الاثنين، 11 يوليو 2011

الجيش التركي.. من الهيمنة إلى الانزواء


أمل خيري

إسلام أون لاين – القاهرة

كان ولا يزال الجيش في تركيا يلعب دوراً محورياً في السياسة التركية، منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية وحتى اليوم، ويجادل كثير من المحللين حول أثر هذا الدور في تقويض الديمقراطية في الدولة التركية، فعملية بناء الدولة التركية الحديثة اعتمدت على مجموعة من النخب العسكرية "المستنيرة"، في ظل غياب الجماهير، مع أدوار ثانوية محدودة للنخب المدنية.

وهناك عديد من العوامل التي منحت الجيش هذا الثِقَل، من أهمها دوره التاريخي في بناء الدولة القومية، كما أنه ينظر إليه بوصفه الضامن الوحيد للأيديولوجية الكمالية، إلاَّ أن فهم العلاقة الدينامية المعقدة بين المدني والعسكري في تركيا، وفهم طبيعة دور الجيش وأثره في الديمقراطية يتطلب تحليل السياق التاريخي للعلاقات بين المدنيين والعسكريين في تركيا الحديثة، والتعرف على طبيعة النخب التي فرضت وصايتها على الدولة عبر حماية المبادئ الكمالية على مدار العقود الماضية.

وفي العدد الأخير من المجلة الأوروبية للاقتصاد والدراسات السياسية الصادرة عن جامعة الفاتح التركية، قدمت "بيجوم بوراك Begüm Burak" - أستاذة العلوم السياسية والإدارة العامة بجامعة الفاتح باسطنبول - دراسة حول دور الجيش في السياسة التركية، محاولة تحليل الإطار الدستوري والمؤسسي الذي تستند إليه النخب العسكرية لتبرير تدخلها في السياسة.

الجيش من العثمانية إلى التركية

يستند مشروع التحديث في تركيا إلى حد كبير على التغريب والعلمانية، وهو ما يتعارض إلى حد ما مع تدخلات الجيش في حماية الدولة من أعداء "الداخل"، ولا يمكن تفسير انخراط النخب العسكرية في السياسة فقط بدعوى حماية النظام، علاوة على ذلك فإن الجيش التركي كان المؤسسة الوحيدة التي نجت بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، ففي حين سقطت المؤسسات البيروقراطية المدنية، ومؤسسات التعليم والصحافة وغيرها ظلت المؤسسة العسكرية قيدَ الحياة، واستمر دورها المحوري كما كان في العهد العثماني.

وترى بوراك أن الحجة الرئيسة التي يتم تسويقها حول أهمية دور الجيش في حماية المبادئ الكمالية ليست صحيحة، فالواقع يثبت أن الجيش يحمي الدولة من الأمة أو الشعب، وهو ما يعيق توطيد الديمقراطية، كما أن تصوير الجيش نفسه على أنه حارس الجمهورية التركية يجعل من الصعب على النخب العسكرية قبول مبدأ سيادة المدنيين.

وتطلق بوراك على هذا التوجه مصطلح "تسييس الجيش"، الذي يُعتقد أنه بدأ مع نهايات الدولة العثمانية، فقد ظل الجيش منضبطاً ومطيعاً للسلطة المركزية ومديناً بالولاء للسلطان العثماني، حتى تم إرسال بعض قادته للتدريب في الغرب، حيث اكتسب الجيش الطابع السياسي.

كما لعب الجيش دوراً رئيسياً في الثورة الدستورية عام 1876، و1908، إذ اعتقد بعض العسكريين أن هناك حاجة ملحة لوضع قيود تحد من قوة السلطان، ولتحديث الدولة والمجتمع على أساس مجموعة من الأفكار القومية والوضعية، وتوالت الأدوار الحاسمة للجيش في حرب الاستقلال (1919-1922)، وفي تأسيس الجمهورية التركية.

المؤسس والحامي

كان عزل الجيش عن التدخل المباشر في السياسة الحزبية واحداً من أهداف أتاتورك حين تولى الحكم عام 1923، وعلى الرغم من انعزاله عن السياسة الحزبية فقد احتفظ الجيش بقوته في المشاركة في خطط التنمية الاقتصادية خاصة خلال عقد الثلاثينيات، كما عمل على تطوير المهارات الإدارية لعناصره، الأمر الذي أدى إلى تولي بعض القادة العسكريين مناصب مدنية في أوقات الطوارئ، وبصرف النظر عن عزل الجيش عن الحياة الحزبية، فإنه كان يُستخدم في الواقع أداة لحزب الشعب الجمهوري في مواجهة القوى التي تعارض التحديث، وظل الحزب يحكم بمفرده حتى عام 1950، حين بدأت العلاقات المدنية العسكرية تتغير وتختلف.

فمع تولي الحزب الديمقراطي ذي التوجه الليبرالي الحكم، اتخذ شكلاً مختلفاً عن حزب الشعب الجمهوري، وبخاصة أن الكثير من معارضي نظام حكم الحزب الواحد قد انضموا إليه مما أكسبه دعماً شعبياً موسعاً.

إلا أنه قبل حلول منتصف الخمسينات، انتهج الحزب الديمقراطي سياسات استبدادية أثارت الاستياء بين النخب العسكرية وقادة حزب الشعب الجمهوري، وكذلك بين طلاب الجامعات والموظفين الأكاديميين، مما أفقد الحزب شرعيته في نظر الجهات البيروقراطية للنظام.

وفي عام 1960 اندلعت سلسلة من المظاهرات الطلابية داخل الجامعات، وأصابتها بالشلل التام، وأسفرت عن مواجهات دامية بين الطلاب وقوات الشرطة، ولم يفلح فرض الأحكام العرفية في إنهائها، إضافة إلى انضمام تركيا إلى حلف شمال الأطلنطي عام 1952 الذي أحدث مزيداً من السخط في صفوف ضباط الجيش، كل هذه العوامل دفعت لانقلاب عام 1960، الذي تعهد فيه قادة الجيش بسرعة تسليم السلطة إلى المدنيين، وتم إعداد دستور جديد عام 1961، اشتمل على مجموعة واسعة من الحريات المدنية إلى جانب الحقوق الاجتماعية، لكن مع ذلك زاد تدخل الجيش في الجامعات والمناصب الأكاديمية.

وبلغ التدخل العسكري حد إجبار حكومة ديميريل على الاستقالة عام 1971، وإعلان الأحكام العرفية، ثم إجراء مجموعة من التعديلات الدستورية التي منحت الجيش نفوذاً أكبر، إضافة إلى استقلال ميزانية الجيش، بل وتم توسيع مهمة مجلس الأمن القومي الذي يضم نخباً عسكرية ومدنية ليقدم توصيات إلى الحكومة.

التحول الأكبر

ويبقى التحول الأكبر في مسار السياسة التركية متمثلاً في انقلاب 1980، الذي جعل أجهزة الدولة تتخذ طابعاً عسكرياً في جميع المجالات، ثم جاء دستور 1982 ليعزز الاستقلال السياسي للجيش، وزيادة سلطات الرئيس.

ومع وصول تورجوت أوزال للسلطة عام 1983، شهدت تركيا قدراً كبيرا من الديمقراطية، ثم زادت مشاركة المدنيين في الحياة السياسية، التي انتهت بتصاعد نشاط الإسلاميين، الذي لم يسمح به الجيش، فكان الانقلاب الناعم في عام 1997، فلم يتدخل الجيش بشكل مباشر لإقالة حكومة أربكان، بل لعبت وسائل الإعلام دورها في حشد الجماهير لإشعارهم بالقلق على المبادئ العلمانية، وإثارة الخوف المصطنع بتهديد العلمانية والديمقراطية، وشاركت منظمات مدنية في هذا الانقلاب وقد لعبت دوراً حاسماً في تبرير التدخل العسكري في السياسة، وأخيراً اضطر أربكان إلى تقديم استقالته، ليثبت الجيش التركي أنه الحارس الوحيد للنظام مهما كانت قوة الحزب الحاكم.

من الشمولية إلى الفيتو

لكي يتم فهم الإطار النظري الذي يحكم العلاقات المدنية والعسكرية في تركيا لابد من تحديد نمط هذه العلاقة وتصنيفها في ضوء النماذج المختلفة لتدخل الجيش في السياسة، وباستثناء النمط الذي يقتصر فيه الحكم على المدنيين وتبقى النخب العسكرية بعيداً عن السياسة، يوجد عديد من أنماط التدخل العسكري في الحكم والحياة السياسية.

فبالنسبة لنماذج عدم تدخل الجيش في السياسة، هناك أولاً نموذج "الأرستقراطية التقليدية"، إذ تنتمي السلطات المدنية والعسكرية إلى الأصول الطبقية الارستقراطية نفسها، لكن نظراً للمهنية العالية التي تتمتع بها نخب الجيش فإن تسييس الضباط العسكريين ليس له محل من الحديث.

والنموذج الثاني هو "النموذج الشمولي"، حيث يكون الجيش في وئام مع السلطة السياسية، وتتم مكافأة الضباط بسبب انسجامهم مع السلطة، وهو النموذج الذي كان مطبقاً في الصين الشيوعية والاتحاد السوفياتي السابق، وأخيراً هناك نموذج "الديمقراطية الليبرالية"، وفيه ينأى الجيش تماماً عن التدخل في السياسة، بل هو خاضع لسلطة المدنيين، ولا يخضع للتسييس.

على النقيض من هذه النماذج، هناك أنماط أخرى من التدخلات العسكرية في السياسة، وبخاصة في الدول التي تفتقر إلى مؤسسات اقتصادية واجتماعية قوية في البلدان التي تعاني من أزمات، لذا يزداد تدخل الجيش في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كافة.

فهناك مثلا نموذج "الفيتو"، حيث لا يحكم الجيش بشكل مباشر، لكنه يحتفظ بنوع من سلطة الفيتو على عمليات صنع القرار، وهناك أيضاً نموذج "الحارس"، الذي يحكم فيه الجيش بصورة مؤقتة، ويعلن استعداده للتخلص من الفوضى التي يحدثها الحكم المدني، ثم يعود لثكناته بمجرد انتهاء الفوضى.

وأخيراً هناك النموذج "الشمولي"، إذ يمارس العسكريون دوراً أكبر في السلطة السياسية، فترة طويلة من الزمن، معتبرين أنفسهم دعاة التحديث الراديكالي، فيسيطرون على وسائل الإعلام، ويقومون بحل الأحزاب والنقابات، ويتدخلون في إغلاق الجمعيات المدنية وغيرها من أنشطة التدخل الصارمة.

وبالعودة إلى الجيش التركي نجد أنه قد انتمى إلى النموذج "الشمولي" حتى أواخر الأربعينيات، ثم تحول إلى نموذج "الحارس" في انقلاب عام 1960، بينما بدا أنه يتبع نموذج "الفيتو" في انقلاب 1970، وعاد مرة أخرى لنظام "الحارس" عام 1980، وأخيرا تبع نموذج "الفيتو" في الانقلاب الناعم عام 1997.

الإطار الدستوري للتسييس

بعيداً عن دور الجيش في إنشاء الدولة القومية، والحماية من أعداء الداخل والخارج، ترى بوراك أن هناك مجموعة من الأسس القانونية والمؤسسية التي ساعدت الجيش في التدخل في المجال السياسي، ففي دستور عام 1961 منح الجيش سلطة التدخل في القوانين من خلال مجلس الأمن القومي، الذي شَكَّل منصة يعبر فيها الجيش عن رأيه في مسائل الأمن الوطني، وفي دستور عام 1982 جرت زيادة عدد الأعضاء العسكريين عن المدنيين، كما جرى تغيير صفة قرارات المجلس لتتحول من مجرد توصيات إلى قرارات ملزمة للحكومة.

وبالإضافة إلى السند الدستوري، فإن هناك عاملاً آخر في اتساع نفوذ الجيش التركي يتمثل في وزارة الدفاع، فعلى الرغم من وجود وزارة واحدة للدفاع إلا أنها لا تخضع للرقابة أو السلطة المدنية، فتعيين القائد العام للجيش مرَّ بمراحل ثلاثة: الأولى عام 1924، حيث كان التعيين من قبل رئيس الوزراء، ثم أصبح تحت سيطرة وزير الدفاع عام 1949، وعاد إلى سلطة رئيس الوزراء مرة أخرى بموجب دستور 1961.

كما يستمد الجيش سلطته المؤسسية من خلال النظام الأساسي للجيش الذي ينص على دوره في حماية البلاد من أعداء "الداخل" و"الخارج"، ثم جاء قانون الخدمة المدنية بدستور 1982 لينص على أن للقوات المسلحة التدخل للدفاع عن البلاد بالقوة إذا لزم الأمر.

وعلى النقيض من النظم الليبرالية، لا تخضع ميزانية وزارة الدفاع للبرلمان، وأخيراً سعى الجيش إلى التعاون مع النخبة الصناعية الناشئة مستغلاً الامتيازات الدستورية التي تعفيه من الضرائب عند ممارسة الأنشطة الاقتصادية.

من هم أعداء "الداخل"؟

ظل مفهوم أعداء "الداخل" الذريعة التي استند إليها العسكريون لتبرير تدخلاتهم في الحياة السياسية، وقد تنوع مفهوم أعداء "الداخل" عبر المسار التاريخي، فتمثل أعداء الداخل في القوى الرجعية التي عارضت حركة التحديث الكمالية في أواخر العهد العثماني، وفي وقت لاحق صار المفهوم ينسحب إلى كل من التهديد الإسلامي والتهديد الكردي.

ويحتكر القادة العسكريون دوماً تحديد المقصود بأعداء "الداخل"، فقد يتسع المفهوم ليشمل كل الأحزاب السياسية، والجماعات العرقية، والدينية، في وقت من الأوقات، ويمكن لأي من هذه القوى أن تكون دافعاً لتدخل الجيش في السياسة بدعوى الحفاظ على أمن البلاد من أعداء "الداخل"، وبالتالي يتابع الجيش من كثب الأنشطة المدنية في البلاد كافة، ويقرر بنفسه مدى خطورة أي نشاط على الأمن الوطني، فيندفع إلى التدخل.

باختصار: نجد أن مفهوم أعداء "الداخل" يستخدم أداة هامة لإضفاء الشرعية على دور الجيش في المجال السياسي.

عشر سنوات من التحول

شهدت العلاقات المدنية العسكرية منذ مطلع القرن الحادي والعشرين العديد من التحولات، خاصة بعد الشروط التي حددها الاتحاد الأوربي التي يجب الوفاء بها لتتمكن تركيا من اكتساب العضوية الكاملة في الاتحاد.

وجاءت بداية التحولات في أواخر التسعينات بإلغاء المحاكم العسكرية من النظام القضائي، ثم كانت التعديلات الدستورية عام 2001 التي رجحت كفة المدنيين في عضوية مجلس الأمن القومي، كما حدت من سلطات المجلس التي كانت توجب على الحكومة أخذ قراراته بعين الاعتبار، لتصبح فقط مطالبة بتقييم هذه القرارات.

ثم كانت الإصلاحات الأكثر أهمية في التعديلات الدستورية عام 2003، التي ألغت هيمنة المؤسسة العسكرية على بنية مجلس الأمن القومي، وتقليص سلطات المجلس التنفيذية عندما أصبحت قرارات المجلس ذات صفة استشارية فقط، كما زاد عدد أعضاء المجلس من المدنيين وأصبح المجلس يجتمع مرة كل شهرين بدلا من اجتماعاته الشهرية.

المطلوب تغيير شامل

وعلى الرغم من كل هذه الإصلاحات، فمازال الاتحاد الأوربي رافضاً النفوذ العسكري المهيمن عبر القنوات غير الرسمية، إذ إن تلك الإصلاحات لم تفك الارتباط بين العسكريين والسياسة، ظهر ذلك جلياً عام 2007 عقب قرار حزب العدالة والتنمية ترشيح عبد الله غُل رئيساً للجمهورية، مما أثار مخاوف رئاسة الأركان فأصدرت بياناً في منتصف الليل عبر موقعها الإلكتروني، مع الإشارة إلى حجاب زوجة غُل على أنه تهديد للعلمانية، ومع ذلك صمدت الحكومة المنتخبة أول مرة في وجه التدخلات العسكرية، بل وأصدر أردوغان في اليوم التالي تصريحاً شديد اللهجة بضرورة التزام رئاسة الأركان بحدودها، الأمر الذي دفع برئاسة الأركان لسحب بيانها الإلكتروني.

وتشير بوراك إلى دلالة هذا البيان على الرغبة القوية لدى الجيش في استعادة مكانته الهامة في المشهد السياسي، من خلال اللعب على وتر حماية العلمانية، واعتبار التدخل في اختيار المرشحين لمنصب رئيس الجمهورية واجباً سياسياً، وكأن الجيش التركي مازال يرى في نفسه الضامن الرئيس لحماية النظام.

وتختتم بوراك دراستها بالتأكيد على الحاجة إلى تغيير شامل في سلوك وتصورات النخب العسكرية، وألا يستمروا في دور المحافظة على النظام والمبادئ الكمالية والعلمانية من أجل ترسيخ الديمقراطية، فهذا الدور لا يصلح لمشروع التحديث على النمط الغربي، لأن المؤسسة العسكرية في الديمقراطيات الغربية تخضع للسلطة المدنية المنتخبة.

وينبغي إعادة النظر في واجبات النخب العسكرية لتقرر الاكتفاء بحماية البلاد من أعداء "الخارج"، بدلا من الاستمرار في حماية الدولة من الشعب، وذلك إذا كانت الدولة مازالت راغبة في الحصول على عضوية الاتحاد الأوربي.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق