يعد شيخ الإسلام مصطفى صبري أحد أعلام الفكر الإسلامي المعاصر الذين قاوموا التبعية الفكرية للغرب وثقافته، وتصدى لتيارات التحلل والكفر والإلحاد مسخرا قلمه وفكره لفضح مؤامرات الكماليين للنيل من الخلافة الإسلامية في الدولة العثمانية قبل أفولها، مضحيا في سبيل ذلك بكل ما يملك.
النشأة والتكوين
ولد مصطفى صبري ببلدة توقاد بالأناضول لأسرة عريقة في النسب التركي يوم 12 من ربيع الأول 1286هـ، وقد نشأ وتربى في بيت علم وفضل فحفظ القرآن الكريم كاملا ولما يتجاوز العاشرة من عمره وكان والده يشجعه على طلب العلم حتى أنه كان يجمع علماء بلدته في بيته ويطلب منهم أن يناقشوا ولده فيما تعلمه في المدرسة.
وفي هذه البيئة الخصبة ظهرت أمارات النبوغ على مصطفى فدرس علوم القرآن والسنة والقراءات والتفسير والفقه وأصوله على أيدي كبار العلماء والفقهاء، واستفاد كثيرا من تلمذته على يد الشيخ "أحمد أفندي زولبيه زاده" فحصل على الابتدائية من بلدته، ثم انتقل إلى قيصرية بالأناضول، فدرس العلوم الشرعية على يد الشيخ "محمد أمين الدوريكي"، وبعد انتقاله للآستانة أتم دراسته المترتبة لعلوم الشريعة على يد الشيخ "أحمد عاصم الكوملجنوي" وكيل الدرس في المشيخة الإسلامية، وفي هذه الأثناء أظهر مصطفى صبري تفوقا على أقرانه وجذب انتباه مشايخه لنبوغه وسعة أفقه وقوة حافظته، حتى أن أستاذه الكوملجنوي قد زوجه ابنته بعد ما أجازه لشدة إعجابه به.
وقد تعددت مصادر التكوين الفكري لمصطفى صبري والتي من أهمها أسرته وشيوخه في صباه، إضافة إلى البيئة الدينية التي نشأ فيها، فالشعب التركي متدين بطبعه. وقد ساعدته نشأته في هذه البيئة المحافظة التي انتشرت فيها الكتاتيب ومعاهد العلم على ثراء روافده الفكرية، كما كان ولعه بالاطلاع والقراءة رافدا آخر لثقافته حيث كان لا ينفك عن ارتياد مكتبات الآستانة ليقرأ في جميع المجالات الفكرية، كما أن أسفاره وتنقلاته بين بلاد المشرق والمغرب التي اضطر إليها بسبب جهاده السياسي - الذي جعله مطلوبا للقتل في بلاده - قد ساهمت في إثراء فكره.
استأنف مصطفى صبري مسيرته العلمية بالآستانة حين تقدم لامتحان التخرج المسمى (رؤوس) للأستاذية عام 1307هـ/ 1890م واجتازه ونال شهادة العالمية بدرجة متفوق جدا، فأصبح مدرسا عاما في جامع السلطان محمد الفاتح، الذي كان له وقتها أرفع مكانة في الدولة العثمانية، وصارت له حلقة علم وهو لم يتجاوز الثانية والعشرين، وظل مدرسا لسنوات طويلة أجاز خلالها خمسين طالبا.
ثم انتقل للإمامة والتدريس بجامع الآثارية في بشكطاش، فمدرسا للتفسير في مدرسة الواعظين ثم بكلية الإلهيات بجامعة الآستانة، ونقل بعدها للتدريس في مدرسة المتخصصين حيث درس فيها صحيح مسلم. وفي عام 1336هـ/ 1918م عين مدرسا للحديث الشريف بالمدرسة السليمانية.
في قصر السلطان
اشتهر مصطفى صبري منذ صباه الباكر بقوة الحجة والجرأة في المواجهة، فكان خطيبا مفوها حتى أنه اختير عضوا من خطباء الدروس في حضرة السلطان عبد الحميد الثاني، وكان أصغر الأعضاء، وقد أثار انتباه السلطان عبد الحميد بحدة ذكائه وقوة حافظته ومجاراته كبار العلماء؛ ما حدا به إلى إصداره قرارا بتعيينه قيما عاما لمكتبته الخاصة الضخمة، كما منحه وساما عثمانيا ومجيديا من الدرجة الرابعة.
واستمر تقدير السلطان عبد الحميد لمصطفى صبري فعينه في منصب مدير القلم الخاص للسلطان ومنحه ميدالية اللياقة الذهبية ووساما عثمانيا آخر من الدرجة الرابعة.
وحينما اجتمع علماء الآستانة منتصف رجب 1326هـ/ 12-8-1908م لتأسيس "الجمعية العلمية الإسلامية" بهدف التوسع في إنشاء المدارس الدينية وإحيائها في الدولة العثمانية انتخب صبري رئيسا لمجلس إدارة الجمعية بعد حصوله على 112 صوتا من إجمالي 113 عضوا أي على أصوات كل العلماء فيما عدا صوته هو.
وقد أصدرت هذه الجمعية مجلة علمية إسلامية باللغة التركية سميت "بيان الحق" ورأس صبري تحريرها لسنوات طويلة. كما اختير عضوا من أعضاء "دار الحكمة الإسلامية" وهي مؤسسة علمية إسلامية تابعة للمشيخة الإسلامية.
وظل صبري يترقى في مناصبه حتى وصل لأعلى منصب في درجات السلم العلمي الديني في الدولة العثمانية، وهو منصب شيخ الإسلام في عهد السلطان "وحيد الدين"، الذي ساهم فيه بدور علمي ديني وأيضا سياسي، حيث مكنه هذا المنصب من الإحاطة بالملابسات السياسية التي تحيط بالخلافة الإسلامية فبدأ بالكشف عن خطط القوى والمنظمات المعادية للإسلام وساهم في توجيه سياسة الدولة والمناداة بتحكيم شرع الله.
ومع تواصل نشاط مصطفى السياسي اختير عضوا في مجلس النواب العثماني عن بلدته "توقاد" واستطاع في المجلس أن يكشف لأول مرة عن المؤامرات الصهيونية التي دبرت للقضاء على الدولة العثمانية.
كما شارك في تأسيس حزب الحرية والائتلاف في مواجهة حزب الاتحاد والترقي الذي كان يهدف للقضاء على الخلافة الإسلامية، وصدر بعدها قرار بتعيينه عضوا مدى الحياة في مجلس الأعيان العثماني ورئيسا لمجلس شورى الدولة.
وأثناء مؤتمر الصلح بباريس تولى صبري منصب الصدارة العظمى بالنيابة بدلا من الداماد فريد باشا الذي سافر لحضور المؤتمر.
شاهد على المأساة
شهد مصطفى صبري الاضطرابات التي مرت بها الدولة العثمانية أواخر عهدها فنهض وشمر عن ساعد الجد ليقاوم ويناضل لإحياء الأمة حيث تنبه لخطورة سقوط الخلافة على الأمة الإسلامية كلها وليس على الدولة التركية فحسب فجد في مقاومة الاتحاديين والكماليين وزادت مقاومته بعد إسقاط الخلافة نهائيا وكشف عن تواطؤ الكماليين مع الإنجليز وعارض كل إجراءاتهم العلمانية كإلغاء المحاكم الشرعية والمعاهد الدينية ونبذ الحروف العربية، وكان لهذه المقاومة الأثر في جعله مطلوبا للقتل من قبل الكماليين فاضطر للخروج وأسرته من تركيا بحرا متجها إلى مصر التي لم تحسن وفادته حيث قامت القنصليات التركية بمشاركة اليهود والإنجليز بمضايقته وإثارة الشعب المصري ضده، وشنت الصحف هجوما عليه تتهمه فيها بالخيانة وبيع الوطن للإنجليز، حيث كان المصريون وقتها مخدوعين بالانقلاب الكمالي حتى أن الشاعر أحمد شوقي كتب شعرا يمتدح به أتاتورك فرد عليه صبري بخطاب انتقادي نشره في جريدة المقطم؛ ما أثار عليه حفيظة المصريين من محبي أمير الشعراء، فاضطر للخروج من مصر متجها لبلاد الحجاز بدعوة من الشريف حسين وكانت صحة أسرته قد تأثرت بجو البلاد، فظل يتنقل حتى استقر في النهاية في تراقيه الغربية اليونانية في مدينة كلمنجة (Gomalcine) ذات الأقلية التركية المسلمة، وظل فيها خمس سنوات أصدر فيها جريدة "يارين" وتعني: الغد؛ تفاؤلا بغد إسلامي مشرق. وبدأ في نقد النظام الكمالي وحركة التغريب، وأخذ يحلل مصائب العالم الإسلامي، ووزعت الجريدة في أنحاء العالم الإسلامي حتى أنها دخلت تركيا سرا.
ثم ما لبثت الجريدة أن توقفت عن الصدور وأخرج صبري من اليونان بتحريض من الكماليين، فعاد مرة أخرى لمصر عام 1350هـ/ 1932م، وفي هذه المرة لاقى الترحيب من المصريين بعد أن انكشفت لهم الحقائق المتعلقة بأتاتورك وتكشف لهم إخلاص الرجل وصدق حدسه، فأصبح صبري مرجعا لاستشارة كثير من كبار العلماء والمفكرين والمثقفين، كما اجتازته وزارة الأوقاف المصرية ليكون عضوا في لجنة النهوض بالمساجد.
مشروعه الفكري
وتعد فترة إقامته الأخرى في مصر من أخصب مراحل مسيرته الفكرية، حيث اعتزل العمل السياسي وتفرغ للجهاد العلمي فكتب العديد من المقالات في الأهرام والمقطم والأخبار ومنبر الشرق والهداية الإسلامية والفتح والجامعة الزيتونية، وأخذ على عاتقه صد هجمات عنيفة كانت موجهة ضد الإسلام وعقائده الغيبية وصد هجمات المحرفين للإسلام باسم التحديث والعصرية، كما تميز بعنفه وشدته مع خصومه المتأثرين بالفكر الغربي ومجاهرته بالنقد لهم.
وساهم في نقاش العلماء والأدباء العصريين الذين يقدمون العلم المادي على الكتاب والسنة، والمولعين بتقليد الغرب وإنكار الأمور الغيبية، ونادى بتطبيق الشريعة، وفصل القول في مضار العلمانية.
كما عارض ترجمة القرآن الكريم ونبه على ما يترتب عليها من أخطار كثيرة وعارض الاتجاه الداعي لفتح باب الاجتهاد في الفقه على مصراعيه وناقش قضية العقل بين الدين والعلم، كما تناول مسألة الخلافة وفصل الدين عن الدولة وانتقد ادعاءات علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم".
ويعد موضوع الخلافة المشروع الفكري الأول لمصطفى صبري الذي تصدى له فانبرى في الدفاع عن نظام الخلافة وتوضيح الوبال الذي حاق بالمسلمين جراء إلغائها.
وواجه صبري فتنة سفور المرأة والمناداة بتحريرها ومساواتها مع الرجل، فوضح موقف الإسلام من المرأة وحقوقها وواجباتها مناديا المرأة بالتمسك بالحجاب، ورد على ادعاءات قاسم أمين وفند مزاعمه، وذلك في كتابه "قولي في المرأة".
وكشأن سائر علماء تركيا كان صبري ماتريديا في مسألة أفعال العباد قبل انتقاله لمصر، لكنه حين عكف على دراسة هذه المسألة تبين له رجحان مذهب الأشاعرة فتحول عن الماتريدية وآلى على نفسه بيان حقيقة المسألة في كتابه "موقف البشر تحت سلطان القدر".
ويعد مصطفى صبري مدرسة فكرية قائمة بذاتها يغلب على مؤلفاته الطابع العلمي والبحث العميق، وبلغت مؤلفاته 17 كتابا منها المطبوع والمخطوط ومنها ما كتبه باللغة التركية وما كتبه باللغة العربية، وقد استلهم كتبه من الأحداث السياسية والاجتماعية والفكرية التي عايشها، واتسم بالتحليل المنطقي للأفكار والقضايا وغلبة الطابع النقدي التحليلي حتى أن كتبه تعد في نفسها سجلا حافلا بالحياة الفكرية المعاصرة.
ومن أشهر كتبه باللغة التركية: "المجددون الدينيون" و"الإمامة الكبرى" الذي ضمن فيه أفكاره عن الخلافة الإسلامية وكشف عن خفايا مجهولة عن الحالة العامة أواخر الدولة العثمانية. ويعد كتابه "النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة" هو النسخة العربية لهذا الكتاب.
أما آخر ما كتبه أثناء شيخوخته فهو كتابه "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين" والذي يعد موسوعة في علم أصول الدين ضمنه خلاصة آرائه الفقهية والفلسفية والسياسية والاجتماعية، وكشف فيه عن الأخطار التي تحيط بالمشرق الإسلامي جراء موجات الإلحاد والغزو الفكري، وهدم فيه أساس مذهب وحدة الوجود.
إلا أنه يؤخذ على مصطفى صبري انحيازه لمذهب الأشاعرة ودفاعه الحار عن علم الكلام الذي تأثر به في دراسته، وإسرافه في تقديم العقل والمنطق ومبالغته في الدفاع عنهما، إضافة إلى عدم اهتمامه بالتبويب والتقسيم في الكتابة والتأليف. إلا أنه مع ذلك يظل من أهم أعلام الفكر الإسلامي.
وفاته
انتقل صبري أواخر أيامه للإسكندرية وهناك أصيب بالتهاب حاد في المسالك البولية وأجريت له عملية جراحية عانى بعدها من الآلام فعاد للقاهرة وأدخل المستشفى وساءت حالته الصحية وتوفي صبيحة الجمعة 7 من رجب 1373هـ/ 12-3-1954م عن عمر يناهز 86 عاما، عامر بالكفاح والجهاد بالقلم واللسان. وشيعت جنازته صباح اليوم التالي وحضرها كبار علماء الأزهر ودفن بالدراسة.
وكان لوفاته صدى كبير إذ فقد به العالم الإسلامي رمزا من رموز الخلافة الإسلامية وآخر مشايخ الدولة العثمانية.
المصادر:
1. خير الدين الزركلي: الأعلام، بيروت، دار العلم للملايين، 1986م، الجزء السابع.
2. عبدالله الطنطاوي: الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، مجلة المنار، العدد 79، صفر 1425هـ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق