دوى صوت المفكر والمصلح الإسلامي البارز محمد رشيد رضا في مطلع القرن العشرين بخطابه الإسلامي المعتدل مؤسساً بذلك مدرسة إصلاحية رائدة تقتفي آثار الأفغاني ومحمد عبده فأصدر المنار لتهتدي بهدي العروة الوثقى وما لبثت أن أصبحت مناراً للصحافة الإسلامية ، اشتهر بتفسيره العصري للقرآن وإثرائه الفكر الإسلامي بالعديد من المؤلفات التي ما تزال هداية للمصلحين.
النشأة والتكوين
ولد محمد رشيد رضا القلموني في 27 جمادى الأولى 1282 هـ / 17 أكتوبر 1865 م في قرية القلمون على شاطئ البحر المتوسط من جبل لبنان وهي تبعد عن مدينة طرابلس الشام بثلاثة أميال.
ورشيد رضا سليل بيت عربي عريق حسيب نسيب ينحدر من نسل الحسين بن عليّ رضي الله عنهما ، وقد اشتهر بيت آل الرضا بهذا النسب الكريم في قرية القلمون وتوارثوا الرئاسة في تلك القرية حتى صاروا يعرفون باسم المشايخ ، كما ضربوا أروع الأمثلة في الانقطاع للعبادة وتكريم العلماء والاعتداد بالنفس دون تملق لأصحاب السلطان.
وعندما شب رشيد عن الطوق كان والده قد آلت إليه رئاسة هذا البيت في القلمون وورث عن أسلافه المنزلة الرفيعة والهيبة وقد تأثر رشيد بوالده تأثراً عظيماً كما ورث عنه الكثير من الخصال الخلقية والعلمية مثل قوة الذاكرة وطلاقة اللسان والجرأة وتذوق الشعر والغيرة على الإسلام.
وقد لاحت علائم الذكاء على رشيد منذ أيام طفولته فقد اتضح ميله لمجالسة العلماء كما ظهرت قدرته الخارقة على الفهم السريع وحفظ المعاني ، التحق بكتاب القرية وتعلم فيه القرآن والخط وقواعد الحساب ثم انتقل للمدرسة الرشدية بطرابلس الشام وكانت مدرسة ابتدائية تعني بالنحو والصرف والحساب ومبادئ الجغرافيا والعقائد والعبادات وكانت الدروس تلقى فيها بالتركية لأنها تعد خريجيها لتولي الوظائف الحكومية إلا أن نفس رشيد أبت العمل بالحكومة فترك المدرسة الرشدية بعد سنة واحدة .
التحق بالمدرسة الوطنية الإسلامية بطرابلس 1882 وهو في الثامنة عشر من عمره وكان التعليم فيها بالعربية واهتمت بالعلوم العربية والشرعية والمنطق والرياضيات والفلسفة الطبيعية وقد أنشأها الشيخ حسن الجسر وهو الأستاذ الأول لرشيد رضا وصاحب الفضل في توجيهه إلى كثير من المعارف والعلوم فقد أتاح له فرصة الكتابة في صحف طرابلس وما لبث رشيد أن اشتهر في هذا الميدان وصار ما يكتبه في الصحف موضع اهتمام القراء وعنايتهم كما اشتهر رشيد بنظم الشعر بما اشتمل عليه من معاني جزلة وبلغت بعض قصائده في جودتها خير ما نظمه كبار الشعراء وعلى الرغم من إغلاق المدرسة وتفرق طلابها إلا أن رشيد رضا ظل محتفظا بعلاقته مع الشيخ الجسر ناهلا من علمه حتى نال على يديه الإجازة في العلوم العربية والشرعية كما نال إجازة الحديث على يد الشيخ محمود نشابة ، كما درس على الشيخ عبد الغني الرافعي ومحمد القاوجي وغيرهم من شيوخ الشام.
مدارك الإصلاح
حبب إلى رشيد الخلوة فكان يختلي بنفسه في غرفة بمسجد الأسرة ليقرأ كما كان يلتقي فيها زوار القلمون من المشايخ كما اتجه نحو التصوف فقرأ للغزالي وتأثر به وكان يعتبره مثله الأعلى إلا أنه ما لبث أن تحول عن الصوفية إلى السلفية وآثر التعمق في العلوم التي تؤهله لإصلاح المجتمع والأخذ بيد أبنائه نحو مدارج الكمال وقد خص أهل قريته بنصيب كبير من نشاطه الإصلاحي فكان يقرأ الدروس للرجال في المسجد ويلقي الخطب كما دأب على الذهاب إلى المقهى ليعظ روادها ويبسط لهم قواعد الفقه والعقائد كما نجح في حث الناس على التخلي عن التوسل بأصحاب القبور وحاول إزالة أسباب البدع والضلال ولم يكتف بتوجيه دعوته للرجال بل حرص على توجيه النساء فعقد لهن درساً خاصاً بدار الأسرة ليعلمهن شئون دينهن فكان سبباً في تمسك النساء بتعاليم الإسلام والابتعاد عن الجهل والبدع .
وفي الوقت الذي دخل فيه رشيد رضا ميدان الإصلاح في قريته كانت أنظار العالم الإسلامي تتجه إلى مصر حيث ظهرت حركة إصلاحية تولى زعامتها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده فتلقى رشيد على يد هذين الأستاذين دراساته العليا في الإصلاح في المعهد الذي أنشأه الأفغاني لتخريج القادة وزعماء الإصلاح فشب على منهج أستاذيه ليتم الرسالة التي وضعا حجر الأساس لها ليشاركهما شرف الجهاد في رفع قواعد الإسلام كما أفاد من جريدة العروة الوثقى ومن منهجها الذي رسمته في الإصلاح ففتحت أمامه آفاقا واسعة .
وسنحت له الفرصة بالتقاء محمد عبده بسوريا وتعلقت نفس رشيد بأستاذه تعلقاً كبيراً فتاقت نفسه للاتصال بالأفغاني الذي كان قد وصل الآستانة فأرسل إليه خطابا عبر له فيه عن مشاعره وإعجابه بمنهجه في الإصلاح وما لبث الأفغاني أن توفي دون أن ينجح رشيد في مقابلته فعقد العزم على شد الرحال إلى مصر ليعمل مع محمد عبده في طريق الإصلاح خاصة بعد أن أنهى رشيد كتابه " الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية " والذي تصدى فيه لمحاولات أبي الهدي الصيادي بتشجيع من البلاط العثماني على نشر البدع وتشجيع الطرق الصوفية وما تستتبعه من حلقات ذكر وأشكال غريبة من العبادة لكونها تؤدي للتعمية والجهل وتلهي الناس بأمور لا علاقة لها بالدنيا فتصدى رشيد لهذه الظواهر في كتابه ، وشعر أن الشام أصبحت مسرحا للدسائس والجواسيس فتطلع للرحلة إلى مصر.
منار الإصلاح
وفي مصر وجد رشيد البلاد تموج بالروح الوطنية كما حفل ميدان الأدب بطائفة من كبار الشعراء الوطنيين إضافة إلى حركة فكرية قادتها الصحافة الوطنية وبعد أن التقى محمد عبده فاتحه باستقرار عزمه على إنشاء صحيفة إصلاحية يستمد فيها من حكمة الإمام ما يكتب فأعجب بفكرته وساعده في إنشاء الصحيفة وقدم له كل الدعم .
وقد بدأ رشيد رضا جهاده في ميدان الإصلاح العام عملاقا حيث أنشأ جريدة المنار وصدر العدد الأول منها في الثاني والعشرين من شوال 1315 هـ / 17 مارس 1898 م ، إلا أن الدولة العثمانية ما لبثت أن صادرت العدد الثاني للمجلة في الشام وأحرقت النسخ كلها وجرت العديد من المراسلات بين رشيد وبين أبي الهدي الصيادي ممثل الدولة العثمانية لمحاولة ردعه عن استمرار المنار إلا انه لم يأبه بالتحذيرات التي تحولت إلى اعتداءات فعلية على أسرته في القلمون وعلى دار المنار في القاهرة دون أن يحول ذلك واستمرار صدورها، وبعد السنة الثالثة تحول المنار إلى إصدارة شهرية علمية أكثر عمقا وضم في تحريره كبار المصلحين والكتاب مثل الكواكبي حيث نشر له كتابه أم القرى كما بدأ الإمام محمد عبده تفسير القرآن واهتم رشيد بجانب العقيدة والفقه والرد على الفتاوى.
وتدعيما للخط العلمي اتفق رشيد مع الإمام على أن يقوم الإمام بشرح الآيات شرحا مختصرا ويدون رشيد الدرس كتابة ويضيف إليه ما يعن له من الآراء ثم يعرض على الإمام ونشرت حلقات التفسير في المنار ثم جمع بعد ذلك في المجلدات التي صدر بها وامتاز التفسير بالبعد عن الحشو والجدل الفلسفي مع الالتزام بالتعبير السهل السلس مراعاة لمختلف مستويات أفهام القراء.
ريادة المنار
كانت المنار رائدة الصحف الإسلامية لعنايتها بدراسة العقيدة الإسلامية ودراسة أحوال المسلمين في العالم الإسلامي ومتابعة أنشطة الجمعيات الإسلامية ودراسة المجتمع الإسلامي وأحوال المرأة وإصلاح المحاكم الشرعية كما عنيت بالتربية الإسلامية وإصلاح التعليم والجامع الأزهر، كما نشطت في مواجهة التحديات والأخطار المنبعثة من الدعوات الهدامة كالبهائية والقاديانية وتصدت للرد على كتابات الغربيين من خصوم الإسلام وبدت عنايتها بالمؤلفات الإسلامية والتراث المجدد واللغة العربية ولم تكن المنار بمعزل عما يدور في الصحف الأخرى بل كانت تعرض وجهة نظر الصحافة الإسلامية من المجلات والصحف اليومية وخاصة ما يتصل بصحف الحزب الوطني.
وفي سنة 1905 أي بعد ثمانية سنوات من صدور المنار صار أسلوبه في الكتابة نموذجا يحتذي به الكُتاب والصحف ووصل المنار أوج قمته في السنة الثانية عشر حيث تنافس الناس في اقتناء الأعداد القديمة والجديدة وأعيدت طباعة الأعداد الأولى للمرة الثانية .
واشتهر اسم رشيد رضا صاحب المنار ليس في مصر وحدها بل في العالم الإسلامي كله وحتى في أوروبا فجاءه العلماء من شعوب مختلفة يستزيدون من علمه كما أشاد المستشرقون بالمنار واختير رشيد رضا عضو شرف في جمعية العلوم الروحية والأبحاث النفسية برومانيا وفي مدة وجيزة أصبحت المنار المجلة الشرعية الأولى في العالم الإسلامي .
مدرسة الدعوة
لم تستنفد تلك الجهود كلها طاقة هذا المصلح فشرع في المجاهدة في ميدان آخر حيث وضع أسس مشروع إنشاء مدرسة رفيعة المستوى تضاهي وتضاد مدارس الإرساليات التبشيرية لتخرج دعاة من طراز خاص مزودين بالعلم الشرعي والعصري وكانت فكرة إنشاء مدرسة الدعوة والإرشاد التي أنشأها بعد تسعة أعوام من إصدار المنار .
وكان أهم ما دفعه لإخراج فكرته إلى حيز التنفيذ المكاتبات التي وردت إليه من شتى البلاد الإسلامية تستنجد به ضد نشاط المبشرين الاستعماريين الذين انبثوا بين أبناء الشعوب الإسلامية محاولين الطعن في القرآن وفي الرسول عن طريق الخطب العامة والتعليم في المدارس الخاصة والوعظ في الملاجئ والمستشفيات واعتمدت مدرسة الدعوة على الجهود الذاتية من الأهالي ومن ذوي اليسار ودخل المشروع حيز التنفيذ عام 1912 م حيث افتتحت رسمياً في جزيرة الروضة وكان الطالب يحصل على شهادة مرشد إذا قضى فيها ثلاث سنوات وكانت هذه الشهادة تؤهله للعمل في مدارس الجمعية ولكن إذا أراد الطالب مواصلة الدراسة ثلاث أعوام أخرى فإن ذلك يؤهله ليصبح داعية من الدعاة يجوب العالم الإسلامي .
وعلى الرغم من ريادة فكرة المدرسة إلا أنها لم تحقق ما كان مرجواً منها لذا فقد اتجه رشيد نحو فكرة أخرى وهي أن يقوم بنفسه بالرحلات إلى بعض البلدان الإسلامية ليطلع على أحوالها ويخاطب أبنائها ويطالب بوحدة إسلامية في وجه الخطر فكانت رحلاته لسوريا والقسطنطينية والهند والحجاز وأوروبا فقدم لنا نوعا من أدب الرحلة يمزج فيه بين هدف الإصلاح ومتعة السياحة فكان كتابه "رحلات رشيد رضا" والذي أوضح فيه أسلوبه في التفاعل مع الأشخاص والأحداث وكانت مرجعا لجانب هام من سيرته الذاتية التي لم يعن بتدوينها رغم مطالبة الكثيرون.
وقام رشيد رضا بتفصيل رحلتيه إلى سوريا على وجه الخصوص في كتابه " رحلتان" ، وفي مجال الإصلاح كتب " الأزهر والمنار" شرح فيه آراءه في ضرورة إصلاح الأزهر وهاجم جمود أساتذته ، كما كتب " الوحي المحمدي" كنوع من التفسير المبسط ، وعرفاناً منه بجهود أستاذه محمد عبده كتب عن تاريخه في " تاريخ الأستاذ الإمام" كما كتب عن حقوق المرأة "نداء للجنس اللطيف" وكتب أيضا " الخلافة أو الإمامة العظمى" ، " الوهابيون والحجازيون " ، " السنة والشيعة" وغيرها الكثير من المؤلفات القيمة وبعد حياة حافلة بخدمة الفكر الإسلامي انتقل رشيد رضا إلى الملأ الأعلى في23 جمادى الأولى 1354هـ= / 22 أغسطس 1935م مخلفاً تراثاً فكرياً ينير الطريق للمصلحين من بعده.
المراجع:
1. إبراهيم العدوي ، رشيد رضا الإمام المجاهد ، القاهرة : الدار المصرية للتأليف والترجمة ، سلسلة أعلام العرب ، 1964.
2. سمير أبو حمدان ، الشيخ رشيد رضا والخطاب الإسلامي المعتدل، بيروت : الشركة العالمية للكتاب، سلسلة: موسوعة عصر النهضة، 1992.
3. د.سامي عبد العزيز الكومي، صحيفة المنار في ذكرى مئة عام على صدورها ، الوعي الإسلامي، السنة 34 ، العدد 389 ، مايو 1998.
4. محمد خير رمضان يوسف ، معجم المؤلفين المعاصرين، الجزء الثاني، الرياض: مطبوعات مكتبة الملك فهد الوطنية ، السلسلة الثالثة ، 1425 هـ / 2004 م.
5. صلاح زكي أحمد ، أعلام النهضة العربية الإسلامية في العصر الحديث ، القاهرة : مركز الحضارة العربية ، 2001
6. عباس محمود العقاد ، رجال عرفتهم ، القاهرة: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع ، د.ت.
7. أنور الجندي ، موسوعة تاريخ الصحافة الإسلامية ،الجزء الأول " المنار – محمد رشيد رضا "، القاهرة: دار الأنصار ، 1983.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق