الاثنين، 25 يناير 2010

الجهاد والحرب العادلة..بين الإسلام والمسيحية

أمل خيري

روَّج البعض لمفهوم الحرب العادلة في المسيحية على أنها الوجه الغربي لمفهوم الجهاد في الإسلام، على الرغم من أن المفهوم الأول دخيل على المذهب المسيحي، بينما الأخير من أصول تعاليم الإسلام، وفي الوقت نفسه تعرض المفهومان لمحاولات تشويه وتضليل إعلامي مبالغ فيه، سواء من قبل المسيحيين أو المسلمين؛ وهذا ما دفع "تشارلز أمجد علي" لكتابة دراسته التي حملت عنوان: "الجهاد ونظرية الحرب العادلة.. التنافر والحقيقة" والتي نشرت بمجلة "الحوار" “Dialog” في العدد الذي صدر خريف 2009 والمخصص بكامله عن الإسلام، وهي مجلة إنجليزية فصلية صادرة عن دار نشر بلاك ويل؛ حيث حاول تشارلز تحليل مفهومي الجهاد والحرب العادلة لبيان أوجه التشابه والاختلاف.

العودة للجذور

ينطلق تشارلز في دراسته من البحث عن جذور كلا المفهومين في مبادئ المسيحية والإسلام؛ ليؤكد أن نقطة الاختلاف الأساسية بين المفهومين تبدأ من الأصول الدينية لكليهما؛ ففي حين أن مفهوم الحرب العادلة في المسيحية ليس له أي أساس ديني، لاسيما في العهد الجديد، فإن مفهوم الجهاد في الإسلام تعود أصوله لوقت مبكر جدا يقترن بنشأة الدولة الإسلامية منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

فمفهوم الحرب العادلة لم يبدأ في الظهور إلا في منتصف القرن الرابع، والضرورة هي التي فرضته؛ حيث نشأ المفهوم كرد فعل اعتذاري من قبل رجال الدين لتبرير ما قامت به الدولة من حروب، أي إيجاد تبرير أخلاقي ومعنوي للحرب، ولم تظهر هذه الضرورة إلا بعد اعتناق قسطنطين المسيحية، على الجانب الآخر تأصل مفهوم الجهاد، وتطورت نظرية متكاملة بخصوصه؛ حيث بدأ الإسلام في تأصيل نظريات الحكم والإدارة، وتنظيم ممارسة الأدوار السياسية ومن ضمنها الجهاد.

وهكذا فإن نظرية الحرب العادلة في الإسلام تعود جذورها لوقت مبكر جدا مقارنة بالمسيحية، مع الأخذ في الاعتبار أن الإسلام قد نجح في الوصول إلى حضارة البحر المتوسط بفلسفته وأخلاقه، بل وبخطابه السياسي، خاصة كتابات أفلاطون وأرسطو، والتي لم يلتفت إلى الاهتمام بها في الغرب إلا بعد نقل المسلمين لها وترجمتها، فأخذها عنهم توما الإكويني الذي صاغ نظرية أكثر منهجية للحرب العادلة اعتمادا على المبادئ الأرسطية.

وفي الوقت نفسه الذي توسعت فيه الإمبراطورية الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين نجح فقهاء المسلمين في صياغة نظريات جادة متعلقة بمصادر الأخلاق والقانون والفقه، وفنون الحكم، ومن بينها نظرية في الجهاد.

دور القرآن الكريم

إذا كان القرآن الكريم يمثل للمسلمين المصدر الرئيسي للمعرفة في جميع جوانب الحياة؛ فإن استمرار نزوله على الرسول الكريم أثناء مراحل إقامة الدولة في المدينة المنورة -حيث عاش كل من اليهود والمسيحيين والوثنيين والحنفاء جميعا في ظل الدولة الإسلامية- أدى إلى تناول القرآن للخصائص الأساسية للدولة وأحوالها، فضلا عن فضح محاولات الخيانة الداخلية من قبل اليهود وغيرهم، بل وناقش تفصيلا الحروب ضد المشركين، سواء التي انتصر فيها المسلمون أو المشركون.

كل هذا أدى إلى أن مصطلحات مثل: الجهاد، والحروب، والغزوات، وحتى آداب القتال، وغيرها من المصطلحات المتعلقة بالحرب أصبحت من قواعد الفقه الإسلامي، وتشكلت منذ نشأة الدولة الإسلامية، وصارت مرتبطة بالفقه والأخلاق والعقيدة.

هذه النشأة المبكرة في حد ذاتها تعد -من وجهة نظر تشارلز- مصدر قوة، ولكنها في الوقت نفسه تنطوي على مظاهر ضعف من أهمها عدم قدرة هذه الأحكام على التكيف مع التحولات المعاصرة، أو إيجاد تفسير يصلح للعصر الحالي، على حد قوله؛ فهي قواعد كلية نزلت في سياق تاريخي وجغرافي وسياسي معين، وللأسف استغلت من قبل "الجهاديين" أو الجماعات الإسلامية الراديكالية، أما الاتجاه السلفي أو السني فإنه يرى القرون الثلاثة الأولى في صدر الإسلام -والتي تشمل عهد الرسول والقرنين التاليين- هي النماذج التي طبقت الإسلام كما ينبغي أن يكون، وبالتالي فإن السلفيين يرون أن الإسلام يجب أن يحافظ على روابطه المباشرة بأصوله الدينية كما طبقها المسلمون الأوائل.

حرب عادلة أم توسعية؟

تعرض تشارلز للصعوبات العقائدية والمذهبية لنظرية الحرب العادلة المسيحية؛ حيث ذكر أن مفهوم "الحرب العادلة" في التقليد المسيحي أتى من مصادر عدة؛ فكانت نشأته الأولى مستمدة من كتابات شيشرون (43 ق. م)، ثم ظهرت ضمنيا لدى أمبروز في ميلانو (المتوفى 397م)، وأوغسطينوس (المتوفى 430م) الذي ابتكر مفهوم الحرب العادلة، ثم انتقلت نظرية الحرب العادلة إلى توما الإكويني (المتوفى 1274م)، وفرانسيسكو دي فيتوريا (المتوفى 1546م)، وفرانسيسكو سواريز (المتوفى 1617م) ، ومن ثم أصبح المفهوم رسميا أحد مكونات اعتراف أوغسبورغ عام 1530، وأحد المواد التسعة والثلاثين من مواد الإنجيليين عام 1571، واعتراف وستمنستر عام 1648، وبهذه الطريقة أصبح المصطلح جزءا من جميع الهياكل المذهبية الكبرى للكنيسة الغربية.

ومنذ 11 سبتمبر 2001 وقد أعاد رجال الدين والمنظرون السياسيون والفلاسفة الاجتماعيون إحياء النقاش حول نظرية الحرب العادلة، كما برزت كجزء من التقييم النقدي للحروب الأمريكية في أفغانستان والعراق والتي بدأت في أكتوبر 2001 -وهي حروب استخدمت فيها ذرائع ومسوغات بل وأكاذيب- وما زالت مستمرة، تحت عنوان: "الحرب على الإرهاب"، والتي حشد لها الكثير من القوات العسكرية، وشهدت تدخلات المخابرات العسكرية بشكل متزايد.

من بين العديد من الكتب التي صدرت حول نظرية الحرب العادلة في المسيحية كان كتاب «الحرب والسلام والله.. إعادة النظر في الحرب العادلة» لجاري سيمبسون، والذي يتفق تشارلز مع الكثير مما يتضمنه من أفكار، ولكنه يحمل العديد من التساؤلات الخطيرة، سواء عن فرضياته، أو الاستنتاجات التي توصل إليها عن استمرار صلاحية وتطبيق نظريته.

ولم يفت تشارلز تأكيد أن الحروب الصليبية والحروب المقدسة لم تكن تعتبر جزءا من نظرية الحرب العادلة وفقا للعديد من رجال الفكر المسيحي، بل كان الدافع لها حب المغامرة، والأمل في نهب الخيرات، والرغبة في التوسع الإقليمي، والكراهية الدينية تجاه المسلمين، ويتفق تشارلز تماما مع هذه الدوافع، ويرى أنها نفس دوافع الاستعمار الحديث.

جهاد.. لا حرب مقدسة

يعود تشارلز مرة أخرى لمفهوم الجهاد في الإسلام، ويرى أن الجهاد هو عقيدة مركزية لدى المسلمين، وفي السنوات الأخيرة أصبح واحدا من أكثر المصطلحات المتداولة من قبل الإسلاميين الذين يرون الجهاد جنبا إلى جنب مع الشريعة الإسلامية والأمة الإسلامية ثالوثا لا غنى عنه لتجديد العقيدة الإسلامية والمجتمع المسلم، حتى إن البعض ينظر إلى الجهاد على أنه الركن السادس للإسلام، أما في الاتجاه الشيعي فإن الجهاد هو واحد من عشرة أركان أساسية للدين.

ويؤكد تشارلز عدم دقة مصطلح "الحرب المقدسة" في الإسلام؛ حيث يعتبر مصطلح "الجهاد" هو الكلمة الأكثر تميزا للتفرقة بين الإسلام والغرب، ومع ذلك فهذا المعنى الدقيق للكلمة في الواقع عادة ما يترجم بشكل قاطع وغير دقيق لمصطلحات مثل "الحرب المقدسة"، وهذه هي الصورة الشعبية للجهاد التي تسود لدى وسائل الإعلام؛ وهي ما تلبي حاجة الغرب في الدعاية المسيئة للإسلام، بل وربما تلبي حاجة الإسلاميين في الدعاية لأجندتهم الفكرية.

ويفرق علماء المسلمين أيضا بين مفهوم الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر.. مع ذلك يمكننا القول إن مصطلح الجهاد في الإسلام إذا أطلق قصد به الجانب العسكري للإسلام، ومع ذلك فإن الحرب في الإسلام يجب أن تخاض فقط باسم العدالة أو الإسلام؛ لردع المعتدي، أو للدفاع عن النفس، أو لإقامة العدل، وحرية ممارسة الدين.

ويضيف تشارلز أن هناك أربعة معان مختلفة لمفهوم الجهاد الأصغر، كما نزلت في القرآن وكما طبقها المسلمون:

1- المواجهة: حيث أمر النبي بنشر رسالة الله والإسلام سلميا، مع تجنب المواجهة المباشرة مع الكافرين {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}، {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}.

2- المجادلة: فقد دعا الله النبي لمواجهة الكافرين بالجدال الحسن والحجج المقنعة {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

3- المواجهة تحت شروط محددة: حيث منح الله الإذن للنبي وأتباعه بمحاربة أعدائهم إذا تعرضوا للظلم، أو إذا وقع عدوان عليهم {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}.

4- الأمر غير المشروط بقتال جميع الكفار: وذلك حتى يتبعوا دين الإسلام ويقيموا شعائره {فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

ويرى بعض علماء الشريعة المسلمين مثل الزركشي أن هذه المعاني الأربعة للجهاد جاءت على سبيل الترتيب الزمني، أي أنها مراحل لجهاد المشركين بدءا من موقف اللاعنف وانتهاء بالقتال، ولكن مشكلة هذا الرأي أنه لا يوجد اتفاق نهائي بين العلماء على ترتيب نزول هذه الآيات وأي هذه الآيات نسخ غيره.

ويفسر بعض العلماء مفهوم الجهاد الأكبر على أنه جهاد النفس لتخليصها من الشوائب والأثرة والأنانية؛ وذلك كخطوة أساسية تسبق السعي لإقامة العدل في الأرض، ويقسم العلماء الجهاد في سبيل الله إلى خمس فئات: الجهاد القلبي، والجهاد باللسان، والجهاد بالعلم، والجهاد باليد، والجهاد بالسيف، وكل هذه الفئات معا تشكل المفهوم الشامل للجهاد في العالم الإسلامي.

آيات السيف

مع ذلك تظل آيات السيف -خاصة الآية الخامسة والآية السادسة والثلاثين من سورة التوبة- هي الانطلاقة الأساسية لمنظري الجهاد، ويرى محمد أسد (1900-1992) أن الحرب للدفاع عن النفس فقط هي التي تعد حربا في سبيل الله، وأن هذا المعنى يمتد عبر آيات القرآن جميعها بما فيها آيات السيف؛ فالآية الخامسة من سورة التوبة ينبغي قراءتها في سياق الآيتين السابقتين لها، واللتين تتعلقان بمحاربة المشركين الذين أخلوا بالعهد لا المشركين كافة؛ بدليل استثناء المشركين الذين لم ينقضوا العهد من القتال في الآية الرابعة من سورة التوبة {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.

ويستنتج تشارلز في ختام دراسته أن مفهوم الجهاد في سبيل الله يعود في أصوله للنشأة المبكرة للإسلام، وأنه أحد أصول الإسلام وقواعده الفقهية، ولكنه تعرض لخلط وتشويه من قبل الغرب والمسلمين على حد سواء، أما مفهوم الحرب المقدسة فقد نشأ متأخرا في المذهب المسيحي لتبرير الحروب الدينية التي خاضتها الكنيسة، وليس له جذور في الدين المسيحي، ولا في النصوص المقدسة، ومع ذلك تعرض كلا المفهومين للخلط والتشويه، وهناك حاجة ماسة لإزالة اللبس والفصل بينهما.



Read more: http://mdarik.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1262372271028&pagename=Zone-Arabic-MDarik%2FMDALayout#ixzz0dR6NsGvw

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق