الثلاثاء، 27 يوليو 2010

الأصولية الإلحادية.. خصومة العقل والعلم


أمل خيري
إسلام أون لاين

بين آونة وأخرى تُطل علينا المكتبات الغربية بمؤلفات تطالب بالعودة للدين ونبذ الكفر والإلحاد، ربما يكون المحرك الأساسي لها ما يثيره الملحدون الجدد من أفكار تعيد للنقاش حول الدين والإيمان حيويته، وهذا ما دفع "إيان ماركهام" لإصدار كتابه الأخير "في مواجهة الإلحاد: لماذا يعتبر داوكينز وهيتشنز وهاريس مخطئين بالأساس" والذي يعتبره أقل جهد يمكن أن يقدم للرد على هؤلاء المنكرين لوجود الله؛ حيث لم يعد هناك مجال للصمت والتجاهل،صدر الكتاب عن دار نشر ويلي بلاكويل في فبراير 2010م في 176 صفحة من القطع المتوسط.

يشغل ماركهام منصب عميد المعهد الديني بفيرجينيا وأستاذ اللاهوت والأخلاق، وله العديد من المؤلفات مثل "هل للأخلاق جدوى؟" ، و"فهم العقيدة المسيحية" ،و"المسيح والثقافة" وكتاب عن بديع الزمان النورسي ، إضافة للعديد من المقالات.

وفي هذا الكتاب يقوم ماركهام بالرد على "الثلاثي العنيد" وهم ريتشارد داوكينز وكريستوفر هيتشنز وسام هاريس، والذين يعتبرون من أكثر الملحدين الجدد تعصبا وأكثرهم انتشارا بأفكارهم وعقائدهم المغلوطة، ويركز بصفة خاصة على كتاب "وهم الإله" لداوكينز ، "الإله ليس عظيما: كيف يسمم الدين كل شيء" لهيتشنز، و"نهاية الإيمان: الدين والإرهاب ومستقبل العقل" لهاريس.

بدأ ماركهام كتابه باستعراض مباراة عقلية بين "فريد" وهو ناشط إلحادي مقتنع تماما بكتابات داوكينز، وبين "ناتالي" وهي مؤمنة ذكية عميقة التفكير، ليغوص في أعماق فريد الذي يصدم في طفولته كباقي الأطفال حين يعلم بخرافة "بابا نويل" التي يرويها الكبار للصغار ويربط بينها وبين وجود الله ويتلمس أوجه الشبه بين الإله وبين شخصية بابا نويل ليستنتج في النهاية أنهما لا يختلفان، فكلاهما قوة أو ذات غير مرئية تقرأ كل العقول وتعرف ما يدور في النفوس وتمتلك كل القوى الخارقة، وكلاهما بلا زمان ولا مكان، وإذا كان بابا نويل في النهاية مجرد خرافة فما الذي يجعل وجود الإله غير ذلك؟ ، إضافة إلى أن الدين هو السبب لكل المشكلات والمصائب في العالم كالصراعات الدينية التي لولا الدين لما وجدت.

في المقابل نجد ناتاليا المؤمنة ترى الله في الجمال المحيط بها في الطبيعة، وترد على فريد بأننا لا يمكننا تنحية الدين جانبا إذا كان سببا في الصراعات الدينية؛ لأننا ببساطة لا يمكن أن نلغي لعبة كرة القدم لتجاوز بعض المشجعين في تصرفاتهم الهمجية؛ فلابد أن نفرق بين الدين والمنتسبين إليه؛ فأخطاؤهم يجب ألا تنسب للدين نفسه، وتعتبر ناتاليا داوكينز وأمثاله من المبصرين العميان الذين يرون كل هذا الجمال والاتساق في الكون ويعتبرونه خدعة أو وهمًا؛ لأنهم لم يكلفوا أنفسهم جهدا في تنمية قدرتهم على الرؤية.

الإلحاد الأصولي

بعد هذه المباراة العقلية بين فريد وناتالي يعرض ماركهام أفكاره المواجهة للإلحاد في عشرة فصول، يبدأ في الفصل الأول بالدخول في أعماق الإلحاد والذي أسماه "الإلحاد الأصولي"، ويعترف أن هذا المصطلح سيضايق داوكينز بالتأكيد، ولكنه يعود فيؤكد أن وصف أصولي ليس نقيصة بل وصف لحالة هؤلاء الملحدين المتعصبين أو المحافظين الذين يطلقون افتراضاتهم على أنها حقائق ثابتة ونظريات أكيدة تماما كما فعل رواد الحركة الأصولية المسيحية الحديثة في مطلع القرن العشرين، ويعتقد ماركهام أن الثلاثي الملحد لا يختلف عن هؤلاء الأصوليين في أن كلا منهم لم يحاول قراءة أفكار الآخرين، فلا أحد من الملحدين درس اللاهوت أو قرأ الكتب المقدسة قبل أن يعلن عن أفكاره، بل يعبرون عن أفكارهم بصيغة جازمة وكأنها افتراضات ثبت صحتها.

ويحاول ماركهام في كتابه أن يتجاوز هذا المنزلق الذي وقع فيه الثلاثي الملحد؛ لذا فقد اتبع منهج توما الأكويني في الرد على خصومه، وهو عرض حجج هؤلاء الخصوم ثم الرد عليها قبل أن يكتب أفكاره، فعلى سبيل المثال بدأ يناقش هاريس في فكرته عن وجود الشر في العالم، فقضية سام المحورية هي لماذا يسمح الله بوجود الشر إذا كان قادرا ورحيما وعليما، فكأنه يرى في الإيمان بالله تناقضا ذاتيا بالنظر لواقع الشر في العالم، كما أنه يتساءل لماذا يؤمن الإنسان بما يسبب له القلق والخوف من مجهول قد لا يكون له وجود على الإطلاق؛ فيعيش حياته وهو خائف من الموت ومن الآخرة ومن النار، ثم يكتشف في النهاية أن كل هذه خرافات وأوهام تسببت في حرمانه من سعادته الدنيوية بلا طائل.

ومن جانبه يعتقد داوكينز أن صورة الكون الحالية هي نتيجة لعملية انتقاء وتطور طبيعي عبر ملايين السنين، فكيف يمكن أن يكون هناك خالق ذو قدرة هائلة لهذا الكون سابق على وجود هذا الكون الذي استغرق الكثير من الزمان ليتطور؟ وداوكينز بماديته المتطرفة لا يمكنه أن يتقبل وجود ذات إلهية غير مادية، أما هيتشنز فيرى الإلحاد العلماني هو السبيل لاستكمال البشر لحرياتهم الشخصية التي لا يتدخل في توجيهها أحد، ومن الضروري التخلص من جميع الأديان في العالم لكي نعيش بسلام وفي أمان. ويناقش ماركهام أفكار كل من هؤلاء الثلاثي عبر صفحات كتابه ويقارعهم الحجة بالحجة.

نيتشه آخر الملحدين

في الفصل الثاني يستعرض ماركهام حياة وأفكار الفيلسوف الألماني نيتشه الذي يعتبره أبا للملحدين؛ فهو يعتقد أن موت الإله هو الحل لجميع مشاكل العقل، فنيتشه يرفض كل ما هو وراء الطبيعة، ويرى أنه "إذا كان العلم يتطور بلا إشارة لوجود الله، فمن السخف أن نعتقد في وجود ذات عليا تحدد سلوكياتنا وتصرفاتنا في الحياة، ومن المثير للشفقة أن نتذلل ونتضرع لهذه الأنا الخفية التي تتوعد غير الطائعين بالعذاب في جهنم، وبالتالي فقد جاءت الفرصة لنكسر حاجز الإيمان المزعوم هذا ونعلن موت الإله"، وإذا كانت هذه هي قمة العقلانية في نظر نيتشه فإن ماركهام يؤكد أنه يستحيل عقليا ألا يكون هناك خالق لهذه العقلانية؛ فهذه الدقة في العالم المادي لا يمكن أن نتخيل أن تحدث صدفة، فلابد من وجود إله خالق وراءها ، وأن كلا من العقلانية والإله يبقيان معا أو يذهبان معا، إلا أن ما يتجاهله دواكينز والآخرون أن نيتشه نفسه أكد أنه لو حدث "موت الإله" لحلت الفوضى في العالم.

الفصل الثالث حمل عنوان "تقدير الخطاب الإيماني" وأكد فيه ماركهام أن عمليات المعرفة تختلف من شخص لآخر ومن ثقافة لأخرى؛ فالطفل الذي ينشأ في بيئة إيمانية يرى الروح في كل شيء حوله في الكون، والطفل الذي ينشأ في بيئة مادية علمانية ينشأ على مفاهيم مثل: الطبيعة، والقوانين العلمية، ومع ذلك فإن معجزة كوننا بشرا تكمن في أننا رغم تأثرنا بطبيعة نشأتنا فإن لدينا القدرة على تقييم هذه الأفكار التي تربينا عليها وتحديد الصحيح من الخاطئ.

"الفيزياء ذلك العلم المتطور" كان عنوان الفصل الرابع والذي استعرض فيه ماركهام لتطور علم الفيزياء الحديث بدءا من إسحاق نيوتن الذي قدم على الرغم من تدينه خليطا من النظريات حول حساب التفاضل والتكامل، وقدم نظريات حول الميكانيكية والجاذبية دون أن ينفي وجود إله، إلا أنه خلال مائة عام فقط من صدور كتابات نيوتن تطور الوضع في علوم الفيزياء الحديثة لإنكار وجود الله وعدم حاجة الكون إليه. فبيير سيمون لابلاس (1749-1827) كتب في علم الفلك دون أي إشارة لوجود إله، وعندما سأله نابليون عن ذلك قال "سيدي ليس بي حاجة لهذه الافتراضات"، وبالنسبة لداوكينز فإن لابلاس يمثل الأب الروحي له، ولابلاس أيضا من خلال نظرياته عن الحتمية السببية يصل لفكرة أنه إذا اعتقدنا بوجود عقل لا متناه استطاع في البداية تشكيل ذرات الكون فلابد أن هذا العقل لديه القدرة على رؤية كل شيء يترتب في المستقبل، ولأن لابلاس يؤمن بالمادية مثل داوكينز فإن كل ما لا يتطابق مع العقل يعد سخفا.

في المقابل قدم داوكينز فرضية الأكوان المتعددة كتفسير عقلي لأصل الكون؛ معتبرا أنه ربما يكون هناك غرباء من خارج الكون هم الذين أنشئوا هذا الكون، فيرد ماركهام على هذا السخف بأن الإيمان هو التفسير الأفضل، وأن وجود إله خالق نعرفه هو الأقرب للعقل فلماذا نلجأ لحلول وهمية بافتراض غرباء غير موجودين؟.

ويضرب ماركهام مثلا على ذلك بأنه رأى ذات يوم فتات كعك على أرضية المطبخ وهو يعلم أنه لا يوجد في البيت سوى ابنه ذي العشر سنوات؛ لذا واجه ابنه بأن لديه دليلا على أنه أخذ من الكعك، فقدم الطفل له تفسيرا بديلا بأن هناك غرباء دخلوا البيت وأسقطوا هذه الفتات، لكن ماركهام مع اتفاقه مع ابنه باحتمال هذه الفرضية فإن التفسير الأفضل بالنسبة له هو الابن نفسه، فلماذا يفترض وجود غرباء ولديه الطفل ماثل أمامه؟.

وعلى نفس الوتيرة لماذا نقبل بتفسير داوكينز عن وجود كيانات وهمية في عوالم موازية بينما لدينا ذات إلهية معروفة، ومن العجيب تمسك داوكينز بتفسير تعدد الأكوان واعتبارها تفسيرا علميا بينما هي تناقض العقل والعلم معا.

وعلى الرغم من أن لب الإيمان محفور في نفس كل منا فإن إدراك وجود الله يحتاج نفسا بشرية عميقة التفكير تنظر في الكون لتستشعر فيه الدقة التي تستلزم وجود خالق، ويعتبر ماركهام أن من حسن الحظ أن الفيزياء الآن تطورت بدرجة كافية ليصل كثير من الفيزيائيين لحقيقة وجود الله، فأصبحت الفيزياء الحديثة صديقة للإيمان وهذا ما لم يصل إليه علم الأحياء بعد الذي ينتمي إليه داوكينز.

الله والوحي

في الفصل الخامس يؤكد ماركهام على حقيقة أن كلا من الثلاثي الملحد يرغب في رؤية العالم يتحول من البدائية والغباء إلى العلم والتنوير، إلا أن أيا منهم لم يبذل جهدا في قراءة القرآن أو الإنجيل في سياقيهما اللذين نزلا فيه، ليتفهما ما الذي أحدثه نزول كل منهما في نفوس البشر وقتها، وهذه هي المشكلة الكبرى لهؤلاء الملحدين فهم ينظرون لنصوص هذه الكتب المقدسة كما لو كانت كتبتا من قبل طالب في جامعة أكسفورد فشل في الحصول على درجته الجامعية، وليس على أنها كتب إلهية مقدسة، فهناك من طرق التفكير اللانهائية التي يمكن فهم هذه النصوص بها، لكنهم لم يحاولوا من جانبهم القراءة والفهم.

ويرى ماركهام أن أحد أسباب رؤية الملحدين للدين على أنه سبب للحيرة أنهم يتجاهلون حقيقة وجود حدود على عملية المعرفة الإنسانية، فلا يوجد أحد يستطيع أن يلم بكل العلوم والمعارف حتى في عصر الإنترنت وتدفق المعلومات؛ فمازلنا لا يمكننا أن نصل للمعرفة الكاملة كبشر، بينما الوضع مختلف بالنسبة لله فإن علمه يحيط بجميع الكائنات في الكون. ولأن الأديان لا تتشكل فقط من المعتقدات بل تنطوي على أفعال وسلوك فإن هذه السلوكيات والأفعال تتأثر بالبيئة والثقافة المحلية؛ حيث يتناولها الخلف عن السلف في أغلب الأوقات مشافهة وفي بعض الأحيان كتابة؛ لذلك بدأ ماركهام في هذا الفصل بالحديث عن سياق نزول النصوص اليهودية المقدسة، ثم في الفصلين التاليين تحدث عن المسيحية ثم الإسلام.

ويرى ماركهام أن المسلمين كاليهود أو المسيحيين ليسوا جميعا متساوين في تطبيق تعاليم الدين أو الالتزام به، ومع إقرارنا بخطورة الأعمال الإرهابية وقتل الأرواح فإننا يجب ألا نقع في خطأ التعميم الذي وقع فيه هاريس، فأغلب المسلمين ليسوا إرهابيين، فقط أقلية هي التي تنخرط في مثل هذه الأعمال، وهذا لا يعني أن ننسب أفعالهم للدين نفسه.

الدين والصراعات

وفي الفصل الثامن بعنوان "المعاناة والعناية الإلهية وترويع المتدينين" يحاول ماركهام تحليل رؤية الثلاثي الملحد حول أن الإيمان هو أصل الشرور، وأن الدين سبب لكل الصراعات، فيمضي معهم في افتراضاتهم ويضيف: ولكن أليس العلم أيضا يمكن أن يوظف لصالح ورفاهية البشرية وفي الوقت نفسه لقتل وتدمير البشرية؟ فهل يعني ذلك أن نرفض العلم وننحيه من حياتنا؟!

صحيح أن الاختلافات الدينية لعبت كثيرا من الأدوار في الصراعات البشرية لكن كان هناك دائما أبعاد أخرى سياسية واقتصادية واجتماعية، وليس من الصحيح أن اختفاء الدين كان سيجنب البشرية ويلات الحروب، وأكبر دليل على ذلك ما فعله الزعيم الروسي ستالين باسم الإلحاد من قتل وتدمير، فليس صحيحا إذن أن الإلحاد يعني السلام والأمن بالضرورة.

"الدين والمستقبل" كان عنوان الفصل التاسع والذي يفند فيه ماركهام بعض ادعاءات الثلاثي حول انتشار مذهبهم والتبشير به على أنه المستقبل والخلاص للبشرية، فهم مثلا يتخذون من انتشار كتبهم وبيعها على نطاق واسع دليلا على انتشار أفكارهم وتقبلها وتأييدها من قبل قطاعات عريضة في المجتمع، لكن ماركهام يذكرهم بحقيقة أنه في عام 2002 كانت أكثر الكتب مبيعا سلسلة "المخلفون" التي كتبها لاهاي ولاقت قبولا واسعا في العالم، وترجمت للعديد من اللغات، وتحولت لأفلام وألعاب إلكترونية، وانتشرت نبوءات هذه السلسلة، وبيع من هذه الكتب 50 مليون نسخة على الرغم من أن لاهاي رجل دين متدين، فليس بيع الكتب دليلا على انتشار الفكرة أو تأييدها.

وفي الفصل الأخير يناقش ماركهام قضية الإيمان والثقة ويرد على داوكينز وأمثاله في مسألة رفض الدين؛ لأنه يتأسس على أوهام أو حقائق غير مؤكدة بأن العلم أيضا لا يتأسس على حقائق مؤكدة ومع ذلك لا يمكننا نبذه جانبا.

وفي الخاتمة يستخلص ماركهام خمس نتائج من كتابه:

1- التأكيد على أنه لا بد من التدريب على الحاسة الإيمانية التي تمكننا من اليقين بالقدرة الإلهية منذ الطفولة، وهي مسئولية الوالدين.

2- فكرة أن المعرفة وليدة الثقافة التي نشأنا عليها تجعلنا في حاجة دائمة للحوار مع الآخر لكي نتفهم وجهات نظرهم.

3- أن العلم اليوم أصبح أحد الأسباب التي تقود إلى الإيمان.

4- أن انتشار كثير من كتب الملحدين الجدد يعود لظاهرة الإسلاموفوبيا، فإذا كان ملحدونا هؤلاء يعتقدون أن الدين يغذي الكراهية والعداء فإن كتبهم نفسها تغذي الكراهية والعداء ضد الإسلام.

5- أن هذا الثلاثي يحتاج لقراءة الكتب المقدسة ودراسة العلوم الدينية قبل أن يعبروا عن أفكارهم، بل عليهم أن يعيدوا قراءة أفكار نيتشه الذي توصل إلى أن الاختفاء الرمزي للإله لن يعني سوى الفوضى والاضطراب.

Read more: http://mdarik.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1277898759208&pagename=Zone-Arabic-MDarik%2FMDALayout#ixzz0uy0C1H4h

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق