الخميس، 8 مايو 2008

الدين والأيديولوجيا.. تضاد أم اتفاق؟

بقلم: أمل خيري

حظيت مسألة الدين والأيديولوجيا وعلاقتهما بالإرهاب باهتمام الكثير من الباحثين والأكاديميين في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، حيث تنبه الغرب لمدى تجاهله للإسلام وأوضاع المسلمين والرأي العام الإسلامي سواء في الشرق الأوسط أو في الغرب.
Image
ودارت المناقشات حول الإسلام والمسلمين وعلاقتهم بالإرهاب وشارك موقع Open Democracy في هذه النقاشات، حيث فتح المجال للباحثين لإثراء النقاش حول ملف الدين والأيديولوجيا بالتعاون مع عدة مؤسسات فكرية وثقافية أوروبية، وشهد الموقع جدلا حول قضايا الإسلام والأصولية الإسلامية والشريعة وغيرها من القضايا الفكرية التي تشمل العلاقة بين الدين والأيديولوجيا، وعكست هذه النقاشات مختلف الاتجاهات والرؤى الفكرية.
الأيديولوجيا والإرهاب
فقدم اللورد ميجناد ديساي(1) دراسته بعنوان "جذور الرعب: الإسلام أم الأصولية؟"(2)، والتي نشرها موقع Open Democracy في فبراير من عام 2007، حيث يفرق ميجناد بين الدين والأيديولوجيا، فيعتبر أن الدين شأن خاص بالفرد أو هو "ما يجب أن يكون"، وبذلك فإن الدين يعد بمثابة الموجه والمرشد للإنسان من الناحية الأخلاقية، كما أنه يحث الناس على الصبر على الشدائد ويعدهم بالنعيم الأخروي، وعلى الرغم من أن الدين هو شأن خاص فإنه حسب ما يراه ميجناد قد أُقحم في الحياة العامة واستخدمه البعض كأداة للعنف والعدوان ولغرس الضغائن والأحقاد بين البشر من أتباع الديانات الأخرى، بينما يرى ميجناد أنه لا يوجد دين واحد يحتكر القيم والفضائل الأخلاقية.
وفي أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر بادر الكثير بالتساؤل حول الإسلام وعلاقته بالإرهاب، ودارت النقاشات حول مدى قدرة المسلمين على التعايش مع الطوائف الأخرى في المجتمعات الديمقراطية وأصبح المسلم في المجتمعات الغربية موضع شك ومصدر رعب، وقامت وسائل الإعلام بدورها في تشويه صورة الإسلام والمسلمين باعتبار الإسلام دين الإرهاب وكل المسلمين إرهابيين.
إلا أن ميجناد يقدم رؤيته في هذا الصدد بالتفرقة بين الدين والأيديولوجيا معتبرا أن جذور الإرهاب لا تكمن في الإسلام كدين ولكن في الأيديولوجيا السياسية التي تستخدم الخطاب الديني لتحقيق مصلحتها التي لا تختلف عن أي أيديولوجيا أخرى في سعيها للسلطة والنفوذ، فأسامة بن لادن مثلا في خطابه يؤكد أن الإسلام يواجه حربا شرسة من قبل المستعمر الصليبي الذي يعمد لانتهاك حرمة أراضيه، ومن ذلك اعتباره القواعد العسكرية في السعودية بمثابة تدنيس لأرض الحجاز المقدسة، ولذلك فقد حاول استمالة المسلمين السنة في كل أنحاء العالم ليثأروا من التحالف الأمريكي الصليبي وكل القوى المتورطة في الصراع (الصليبي - الإسلامي).
وبذلك يرى ميجناد أن خطاب بن لادن الأيديولوجي هو محاولة لتسييس الدين، وأن الإسلام الذي يدعو إليه بن لادن ليس الإسلام الحقيقي، بل هو دين إرهابي متعصب، بينما الإسلام الحقيقي هو دين سلام وتعايش سلمي، والعالم الآن في حاجة شديدة للتعرف على الإسلام على حقيقته وفصل الدين عن الأيديولوجيا ليتأكد الجميع أن المسلمين في كل أنحاء العالم يستطيعون التعايش والانسجام مع الآخرين، ويمكنهم أن يتشاركوا الاهتمامات العامة مع باقي الشعوب ومن ثم فإن الحل الأوحد لمكافحة الإرهاب من وجهة نظر ميجناد يكمن في الفصل بين الدين والأيديولوجيا.
الدين والأيديولوجيا
ومن جهته قام سامي زُبيدا(3) بدحض رؤية ميجناد هذه في دراسته بعنوان "الإسلام والدين والأيديولوجيا"(4) والتي نشرت أيضا في موقع Open Democracy، حيث يرى سامي زبيدا أن التفرقة بين الدين والأيديولوجيا لا تصلح إلا في ظروف معينة ولكنها لا تصلح في أحوال أخرى.
فبالتطبيق على الوضع الحالي منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر يمكن القول إن المصطلحين قد تقارَبَا تقارُبًا شديدا بحيث لم يعد من السهل الفصل بين الدين والأيديولوجيا، وتكمن نقطة الخلاف بين ميجناد وزُبيدا في مسألة اعتبار الدين شأنًا خاصًّا، حيث لا يتفق زبيدا مع هذا التوجه ويؤكد أن هذه الرؤية نابعة من الفكر الغربي العلماني الذي يعتبر الدين علاقة خاصة بين الإنسان وربه لا تنسحب على أي من مجالات الحياة، ولكن هذا غير صحيح بالنسبة للإسلام، والتاريخ المسيحي نفسه أيضا يدلل على عدم صحة هذا الافتراض ولا يوجد أدل على ذلك من الحروب الصليبية، حيث تم زج الدين في الصراع السياسي في مرحلة من المراحل ثم تراجع دور الدين في الغرب بعد تبني العلمانية، إلا أن هذا التراجع لم يكن في مصلحة المجتمع بل إنه تسبب في الانهيار الأخلاقي؛ لذا نرى الآن من يدعو لإباحة الإجهاض وحرية المثلية الجنسية وغيرها، وبالتأكيد هذه الأمور ليست في مصلحة أي مجتمع، والتفرقة التي طرحها ميجناد بين الدين والأيديولوجيا غير واقعية، فالغرب يرى المسلمين جميعا بغض النظر عن درجة تدينهم إرهابيين.
النموذج الباكستاني
وفي مقابل هذه الأطروحات قدم إيزود دين بال(5) رؤيته حول الدين والأيديولوجيا بالتطبيق على باكستان، ففي دراسته التي قدمها في مارس 2008 على موقع Open Democracy بعنوان "الإسلام والأيديولوجيا: الحالة الباكستانية"(6) حاول إيزود أن يطرح منظورا آخر في هذا النقاش حول ملف الدين والأيديولوجيا؛ فإذا كانت الأيديولوجيا تعرف على إنها "مجموعة من الأفكار المترابطة معا ومجموعة من الاعتقادات التي تعتنقها مجموعة من البشر وتطمح في فرض السيطرة على الآخرين"، فإن هذا التعريف قد لا ينطبق بالضرورة على ما يسمى بالأيديولوجيا الإسلامية.
فبالنظر مثلا لمبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وهو مبدأ إسلامي أصيل، نجد أن هذا المبدأ يدعو المسلمين للمشاركة في توجيه الآخرين للخير وتنفيرهم من الشر، ولكن كيف يمارس التطبيق الفعلي لهذا المبدأ في الإسلام؟
نجد في الفكر الإسلامي عالمين جليلين قدما آراءهما حول مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما الإمام أبو حامد الغزالي في نظريته عن الحسبة التي تعرض فيها لوظيفة النهي عن المنكر، وكذلك الإمام ابن تيمية الذي أعاد فكرة تعريف المجتمع المسلم المثالي على ضوء الخبرة المستفادة بعد اجتياح المغول للدولة الإسلامية والقضاء على الخلافة العباسية.
السلفية والجهاد
أما في العصر الحديث فقد أصبحت الترجمة الفعلية لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر ارتباطا بواجب الجهاد في سبيل الله والذي آمنت به حركة طالبان في أفغانستان على سبيل المثال.
ويرى إيزود أن بعض المفكرين الإسلاميين المنتمين للمذهب السلفي الوهابي قد وظفوا مفهوم الجهاد للهيمنة على الدولة السعودية ونشروا أفكارهم الخاصة بالحسبة والجهاد، لذا فإنه من الصعوبة بمكان فصل الدين عن الأيديولوجيا.
وتعود جذور هذا الفكر للقرنين الثالث والرابع الهجريين، حيث نشأ الاتجاه السلفي كرد فعل لمجابهة الفكر المعتزلي من خلال مذهب أهل السنة والجماعة الذي دعا للعودة للأصول، فنشأ إجماع قوي لتدعيم القيم التقليدية ونبذ المعاصرة استمر حتى الآن حسب ما يرى إيزود.
وبالتطبيق على الحالة الباكستانية نجد أن جذور الأصولية الإسلامية تعود إلى مرحلة النضال من جانب الرابطة الإسلامية بقيادة محمد علي جناح(7) لتأسيس دولة إسلامية مستقلة في شبه القارة الهندية في 14 من أغسطس 1947، وظهرت أصوات من خارج الرابطة الإسلامية داعية للعودة للأصول كان من أشدها تأثيرا أبو الأعلى المودودي ومحمد أسد.
وبالنسبة لمحمد أسد(8) أو "ليوبولد فايس" قبل إسلامه فقد رأى أن الانحراف الذي يعاني منه المسلمون اليوم سببه ابتعادهم عن تعاليم دينهم، لذا فإنه يرى الحل الأوحد في العودة للأصول أو للإسلام الخالص على حد قوله، ودعا في كتابه الشهير "الإسلام على مفترق الطرق" إلى عدم الخضوع للمقاييس العقلية الغربية، بل يجب النظر للإسلام على أنه المقياس الوحيد للحكم على الأمور والعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما أبو الأعلى المودودي والذي أسس الجماعة الإسلامية بلاهور عام 1948 فقد طالب بدولة إسلامية تطبق الشريعة الإسلامية ويرأسها حاكم عادل ورع انطلاقا من مفهوم الحاكمية، حيث لا حكم إلا لله، وقد انتشرت أفكار المودودي وحازت اهتمام الكثيرين من الطلاب والأكاديميين على حد سواء، بل تبنتها بعض الأصوات داخل الجهاز الحكومي نفسه، وكان للجماعة الإسلامية تأثير فكري مهم في عمليات تشكيل الدستور الباكستاني.
وحسب إيزود فإن أفكار المودودي قد وجدت تربة خصبة للتطبيق في عهد الجنرال محمد ضياء الحق الذي قام بانقلاب أبيض ضد "ذو الفقار علي بوتو" في 5 يوليو 1977، وقام بالتقرب للإسلاميين، وأخذت أفكار كل من المودودي ومحمد أسد تنتشر في باكستان لتكون بمثابة التربة الخصبة للفكر السلفي الوهابي.
ويختتم إيزود رؤيته للأصولية في باكستان بأن التفرقة بين الدين والأيديولوجيا ليست في الهوية ولا في الأصل، بل بالأحرى في كون الدين يتيح نمو وازدهار مجموعة من الأفكار المتشددة ويعد البيئة الخصبة لنشأة الجماعات التي تسعى للسلطة حول هذه الأفكار باعتبار الدين المرجع الثابت لها والذي يقدم لها سبيل النجاة الوحيد في هذه الدنيا.
الخوارج الجدد
وتؤكد باتريشيا كرون(9) أيضا في دراستها عن مفهوم الجهاد الإسلامي(10) أنه لا يمكن فصل الإسلام عن التطبيق السياسي، وأن الكثير من الجماعات الأصولية في الوقت الحاضر تتخذ الجهاد سبيلا لها لفرض أفكارها، كتنظيم القاعدة على سبيل المثال، مما يشكك في إمكانية تعايش هذه الجماعات الأصولية مع الطوائف الأخرى المخالفة لها في الفكر، وتستثني باتريشيا من هذه الجماعات الأصولية جماعة الإخوان المسلمين وحركة حماس، حيث اعتبرتهما نموذجين للإسلام السلمي الذي لا يستخدم مفهوم الجهاد إلا من أجل استعادة الأراضي السليبة لا من أجل التناحر مع الغرب ولا من أجل فرض مبادئ الإسلام بالإكراه مما يعزز وسطيتهما.
إلا أن الأقلية المسلمة في الدول الغربية مهما تمسكت بتعاليم دينها فإنها محاطة بالقيم الغربية أينما حلت ما بين أفلام إباحية إلى انتشار الخمر إلى العُري، وبذلك فإنها لا تستطيع العيش بسلام إن أرادت إلا إذا تخلت عن قيمها، وجميع المؤسسات الإسلامية في الغرب ما هي إلا مؤسسات طوعية لا سلطة لها ولا نفوذ، وبالتالي فالمستفيد الوحيد من هذا الوضع من المسلمين أولئك الذين ينتهجون النهج العلماني فقط، أما الأصوليون وخاصة المتشددين منهم فإنهم ينظرون للمجتمعات الغربية على أنها مجتمعات جاهلية تتشابه مع مجتمع مكة الجاهلي قبل الإسلام.
وتناقش باتريشيا الفكرة التي يطرحها البعض بأن ثمة تشابها بين فكر الأصولية الإسلامية الجديدة وفكر الخوارج الذي ظهر في عصر صدر الإسلام من حيث تأييدها لفكرة الاغتيالات وقتل المدنيين والأطفال والنساء، إلا أنها ترى أنه لا يوجد رابط مباشر بين الأصوليين المعاصرين وبين الخوارج، لأن الأصوليين المعاصرين قد أفرغوا الدين من مضمونه بشكل عملي ولم يتبق من تعاليم الدين لديهم سوى النزعة الانفصالية والتشدد العسكري بحيث يجب على كل مسلم وفق مبادئهم السعي الحثيث لإقامة دولة الإسلام على أنقاض دولة الكفر وهم بذلك أكثر تشددا من الخوارج.
وتبقى هذه الرؤى المتباينة حول الدين والأيديولوجيا وعلاقتهما بالإرهاب محور نقاش مستمر بين الأكاديميين الغربيين لتعبر عن مدى التشكك في إمكانية التعايش السلمي للمسلمين مع غيرهم في المجتمعات الأوروبية حيث ما زال البعض مصرا على أن الإسلام مصدر للرعب، والمسلمين جميعا مصاصو دماء، وحتى الرؤى التي حاولت إنصاف المسلمين لم تخل هي الأخرى من الربط بين الجهاد كقيمة إسلامية وبين العنف والإرهاب.

(1) ميجناد ديساي ولد بالهند وتلقى تعليمه في بومباي وحاليا هو أستاذ متفرغ للاقتصاد بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية ومدير معهد دراسات التنمية للحكم العالمي وعضو بحزب العمال البريطاني.
(2)مقال " "The roots of terror: Islam or Islamism? نشر على موقع Open Democracy ..
(3)الأستاذ الفخري في العلوم السياسية وعلم الاجتماع في معهد بيرك بيك بلندن والأستاذ المشارك بمعهد الشرق الأوسط بلندن.
(4)مقال بعنوان " Islam, religion and ideology" نشر على موقع Open Democracy .
(5)عالم اقتصاد قام بالتدريس في الجامعات الباكستانية وفي كندا حتى أحيل للتقاعد في عام 1989 وهو مهتم بالشأن الباكستاني.
(6) مقال بعنوان " Islam and ideology: the Pakistani connection" نشر على موقع Open Democracy ..
(7) "محمد علي جناح (25 ديسمبر 1876 - 11 سبتمبر 1948) الملقب بالقائد الأعظم هو مؤسس دولة باكستان عام 1947م.
(8)رحالة نمساوي من أصل يهودي ولد عام 1900م، أسلم عام 1926م وزار العديد من البلدان الإسلامية ، أطلق عليه لقب ترجمان الفقه.
(9)أستاذة التاريخ الإسلامي بمعهد برنستون للدراسات العليا مهتمة بالفكر الإسلامي في العصور الوسطى.
(10) مقال بعنوان "'Jihad': idea and history" نشر على موقع Open Democracy .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق