السبت، 23 فبراير 2008

عبد الحليم محمود .. رائد التصوف الإسلامي في العصر الحديث


أمل خيري

يعد الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر السابق علما من أعلام الفكر والتصوف الإسلامي في العصر الحديث، فقد تميز بجرأته في الحق وكان له الفضل في استعادة الأزهر الشريف لدوره الريادي، وكان أول من طالب بالعودة لتطبيق الشريعة، وأثرى المكتبة الإسلامية بالعديد من الكتب والمؤلفات التي تعد كنزا للباحثين والمفكرين عبر العصور.

النشأة والتكوين

ولد عبد الحليم محمود في عزبة أبو أحمد بمركز بلبيس محافظة الشرقية في 2 من جمادى الأولى 1328هـ/12 من مايو 1910م، لأب عالم جليل ينتهي نسبه إلى الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما، وقد اشتهر والده بكونه صاحب دين وخلق وعلم وكان ذا همة عالية يعطف على الفقراء والمحتاجين ويتصف بالرأي السديد، وقد درس في الأزهر فترة طويلة من الزمن وتتلمذ على يد كبار شيوخه مثل الشيخ محمد عبده، وكان لهذه النشأة أطيب الأثر في اهتمامه بولده عبد الحليم حيث دفعه إلى الكتاب ليحفظ القرآن فأتم ختمه وهو في الثالثة عشرة من عمره، فأقام والده حفلا ابتهاجا بهذه المناسبة السعيدة.

وفي عام 1341هـ/1923م انتقل إلى المدرسة الأولية فغادر بلدته متجها إلى القاهرة بمرافقة والده ليلتحق بالأزهر، فبدأ الدراسة بمسجد إبراهيم أغا، وفي منتصف العام نفسه زاره والده وعرض عليه الزواج بإحدى قريباته فأوكل الأمر إليه فتم عقد قرانه وهو في هذه السن المبكرة وأتم زفافه فور نجاحه في السنة الأولى.

وانتقل في العام التالي للدراسة بمسجد المؤيد، وقد شهد في هذا العام موقفين كان لهما أشد التأثير فيه، حيث شهد استقبال سعد زغلول وهو عائد من منفاه وقد خرج الأزهر بخطبائه وشعرائه لاستقباله، وقد أذكى هذا المشهد فيه روح الوطنية. أما الموقف الآخر فكان إضراب الأزهريين وقيام الشيخ محمد الأودن بإلقاء خطبة عصماء أرضت شعور الأزهريين.

وفي عامه الثالث انتقل عبد الحليم من المسجد إلى معهد الزقازيق الديني حيث التحق به في أول يوم لافتتاحه وتتلمذ فيه على الشيخ إبراهيم الجبالي وكان عالما أديبا كاتبا متحدثا لبقا تأثر به عبد الحليم تأثرا عميقا.

الطالب النجيب

وأثناء دراسته بالمعهد بدأ عبد الحليم محمود اتصاله بالصحافة وكانت أول صحيفة يقرأها صحيفة الأخبار التي كان يصدرها أمين الرافعي والتي تميزت بمعارضتها البناءة حيث كانت الصحيفة سوطا مسلطا على كل منحرف، وهي تصرح بالنقد الجريء للأفراد والحكومات، كما تميزت باحترام الدين والعمل على نشر الوعي الديني حيث كانت الصحيفة مفتوحة لأقلام علماء الدين ومن بينهم الشيخ محمد شاكر الذي أعجب عبد الحليم محمود بفكره ومقالاته.

وقد دفعت الظروف عبد الحليم للجد والاجتهاد في الدراسة بصورة غير عادية فتقدم لعدد من المسابقات التي مكنته من الحصول على معلومات في مختلف العلوم والفنون فاق بها نظائره من الطلاب؛ مما دفعه حينما انتقل للسنة الأولى من القسم الثانوي أن فصل نفسه من الأزهر حتى يعود في نهاية العام ويتقدم مباشرة لامتحان الشهادة الثانوية الأزهرية من الخارج، وكانت نظم الأزهر تسمح بذلك في هذا الوقت، حيث رأى أن ما لديه من علوم ومعرفة يتخطى حدود المقررات الثانوية، فاعتكف في منزله ليواصل الليل بالنهار في المذاكرة وقد أسفرت النتيجة عن رسوب جميع المتقدمين ما عدا عبد الحليم حيث نجح في جميع المواد إلا مادة النحو والصرف فتقدم للامتحان فيها بالدور الثاني وحصل على الشهادة الثانوية عام 1347هـ/1928م.

شيوخه وأساتذته

عاد عبد الحليم محمود من جديد إلى القاهرة ليستكمل دراسته بالقسم العالي بالأزهر وكان من بين شيوخه الذين تتلمذ عليهم وتأثر بهم كثيرا الشيخ محمود شلتوت والشيخ حامد حسن والشيخ سليمان نوار والدكتور محمد عبد الله دراز والشيخ محمد عبد اللطيف دراز والشيخ الزنكلوني الذي تميز بجرأته النادرة، كما تتلمذ على الإمام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي وتأثر به في بلاغته وفصاحته، والإمام الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق.

وفي هذه الأثناء لم يكن الإمام عبد الحليم محمود يتخلف عن محاضرات الدكتور أحمد محمد الغمراوي بجمعية الشبان المسلمين، كما كان يتردد أيضا على جمعية الهداية الإسلامية التي كان يرأسها الإمام الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين.

كما تعرف عبد الحليم محمود على الأستاذ محمد فريد وجدي الذي كان يتصدى لنزعات الإلحاد والمادية خاصة، وقد انتشرت في تلك الفترة روايات جورجي زيدان التي تتناول التاريخ الإسلامي بقصد تشويه الصورة والإساءة إلى الجو الإسلامي.

في فرنسا

وفي عام 1351هـ/1932م حصل عبد الحليم محمود على العالمية، وبدلا من اتجاهه للتدريس بالأزهر سافر إلى فرنسا على نفقته الخاصة في البداية لمدة عام وفي العام التالي ألحق بالبعثة الأزهرية حيث درس علم النفس والاجتماع وتاريخ الأديان في جامعة السوربون، وكان يدرسها أساتذة يهود فشعر أن هذه النوعية من الدراسة تعمل على هدم القيم الثابتة التي يقررها الدين والأخلاق فبدأ يضيق بكل ما يجري في هذه الدراسات، ولكن الله حفظه وأعانته المبادئ التي تعلمها في الأزهر على الثبات في مواجهة الإلحاد والمادية.

ثم نال الدكتوراة في التصوف الإسلامي عن "الحارث بن أسد المحاسبي" وحصل فيها على درجة الشرف الأولى "الامتياز" وتمت المناقشة يوم 3 جمادى الآخرة 1359هـ/8 من يونيو 1940م وقد طبعت الرسالة في باريس بالفرنسية.

مناصب ومهام

وبعد عودته للقاهرة قام بالتدريس في الأزهر حيث أصبح مدرسا لعلم النفس بكلية اللغة العربية ثم أستاذا للفلسفة بكلية أصول الدين وما لبث أن أصبح عميدا للكلية عام 1384هـ/1964م.

وقد تدرج عبد الحليم محمود في مناصبه حيث اختير عضوا لمجمع البحوث الإسلامية ثم أمينا عاما له عام 1388هـ/1968م، كما رأس لجنة التعريف بالإسلام في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

واختير وكيلا للأزهر عام 1390هـ/1970م ثم وزيرا للأوقاف عام 1391هـ/1971م وما لبث أن صدر قرار تعيينه شيخا للأزهر في 23 صفر 1393هـ/27 من مارس عام 1973م وظل في مشيخة الأزهر حتى وفاته عام 1398هـ/1978م.

كما عمل الإمام كأستاذ زائر في عدد من الجامعات العربية والإسلامية في ليبيا والسودان وماليزيا والفلبين وإندونيسيا.

وانتدبته العراق لتنظيم وزارة الأوقاف والمساجد وقسم الوعظ والإرشاد بها وأوكلت إليه مهمة تخطيط المنهج الديني لجميع مراحل التعليم في العراق.

وقد مثل الأزهر في مهرجان الإمام الغزالي بدمشق كما كان عضوا بلجنة جائزة الملك فيصل العالمية.

وشارك الإمام عبد الحليم محمود في العديد من المؤتمرات الفلسفية والعلمية ببحوثه وجهوده وخبراته، وله محاضرات وأحاديث في التليفزيون والإذاعة المصرية وفي معهدي الدراسات الإسلامية والعربية.

رجل المواقف

وفي عهده عادت النهضة للأزهر الشريف واستعاد دوره التاريخي؛ فأنشأ العديد من المعاهد الأزهرية والمساجد والجمعيات، وفتح باب الأزهر على مصراعيه لطلاب العلم من شتى أنحاء العالم فعاد للأزهر دوره الريادي كمنارة للتربية والتعليم في العالم الإسلامي، كما أنشأ بالأزهر إدارة القرآن الكريم وسعى لدعمها ونشرها في جميع أنحاء مصر والعالم الإسلامي.

كما تزعم الأزهر في عهده الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وكتب عشرات المقالات ليعلن أن مصر لم تعرف الأحكام المدنية إلا بعد الاحتلال الانجليزي ومنذ ذلك الوقت تعطلت الشريعة وانحصرت تطبيقاتها في مسائل الأحوال الشخصية، ولذلك يجب العودة لتطبيق الشريعة في جميع الأحكام والمواد الجنائية والمدنية والدستورية والدولية.

وخرجت الدراسات والأبحاث الممهدة لمشروع الدستور الإسلامي فسارع بتأليف لجنة علمية لصياغة قوانين الشريعة في مواد محددة ليسهل من مهمة التطبيق، وراجع ما كتبه من المواد ونشره في الصحف ولم يكتف بذلك بل اتصل بأعضاء مجلس الشعب فردا فردا ليجمع تكتلا إسلاميا ينادي بتطبيق الشريعة.

وكان للإمام مبادئه الثابتة ومواقفه الواضحة التي لا يهادن فيها أحدا، فقد سارع بتقديم استقالته من مشيخة الأزهر اعتراضا على عدم اتخاذ خطوات إيجابية نحو تطبيق الشريعة، وخاصة حين صدر قرار من رئيس الجمهورية ينتقص من دور شيخ الأزهر ويسند الكثير من مهامه لوزير الأوقاف. ورغم الكثير من المحاولات لإثنائه عن استقالته فقد أصر عليها حتى تدخل الرئيس السادات وأعاد لشيخ الأزهر مهامه وجعل درجته بدرجة رئيس وزراء، ووعد بتطبيق الشريعة فعهد لصوفي أبو طالب رئيس مجلس الشعب وقتها بدراسة مسألة تطبيق الشريعة.

كما عارض كثيرا من قوانين الأحوال الشخصية التي أصدرتها جيهان السادات واتهم من أصدرها ووافق عليها بالزور والبهتان.

كما رفض الاقتراح الخاص بإعداد كتب مشتركة بين الإسلام والمسيحية، وأصدر نداء يحذر فيه من خطورة كتابة اللغة العربية بأحرف لاتينية.

مؤلفاته

اتسم الإمام الأكبر بغزارة إنتاجه الفكري الذي يربو على مائة كتاب تأليفا وتحقيقا وترجمة، وكان أول ما نشر له قصة ترجمها عن الفرنسية من تأليف أندريه موروا عام 1365هـ/1946م، ثم تتابعت مؤلفاته الغزيرة في كثير من المجالات خاصة في مجال التصوف الذي يعد من أسبق رواده في العصر الحديث، فقد تبدى مثالا للصوفية المقيدة بكتاب الله البعيدة عن الإفراط والتفريط حتى لقب بغزالي مصر وأبي المتصوفين فكانت كتاباته الصوفية لها الحظ الأوفر من مؤلفاته، فكتب "قضية التصوف: المنقذ من الضلال" والذي عرض فيه لنشأة التصوف وعلاقته بالمعرفة وبالشريعة وتعرض بالشرح والتحليل لمنهج الإمام الغزالي في التصوف، كما ترجم لعشرات الأعلام الصوفيين مثل سفيان الثوري وأبي الحسن الشاذلي وأبي مدين الغوث وغيرهم الكثير.

كما كتب في الفلسفة الإسلامية، ويعد كتابه "التفكير الفلسفي في الإسلام" من أهم المراجع التي تتناول علم الفلسفة بمنظور إسلامي حيث يؤرخ فيه للفكر الفلسفي في الإسلام ويستعرض التيارات المذهبية المتعددة فيه ليبين أصالة الفلسفة الإسلامية وسبقها الفلسفة الغربية في كثير من طرق التفكير، كما تعرض للغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام في عدة كتب مثل "الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام" و" فتاوى عن الشيوعية".

كما ظهر اهتمامه بالسنة النبوية فكتب العديد من الكتب عن الرسول وسنته، ويعد كتابه "السنة في مكانتها وتاريخها" من أهم كتبه في هذا المجال، كما كتب عن "دلائل النبوة ومعجزات الرسول".

واستعرض الإمام سيرته الذاتية في كتابه "الحمد لله هذه حياتي" والذي جاء خلاصة لأفكاره ومنهجه في الإصلاح أكثر منه استعراضا لمسيرة حياته، وعبر عن منهجه التفصيلي في الإصلاح في كتابه القيم "منهج الإصلاح الإسلامي في المجتمع".

كما قام بتحقيق الكثير من أمهات الكتب مثل "لطائف المنن" لابن عطاء الله السكندري و"اللمع" لأبي نصر السراج الطوسي، و"المنقذ من الضلال" لحجة الإسلام الغزالي وغيرها.

وترجم العديد من الكتب في الفلسفة اليونانية والأخلاق مثل "الفلسفة اليونانية أصولها وتطورها "لألبير ريفو، و"الأخلاق في الفلسفة الحديثة " لأندريه كريسون.

وبعد عودته من رحلة الحج توفي عبد الحليم محمود في 16 ذو القعدة 1398هـ/17 من أكتوبر 1978م فور إجراء عملية جراحية بالقاهرة، وتلقت الأمة الإسلامية نبأ وفاته بالأسى وصلى عليه ألوف المسلمين الذين احتشدوا بالجامع الأزهر ليشيعوه إلى مثواه الأخير تاركا تراثا فكريا ذاخرا ما زال يعاد نشره وطباعته.

المراجع

1. محيي الدين الطعمي. النور الأبهر في طبقات شيوخ الجامع الأزهر، بيروت: دار الجيل، 1412هـ/1992م.

2. محمد خير رمضان يوسف. تتمة الأعلام للزركلي، بيروت: دار ابن حزم، 1422هـ/2002م.

3. أحمد العلاونة. ذيل الأعلام، جدة: دار المنارة، 1418هـ/1998م.

4. عبد الحليم محمود. الحمد لله هذه حياتي، القاهرة: دار المعارف، 1421هـ/2001م.

5. عبد الحي الفرماوي. الإمام عبد الحليم محمود شيخ الإسلام، اللواء الإسلامي العدد 1270، الخميس 27 من ربيع الآخر 1427هـ، 25 من مايو 2006م.

6. الموقع الإلكتروني للإمام الأكبر عبد الحليم محمود: http://www.abdel-halim.org
http://www.biblioislam.net/ar/Scholar/Card.aspx?ID=29&UICollectionID=19

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق