته في يونيو 1997، فيما سمي بانقلاب ما بعد الحداثة.
وتم حل حزب الرفاه في يناير 1998، ومنع أربكان من ممارسة السياسة لخمس سنوات. ولأن الإسلاميين في تركيا يتعلمون من التاريخ فقد كان الحزب البديل جاهزا قبل صدور قرار حل حزب الرفاه، وبالفعل تأسس حزب الفضيلة بزعامة أصدقاء وتلاميذ أربكان قبل أن يتم حله عام 2001 .
الإسلام المدني
ينتقل بعد ذلك يلماز إلى حركة جولن ودورها في تشكيل الإسلاموية التركية المعاصرة، في صورة الإسلام المدني. وتعد حركة جولن من أوسع الحركات الإسلامية انتشارا على مستوى العالم، ومن أكثرها نفوذا على المستوى الفكري والحركي. لذا يسلط يلماز الضوء على أهم أفكار جولن حول العلمانية والديمقراطية وسيادة القانون.
يرى جولن أن المؤمنين بإمكانهم العيش في البيئات العلمانية، التي لا تتأسس على أساس الدين، وبالتالي فإن الدولة لا تتداخل مع الدين أو الحياة الدينية، أي إن الدولة تكون على الحياد. كما يعتبر أن هناك نوعاً من التوافق بين الإسلام وعلمانية الدولة، فالدولة الإسلامية كان لديها الحرية في اختيار شكل المؤسسات التشريعية والتنفيذية، بناء على احتياجات المجتمع، داخل إطار القواعد العامة للشريعة.
أما نظرة جولن بشأن الديمقراطية فهي معروفة، فهو دائما يؤكد أن الإسلام لا يقترح شكلا معيناً من أشكال الحكم، بل يحدد المبادئ الأساسية التي توجه الحكومة، ويترك للشعب اختيار نوع وشكل الحكومة حسب الوقت والظروف. فالإسلام يرى أن المجتمع يتكون من أفراد واعين ولديهم إرادة حرة تمكنهم من تحمل المسؤولية تجاه أنفسهم والآخرين. ولا يعني فهم جولن لحكم الأغلبية السماح بطغيان الأغلبية وانتقاص حقوق الأقلية، بل على العكس ينبغي السماح للأقليات المختلفة في العيش وفقا لمعتقداتهم.
في حين يرفض جولن القومية، على اعتبار أن المسلم الملتزم يجب أن يحب الجميع، ولا يستبعد أحدا، كما أن جولن لديه العديد من الأتباع والمتعاطفين معه في جميع أنحاء العالم، حتى من الأكراد، وهو يعتبر أن القوميين يقومون باستبعاد القوميات الأخرى وهو ما يرفضه فكريا، خاصة أن أحد أبرز أساتذته وهو سعيد النورسي كان كرديا، وكثير من أصدقائه الحاليين أيضا من الأكراد.
استمر فتح الله جولن بعيدا عن الحدة الإيديولوجية، التي يواكبها دمج الدين بالسياسة، فهو يرى أن السيادة للأمة دون قيد أو شرط. كما يرفض جولن بشكل قاطع الفكر الشمولي للإسلاموية، باعتبار العقيدة الشمولية منافية تماما لروح الإسلام، التي تعزز سيادة القانون وترفض علنا القمع ضد أي شريحة من شرائح المجتمع. وبهذه الروح فالإسلام يشجع أيضا إجراءات تحسين أحوال المجتمع وفقا لرأي الأغلبية.
ومن ثم فإن جولن يرى أن الإسلام ينبغي أن يقدم كمكمل للديمقراطية لا كبديل لها، فالإسلام يمكنه أن يثري الديمقراطية في الجانب الروحي من خلال الاستجابة لاحتياجات البشر العميقة، مثل الارتياح الروحي.
وأعلن جولن مرارا أنه لا يوجد شكل محدد لإدارة الانتخابات أو نظم الحكم في الإسلام، والتاريخ الإسلامي شهد تنوعا كبيرا، ولا مانع من الاجتهاد في شكل جديد، كما لا يوجد مانع أن يعمل الإسلاميون في ظل نظام غربي طالما لم يكن لهم الأغلبية.
وتمتاز حركة جولن بالدعوة للإسلام بانفتاحية من خلال التعليم والتنمية، لا بالتشدد، ويدعو إلى إعادة إحياء المفاهيم الصوفية من خلال التركيز على تجديد الإيمان الداخلي. ولا ننسى أن نفس هذا النهج اتبعه من قبل حسن البنا في مصر ومحمد إقبال في الهند وسعيد النورسي في تركيا، فكلهم كانوا يعون تماما البعد الروحي للإسلام.
وفي حين ركز الإسلاميون على الممارسات السياسية، اقتصر تركيز جولن على الأنشطة الاجتماعية والتعليمية والتنموية والروحية. حيث يعتبر جولن كتاب الله معينا لا ينضب من الحكمة لا ينبغي حصره في الخطاب السياسي أو اعتباره كتابا عن النظريات السياسية أو أشكال الدولة. بل لقد رأى جولن أن استخدام القرآن كأداة في الخطاب السياسي هو عدم احترام لذلك الكتاب المقدس، ويشكل عائقا يحول دون استفادة الناس من هذا المصدر العميق.
جولن والآخر
لا يعترف جولن بتقسيم العالم إلى دار الحرب ودار الإسلام، ويعتبر هذه الحدود بين الدارين وهمية، فهو يظل مسلماً حتى لو أقام في دولة لا تطبق شرع الإسلام، ومن ثم فهو لا يرى المسلمين في مقابل الآخرين. كما أنه لا يعتقد بعملية محاولة إحياء الخلافة.
انتقد جولن أيضا ما فعله أربكان من التوجه نحو العالم الإسلامي على حساب الغرب؛ إذ إنه يرفض فكرة أن الصدام بين "الشرق" و"الغرب" أمر لا مفر منه. ولذا عمل جولن على تشجيع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ويرى كثير من المحللين أن أفكار جولن هذه قد لعبت دورا رئيسيا في تخفيف حدة الاحتقان الأوربي تجاه الجماعات الإسلامية، خاصة أن كثيرا من هذه الجماعات كانت تنتقد أفكار جولن في البداية ثم ما لبثت أن تبنتها، بعد أن ظلوا مقتنعين أن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يشكل تهديدا للأمن التركي والثقافة الإسلامية.
وعلى النقيض من الوهابية والجهادية والصوفية سعت حركة جولن لتقديم وجهة نظر إيجابية للعالم كله، والدعوة إلى الحوار مع الجميع.
حزب الفضيلة
بعد التعرف على أهم أفكار جولن يحاول يلماز تحديد مدى تأثير هذه الأفكار في الإسلاميين الأتراك في مرحلة ما بعد الإسلاموية. والتي تمثلت في حزب الفضيلة، الذي رأى أن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تنجح في تفادي المواجهة مع المؤسسة الكمالية، تتمثل في العزوف عن استخدام الخطاب الديني في السياسة.
وبالفعل بدأ الحوار الداخلي بين الإسلاميين حول هذا التوجه، وترتب عليه حدوث انشقاق داخل الحركة بين مجموعتين مختلفتين: المجموعة التي أُطلق عليها التقليديون؛ ممثلين في نجم الدين أربكان وريكاي قوطان، وهذه المجموعة عارضت أي تغيير جدي في النهج أو السياسة، أما المجموعة الثانية فتمثلت في مجموعة من الشباب بقيادة رجب طيب أردوغان، وعبد الله غول، وهذه المجموعة رأت أن الحزب بحاجة إلى مراجعة وتجديد النهج لعدد من المسائل الأساسية، خاصة الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعلاقات مع الغرب.
وقد انعكس تأثير هذه المناقشة الداخلية في النظام الأساسي لحزب الفضيلة، والذي بدا أنه لا يعبر عن الإسلام السياسي، بل على العكس تبنى الكثير من القيم الغربية، حتى أصبح حزبا ليبراليا محافظا، ورفض الحزب استخدام الدين والعلمانية على حد سواء في السياسة، كما رفض نائب الرئيس أي تفاهمات سياسية قائمة على استغلال الدين أو الرموز الدينية.
وبدأ أعضاء الحزب من الشباب ينتقدون علنا حزب الرفاه على أساس أنه ارتكب خطأ باستخدام الدين. وأكد أردوغان أن الدولة لا يمكن ولا ينبغي أن يكون لها أن تكون دينية، وأكد أيضا أهمية الديمقراطية واقتصاد السوق الحرة وحقوق الإنسان.
علاوة على ذلك، وخلافا للإسلاميين في كثير من البلدان الأخرى، قطعت الحركة الإسلامية التركية علاقاتها مع التقليد، ولم تستسلم لحرفية الخطاب، وهو ما ساعدها على البقاء بعيدا عن التطرف في الدين.
حزب العدالة والتنمية
ولد حزب العدالة والتنمية من رحم حزب الفضيلة، والذي ضم مجموعة الشباب الإصلاحيين الذين أكدوا على احترام حقوق الإنسان والديمقراطية ومبادئ السوق الحرة. وقدموا نموذجاً يجمع بين الإسلام والليبرالية الديمقراطية بالقيم المحافظة، ومع الإقرار بأهمية الدين والمعتقدات الشخصية، فإنهم يقيمون أنفسهم داخل الإطار الدستوري العلماني.
وبالطبع تعرض الحزب للعديد من الانتقادات الراديكالية القاسية حتى من أربكان وحزب السعادة، ومع ذلك ظل حزب العدالة والتنمية يقدم نفسه على أنه الحزب الديمقراطي المحافظ، مما يعني ضمنا أنه حزب ديمقراطي مسلم مماثل لحزب الديمقراطيين المسيحيين في أوروبا الغربية.
وسعى الحزب لتعزيز الهوية التقليدية المرتبطة بنجاح العدالة الاجتماعية، ونتيجة لذلك اجتذب الكثير من الأصوات الانتخابية، حتى إنه اجتذب أصوات الإسلاميين المتشددين الذين كانوا من قبل يدعمون حزب الرفاه، وحصل الحزب على 34% من أصوات الناخبين في انتخابات نوفمبر 2002، ثم زاد نصيبه إلى 47% من الأصوات في انتخابات يوليو 2007، وللمرة الثالثة على التوالي يحصل على نسبة 50% في انتخابات 2011.
جولن وحزب العدالة
يعود يلماز مجددا للحديث عن العوامل التي أدت للتحول في فكر الإسلاميين في تركيا، ويؤكد أن هناك الكثير من العوامل التي لا يمكن إغفالها، من بينها العولمة، وفشل تجارب الحكم الإسلامية السابقة في دول مثل السودان وباكستان وإيران.
ومع ذلك تظل للتجربة التركية خصوصيتها، خاصة أن الإسلاميين رغبوا في تجنب المواجهة مع جنرالات الجيش الذين يحافظون بقوة على العلمانية، ويعملون على منع وصول الإسلاميين للحكم، كما حدث مسبقا مع حزب الرفاه، ومع ذلك يبقى العامل الأكثر حسما وهو تجربة الإصلاحات الموجهة نحو التصدير، التي اتبعها تورجوت أوزال في الثمانينيات، والتي شجعت كثيرا من الملتزمين دينيا، ذوي النزعة الليبرالية البرجوازية اقتصاديا ليصبحوا اللاعبين الرئيسيين في الساحة الداخلية التركية. وهذه الفئات الجديدة كانت أكثر ليبرالية من غيرها، حتى إنها اكتسبت خبرة كبيرة في الأعمال التجارية القائمة على الثقة بالنفس، وتخفيف الخوف من العالم الخارجي.
ومن ثم أصبحت أكثر مرونة وتكيفا مع الآخر، وهذه الفئة الجديدة أيدت ضمنا الانضمام للاتحاد الأوروبي. وتشكل هذه النخبة من رجال الأعمال المحافظين اجتماعيا والليبراليين اقتصاديا العمود الفقري لدعم حزب العدالة والتنمية.
ومع أهمية كل هذه العوامل يرى يلماز أن أكثر العوامل أثرا في تعديل الخطاب الإسلامي في تركيا يعود لأفكار جولن. فمنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر تبنى جولن خطابا انفتاحيا، كان له تأثير على توجه الإسلاميين في تركيا نحو رفض النهج التصادمي، والتقارب مع الأفكار الغربية والمؤسسات الغربية.
كما استفاد الإسلاميون في تركيا من حركة جولن في انفتاحها على المجتمع، فأصبح الجيل الجديد من الشباب أكثر اتصالا مع الشارع، خاصة أنهم علموا جيدا من خلال استطلاعات الرأي أن الشعب التركي لن يصوت للإسلاميين، فكان تلاحمهم مع الناس والخدمات الاجتماعية أحد مفاتيح الوصول لأصوات الشعب في الانتخابات.
ومن الجدير بالذكر أن العديد من رجال الأعمال فضلا عن بعض قادة وأعضاء حزب الفضيلة، ثم حزب العدالة والتنمية فيما بعد قد دفعوا بأبنائهم للدراسة في مدارس جولن. ومن الواضح أن ما دعا إليه جولن على مدى العقود الثلاثة الماضية من الحاجة إلى مواءمة الإسلام مع الحاضر، قد لاقى صداه في ممارسات الإسلاميين، فقد بعث جولن مرارا برسالة إلى العالم مفادها أن المسلمين يمكنهم التحول للديمقراطية والتكيف التدريجي مع العولمة دون أن يفقدوا خلفياتهم ومعالمهم الدينية.
ونتيجة للتأثير الثقافي والديني لحركة جولن بين الطبقات السياسية داخل المجتمع، اندفعت الحركة الإسلامية نحو الوسطية، وفتح الطريق نحو الاندماج في الواقع الجديد للعولمة. فخطاب جولن الانفتاحي أضعف تأثير أربكان الاجتماعي المحافظ لدى قاعدة كبيرة من الإسلاميين.
ويجب أن نلاحظ أيضا انتشار وسائل الإعلام لحركة جولن في كل أنحاء الأناضول، فصحيفة زمان حاليا يوزع منها في معظم البلاد ما بين 800 ألف و100 ألف نسخة يوميا، وقناة سامانيولو هي واحدة من قنوات التلفزيون الرئيسية في البلاد، وتشاهد على نطاق واسع في الأناضول خاصة من قبل طوائف الشعب اليمينية والمحافظة والدينية.
استلهام التجربة التركية
ويتوقع يلماز أن تستلهم كثير من الحركات الإسلامية في العالم تجربة الإسلاميين في تركيا وأفكار جولن في تطوير الخطاب الإسلامي ليتوافق مع التعددية الثقافية في ظل العولمة. خاصة أن الحركة لها انتشار عالمي واسع من خلال مدارسها، وكذلك من خلال مجلة حراء التي بدأ نشرها بالعربية منذ 2005 باعتبارها جسرا ثقافيا بين الأتراك والعرب، وكمنتدى للقضايا الملحة التي تشغل العالم الإسلامي، وكأداة لترسيخ رؤية متجددة لعلاقة العالم الإسلامي الفكرية والاجتماعية والسياسية بالواقع العالمي المعاصر.
ويؤكد يلماز في ختام دراسته أنه لا يَدَّعِي أن التجربة التركية فريدة من نوعها تماما، أو أنها يمكن نسخها ولصقها مباشرة في سياقات أخرى. علاوة على ذلك فإن الإسلاميين في كثير من البلدان الأخرى يمرون أيضا بمرحلة انتقالية. ولكنه فقط يتصور أن التجربة التركية وتأثير حركة جولن سوف يتفاعلان معا، مما يمهد الطريق لمزيج جديد من الإسلاميين أكثر انفتاحا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق