الخميس، 6 مارس 2008

مصطفى عبد الرازق .. مدرسة فلسفية في رحاب الأزهر

أمل خيري

مصطفى عبد الرازقيحتل الشيخ مصطفى عبد الرازق مكانا بارزا في الفكر الإسلامي المعاصر كرائد للفلسفة الإسلامية وكإمام أكبر للأزهر الشريف، شارك في إصلاح الأزهر وطرق التعليم به، وأمد النهضة الأدبية بألوان مختلفة من الثقافة الإسلامية والأجنبية، ويعد قطب الحركة الفكرية التي تجمع بين القديم والحديث وتنادي بحرية الفكر وتوافق الفلسفة والدين، وكان بيته ملتقى الندوات الفكرية التي يقصدها أهل العلم والأدب من مصر ومن الوافدين عليها.

النشأة والتكوين

ولد مصطفى حسن عبد الرازق عام 1304هـ في أبي جرج إحدى قرى محافظة المنيا لأسرة علمية تولى أفرادها أعمال القضاء، ووالده الشيخ حسن باشا كان رجلا واسع المعرفة كما كان له أكبر الأثر في الحياة السياسية المصرية، فقد كان أحد مؤسسي جريدة "الجريدة" التي كانت تدعو إلى الإصلاح والحكم الدستوري والحق في التعليم، كما كان أحد مؤسسي حزب الأمة. وقد وجه ولديه مصطفى وعليا لحفظ القرآن الكريم والدراسة بالأزهر الشريف.

بدأ مصطفى عبد الرازق حفظ كتاب الله في كتاب القرية وهو في السادسة من عمره، ودرس الابتدائية في أبي جرج ثم واصل دراسته في جامعة الأزهر حيث حصل على شهادة العالمية عام 1325هـ/ 1908م.

ومنذ صباه كان مهتما بعائلته حتى أنه أسس جمعية "غرس الفضائل" بين شباب عائلته، كما أصدر صحيفة "العائلة" بلسان حال عائلته حيث كان أفرادها يتلهفون لصدورها ومتابعتها، وأبرزت له هذه التجربة مهاراته الصحفية فاتصل بجريدة "المؤيد" وكتب فيها كما كتب في مجلة "الموسوعات" التي كان يصدرها الزعيم محمد فريد، وكتب في مجلة "السفور" التي أحدث اسمها صدمة للذوق العام، وعلى الرغم من عدم استمرار المجلة سوى سنوات قلائل فإنه لم يخل عدد منها من مقال لمصطفى عبد الرازق.

روافد فكره

تضافرت عدة عوامل لنجاح مصطفى عبد الرازق من بينها استعداده الطبيعي وصقله لهذا الاستعداد، ثم منهجه العلمي القويم وحبه للقراءة وميله للأدب والشعر وحفظه للقرآن الكريم وإتقانه العلوم الأزهرية، كما منحه الله ملكة الفكر والبحث.

سافر لفرنسا للتعرف على الثقافة الفرنسية عام 1326هـ/ 1909م، ودرس في السوربون وحصل على رسالة الدكتوراة عن "الإمام الشافعي أكبر مشرعي الإسلام"، ثم التحق بجامعة ليون عام 1331هـ/ 1913م ودرس أصول الشريعة. وتعد هذه الرحلة العلمية أحد أهم روافده الفكرية.

وفي فرنسا كان يدون مذكراته عن حياته اليومية فجاءت سجلا حافلا بالتاريخ والأدب، وخلال مدة إقامته في فرنسا أصيب بمرض صدري وأقام في المستشفى لفترة فكتب في هذه الفترة مقالات بعنوان "صفحات من سفر الحياة" وبعد نشوب الحرب العالمية الأولى عاد إلى مصر.

بعد عودته من فرنسا عام 1333هـ/ 1915م اشتغل في الأزهر فعين سكرتيرا بجامعة الأزهر ثم سكرتيرا عاما للمجلس الأعلى للأزهر وحقق في خلال هذه الفترة تطورا كبيرا لهذا المعهد القديم.

ونتيجة لمواقفه السياسية المناصرة للحركة الوطنية التي كان يقودها سعد زغلول تم إبعاد مصطفى عبد الرازق من الأزهر خوفا من أفكاره السياسية والاجتماعية فتم تعيينه مفتشا بالمحاكم الشرعية وهي وظيفة لم تكن تناسب قدراته ولكنها وفرت له الفرصة لتوسيع دائرة نشاطه العلمي والأدبي فانصرف للكتابة والدرس ووسع نشاطاته الاجتماعية في شتى الأوساط من أزهرية ومدنية وأوروبية.

كما اشترك عضوا بالجمعية الخيرية الإسلامية وانتخب وكيلا لها ثم تولى بعد ذلك رئاستها، وساهم في تأسيس الجامعة الشعبية وألقى فيها محاضرات كثيرة.

في صحبة محمد عبده

اتصل مصطفى عبد الرازق بأستاذه محمد عبده في نهاية مراحل تعليمه بالأزهر حيث كان يحضر دروسه في الأزهر عام 1320هـ/ 1903م، والتي كانت إشعاعا روحيا يسري بين نفوس مريديه وتلاميذه، وأعجب مصطفى بأستاذه أيما إعجاب حتى أنه لم يترك أثرا من آثاره إلا بذل الجهد في الاطلاع عليه فاقتنى مجموعة كاملة من مجلة العروة الوثقى وسعى لاتخاذ منزل الإمام في عين شمس متحفا له، وألقى العديد من المحاضرات عنه في جامعة الشعب، ولم يدخر جهدا في تعريف تلاميذه بفضل محمد عبده وأثره، وظل عاكفا على آثاره حتى وفاته، ورأس جمعية أسسها الطلاب من أبناء محمد عبده، وكانت تقوم بمناقشات علمية وأدبية وإصلاحية. وهكذا جاهد مصطفى عبد الرازق بقلمه ولسانه وحياته العملية لنشر الحرية الفكرية وخدمة الدعوة الإصلاحية التي نهض بها محمد عبده.

رائد الفلسفة الإسلامية

انتدب عبد الرازق ليعمل أستاذا مساعدا للفلسفة الإسلامية بكلية الآداب بالجامعة المصرية فور إنشائها رسميا عام 1343هـ/ 1925م، وكان أستاذا جامعيا ناجحا ونموذجا فريدا علما وخلقا.

لقد كان أول رائد للفلسفة الإسلامية في مصر وأول من قام بتدريسها من المصريين وله مكانته في الجامعة المصرية وجذب أنظار الباحثين المصريين والعرب لدراسة الفلسفة الإسلامية.

انتخب رئيسا فخريا للجمعية الفلسفية المصرية عام 1364هـ/ 1945م، والتي كان لها الكثير من أوجه النشاط الفكري والفلسفي ومن بينها إصدار سلسلة من المؤلفات في مجال الفلسفة.

قدم عبد الرازق نموذجا يحتذى في منهج البحث العلمي وقدم أبحاثا جديدة في علم الكلام وأصول الفقه باعتبارهما خير تمثيل للفلسفة الإسلامية وباعتبارهما المنبع الأصيل لتلك الفلسفة قبل أن تختلط بروافد الفكر اليوناني، وكان له السبق في وضع أسس منهج جديد لدراسة تلك الفلسفة نعى فيها على الباحثين الغربيين تعصبهم وإنكارهم لأصالة الفكر الفلسفي في الإسلام. وصدرت هذه الدراسات في كتاب "تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية" الذي يعد من أوائل الكتب التي تصدت لهذا الجانب، كما أنه له كتاب "فيلسوف العرب والمعلم الثاني" الذي كتب فيه دراسة لبعض الفلاسفة والمفكرين الإسلاميين كالكندي والفارابي وابن الهيثم، فاتحا أبواب البحث وداعيا الباحثين للبحث والدراسة وأظهر فضل الفلاسفة الإسلاميين وابتكارهم.

في رحاب الأزهر

منذ حداثة نشأته اهتم مصطفى عبد الرازق بإصلاح الأزهر، فقد كان أحد العقول المفكرة لجمعية تضامن العلماء للدفاع عن الأزهر الشريف ضد مدرسة القضاء الشرعي، فكان يرى أن الإصلاح يجب أن يعم الأزهر، لكنه لم يدع إلى إلغاء مدرسة القضاء الشرعي بل كان يؤيد التوفيق بينهما.

تولى وزارة الأوقاف المصرية 6 مرات وبقي وزيرا إلى أن صار شيخا للأزهر عام 1364هـ/ 1945م، وكان رئيسا للجنة الأوقاف والمعاهد الدينية بمجلس النواب، ويعد أول أزهري يتولى الوزارة في مصر، وفي العام التالي لتوليه مشيخة الأزهر اختير أميرا للحج.

ويعد تعيينه شيخا للأزهر تتويجا لمسيرته العلمية الحافلة، وفي هذا المنصب كان مجددا واسع الأفق عمل بجد وحصافة طوال الفترة التي تقلد فيها هذا المنصب رغم قصرها فأدخل بعض الإصلاحات للأزهر كإدخال اللغات الأجنبية، كما أوفد البعثات الأزهرية لإنجلترا وفرنسا لدراسة اللغات الإنجليزية والفرنسية بقصد تدريس هاتين اللغتين في الجامعة الإسلامية، وأرسل مبشرين مسلمين إلى أوغندا، كما أرسل بعثات من المدرسين لبلاد الحجاز لدراسة العقيدة الإسلامية، وكافح كفاحا موصولا لتجديد الجامعة الإسلامية التي كانت تضم أكثر من ثلاثين ألف طالب وافدين إليها من شتى الأقطار.

عين عضوا في مجمع فؤاد الأول للغة العربية عام 1358هـ/ 1940م ونال رتبة الباشوية عام 1359هـ/ 1941م ولكنه تخلى عنه عندما اختير شيخا للأزهر.

إنتاجه الفكري

خلف الشيخ تراثا فكريا له أثره البالغ في الفكر المعاصر، فقدم كتبا ومقالات تطرقت لموضوعات مختلفة وشملت ميادين متعددة، فكتب في الفلسفة الإسلامية وفي الفكر الديني. فكتابه "الدين والوحي والإسلام" يتناول أبحاثا في تفسير مفهوم الدين ودراسة ظاهرة الوحي المصاحبة للدين، وتطبيقا عمليا للدين المصاحب بالوحي وهو الإسلام، ويدعو لضرورة مواصلة البحث في الدين.

وفي ميدان الدراسات الأدبية كتب عن الشاعر المصري بهاء زهير وعرض لأهم القضايا الأدبية وقدم دراسة عن دور الشاعر وأهميته في المجتمع.

وله إسهام في مجال الترجمة من العربية إلى الفرنسية للتعريف بالأعمال الفكرية الإسلامية، فترجم مع صديقه برنار مشيل رسالة التوحيد للإمام محمد عبده، وترجم كتاب طيف ملكي، وأصدر بالفرنسية كتاب الإسلام والتصوف بالاشتراك مع ماسينيون.

كما كتب عدة مقدمات لبعض الكتب العلمية القيمة منها كتاب موسى بن ميمون، وفي مجال السيرة الذاتية كتب "مذكرات مسافر" و"مذكرات مقيم".

وقام شقيقه علي عبد الرازق بجمع آثاره في كتاب صدره بنبذة عن تاريخ حياته وكلمة للدكتور طه حسين وجمع فيه مقالات كتبها مصطفى عبد الرازق على صفحات مجلتي السفور والسياسة في صورة مقالات أدبية بأسلوب بلاغي فريد.

وتمتاز كتب عبد الرازق بعمق الفكرة وجديتها وطرافتها ودلالتها القوية ومعناها وقوة تأثيرها، وذلك بفضل موضوعيته واتباعه مناهج البحث العلمي ورصانة الأسلوب وبلاغته والصدق والثراء الروحي، فبقيت كتبه ذخيرة للباحثين والدارسين ونموذجا يحتذى.

إشعاعات فكره

كان لمصطفى عبد الرازق نزعة عملية تربط الفكر بالعمل، كما تميز باستقلال الفكر وعدم التسرع في الحكم والاهتمام بالمضمون وتحليل الأفكار والبعد عن التعصب، إضافة إلى نظرته الكلية وتوفيقه بين القديم والحديث. وهو وإن كان يقر كرامات الأولياء فإنه لا يقر ما عليه البعض من دعاة التصوف من المغالاة في هذه الكرامات. كما عارض ما يضفيه الناس على بعض الأماكن من قدسية ومعتقدات دينية.

وباعتباره رائد الفلسفة الإسلامية أثمرت اتجاهاته الفكرية في تنشئة جيل من الباحثين من تلاميذه الذين اهتدوا به مثل محمود الخضيري وعثمان أمين وعلي سامي النشار.

والناظر في آثاره الفكرية يلحظ مكانته الفكرية الممتازة على عدة مستويات:

ففي جانب الفكر الديني: تميز منهجه بتحرير الفكر من التقليد واعتبار الدين من موازين العقل وفهم الدين على طريقة السلف قبل ظهور الخلاف، كما كان يرى للدين وظيفة إيجابية في الحياة من حيث أنه يدعو لتربية الذات الحرة القوية، واهتم بالبعد الداخلي للإنسان.

كما احتل الجانب الاجتماعي مكانا بارزا في فكره فأوضح دعامات الأسرة ودورها في التنشئة الاجتماعية وتعرض للمشكلات الاجتماعية التي تواجه الأسرة كالزواج والطلاق وتعدد الزوجات وزيادة النسل وأولى اهتماما كبيرا بالإصلاح الاجتماعي.

كان متتبعا لحركة التأليف والنشر ولا يكاد يفوته كتاب منشور، وكان يعنى بالكتب المخطوطة والنادرة.

توفي الشيخ مصطفى عبد الرازق يوم 24 من ربيع الأول 1366هـ/ 15-2-1947م، وبقيت آثاره شعلة متقدة في نفوس عارفيه ومحبيه.

وأقيم حفل تأبينه في الجامعة المصرية في 5-5-1366هـ/ 27-3-1947م، كما قام المجلس الأعلى للثقافة بعقد مؤتمر كبير احتفالا بمرور نصف قرن على وفاة الإمام الأكبر مصطفى عبد الرازق وأعيد فيه طبع كتاب "الشيخ الأكبر مصطفى عبد الرازق مفكرا وأديبا ومصلحا" اشترك فيه مجموعة من الأساتذة والباحثين اعترافا بجهوده كصاحب مدرسة فلسفية رائدة.

المصادر:

1. دكتور علي عبد الفتاح المغربي، المفكر الإسلامي المعاصر مصطفى عبد الرازق، القاهرة: دار المعارف، 1987م، الطبعة الثانية.

2. الكتاب التذكاري عن الإمام الأكبر مصطفى عبد الرازق مفكرا وأديبا ومصلحا، اشترك فيه نخبة من أساتذة الجامعات والمفكرين، تقديم: دكتور عاطف العراقي، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة والفنون، 1997م.

3. آثار مصطفى عبد الرازق، تقديم: طه حسين، مصدرة بنبذة عن تاريخ حياته بقلم شقيقه الشيخ علي عبد الرازق، القاهرة: دار المعارف، 1957م.

4. محيي الدين الطعمي، النور الأبهر في طبقات شيوخ الجامع الأزهر، بيروت: دار الجيل، 1992م.

5. كامل الشناوي، زعماء وأدباء وفنانون، القاهرة: دار المعارف، 1987م، الطبعة الثانية.

6. محمد خير رمضان يوسف، معجم المؤلفين المعاصرين، الجزء الثاني، الرياض: مطبوعات مكتبة الملك فهد الوطنية، السلسلة الثالثة، 1425هـ / 2004م.

7. محمد حلمي عبد الوهاب، مصطفى عبد الرازق: الشيخ المستنير، القاهرة: مجلة رواق عربي، العدد45، 2007م، ص ص19-22.

8. عثمان أمين، الشيخ مصطفى عبد الرازق، القاهرة: دائرة معارف الشعب، كتاب الشعب 118، ص ص 575–580.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق