الثلاثاء، 14 مارس 2006

البنا بين الوطنية و حب الأوطان

كتبت أمل خيري

تعددت الدعوات و المذاهب الفكرية في عهد الإمام حسن البنا ، فمن دعوة إلى الوطنية إلى القومية إلى العلمانية إلى غيرها من الدعوات المتباينة التي فرقت القلوب و شتت العقول و الأفكار.
و ما كان البنا ليترك هذه الدعوات و القضايا الأساسية دون أن يبين فيها ما يشفي الصدور من توضيح لفكرتها و وزنها بميزان الإسلام و الفكر الذي قامت عليه دعوة الإخوان المسلمين و بيان موقف الجماعة منها.
الإمام البنا في مظاهرة في الأزهر

و قد أوضح البنا ذلك في رسالته (دعوتنا) حيث قال: ( و موقفنا من الدعوات المختلفة التي طغت في هذا العصر ففرقت القلوب و بلبلت الأفكار أن نزنها بميزان دعوتنا فما وافقها فمرحبا به و ما خالفها فنحن براء منه و نحن مؤمنون بأن دعوتنا عامة محيطة لا تغادر جزءا صالحا من أية دعوة إلا ألمت به و أشارت إليه).
و من بين هذه الدعوات التي افتتن الناس بها دعوة (الوطنية) فبدأ البنا يوجه التساؤلات لدعاة الوطنية عن مقاصدهم فأبلغ في ايجاز معاني الوطنية ثم أوضح موقف الإخوان من هذه الوطنية ثم بين مواطن الخلاف الرئيسية بين مفهوم الوطنية لدى الإخوان المسلمين و بين مفهومها لدى دعاتها أو قل أدعياءها .
و في السطور القادمة نحاول إلقاء الضوء على هذا المفهوم كما يراه البنا و كما طبقه الإخوان على أنفسهم فصاروا مثلا يحتذى في الوطنية بمعناها الأوسع و الأشمل.
أولا : الوطنية كما يراها دعاتها:
يؤكد البنا أن دعوة الوطنية قد ظهرت بين الشعوب العربية كرد فعل للظلم الذي تعرضت له من قبل القوى الغربية من احتلال وسيطرة على مقاليد الأمور ، و تمثلت هذه الوطنية في خطب الزعماء و مقالات الكتاب حيث انبرت الأقلام و الألسن في ثورة حماسية تلهب مشاعر المواطنين .
ثانيا : معاني الوطنية كما يراها البنا:
يرى البنا أن الوطنية بمعناها الشامل تتسع لتشمل أكثر من معنى فهي:
· وطنية الحنين :
حيث يوجه البنا حديثه لدعاة الوطنية بأنهم إن كانوا يقصدون بالوطنية مشاعر الحب للأوطان فهذا أمر محمود و لا غبار عليه بل إن الاسلام أمر به و يدلل على ذلك بأن بلالا رضي الله عنه هتف و هو بالمدينة بأسمى آيات الحب و الحنين لوطنه مكة و لم ينكر الرسول صلى الله عليه و سلم ذلك فكان ينشد :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذ خر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل

بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع وصف مكة من أصيل فجرى دمعه حنينا إليها وقال ( يا أصيل دع القلوب تقر)
· وطنية الحرية و العزة:
و معناها بذل الجهد في تحرير الوطن من المغتصبين و السعي إلى استقلاله و تنمية حب الوطن و العزة و الحرية في نفوس أبنائه و هذا المعنى أيضا لا يتعارض مع مبادئ الإسلام التي تؤكد على عزة المسلمين و كرامتهم انطلاقا من قوله تعالى ( و لله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون )
· وطنية المجتمع:
أي تقوية الرابطة بين أفراد القطر الواحد و هذه أيضا من مبادئ الإسلام فقد أمر الرسول المسلمين في حديثه بذلك فقال ( وكونوا عباد الله إخوانا )
· وطنية الفتح:
أي فتح البلاد و سيادة الأرض وهذا في الإسلام من أعظم الفتح و أكثره بركة (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ)
و كل هذه المعاني السابقة تؤكد أن الإسلام يتفق تماما مع الوطنية بما يمكن معه القول أن الوطنية لم تخرج عن أنها جزء من تعاليم الإسلام.
· الوطنية الزائفة:
ثمة نوع آخر من الوطنية وهو ما أشار إليه بالوطنية الحزبية و هذا النوع مذموم لأنه يعتمد على تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر وتتبادل التهم و المكائد وفق الأهواء و المصالح الشخصية .
ثالثا :بين البنا و دعاة الوطنية:
يرتكز الخلاف الأساسي بين البنا و دعاة الوطنية في أمرين أساسيين :
1. حدود الوطنية : حيث أن الوطنية لدى البنا لا تعترف بالحدود الجغرافية بل تستند إلى العقيدة باعتبار أن كل بقعة من بقاع الإسلام بمثابة وطن للمسلمين عليهم تقديسه و حبه و الجهاد في سبيله و باعتبار أن كل المسلمين أخوة في هذا الدين و من ثمرات هذه الأخوة اتساع مفهوم الوطنية ليشمل مبادئ سامية ، بينما يرى دعاة الوطنية أن حدود الوطنية تقف عند الحدود الجغرافية فلا مانع من أن تقوى دولة ولو على حساب دولة مسلمة أخرى.
2. غاية الوطنية: حيث أن غاية دعاة الوطنية هي تحرير بلادهم من المستعمر ثم تقوية الدولة ماديا، بينما غاية الوطنية عند البنا هداية البشر بنور الله و هو يجعلها أمانة في عنق المسلم يضحي من أجلها دون أن ينتظر عرضا من مال أو جاه أو سلطان و بالتالي يكون المسلم أعمق الناس وطنية لأن الذي فرض عليه ذلك هو رب العالمين.
رابعا : مراتب الوطنية في فكر البنا:
يكثر البنا في رسائله من كلمة الوطن و هو يعني به وطن الإسلام بمفهومه الشامل و العام حيث يرى أن هذا الوطن في عرف الإسلام يتدرج على مراحل :
1 - القطر الخاص أولاً.
2 - ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى فكلها للمسلم وطن ودار.
3 - ثم يرقى إلى الإمبراطورية الإسلامية الأولى التي شادها الأسلاف بدمائهم الغالية العزيزة فرفعوا عليها راية الله , ولا تزال آثارهم فيها تنطق بما كان لهم من فضل ومجد , فكل هذه الأقاليم يُسأل المسلم بين يدي الله تبارك وتعالى لماذا لم يعمل على استعادتها.
4 - ثم يسمو وطن المسلم بعد ذلك كله حتى يشمل الدنيا جميعا (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كله للهِ)
و بهذا يوفق الإسلام بين شعور الوطنية الخاصة و العامة بما فيه خير الإنسانية جمعاء.
لذا نجد البنا يلقي باللوم على بعض رجال الدين الذين اتخذوا مسلك الغرب فمالأوا الغاصبين و تجنوا على الوطنيين و ينبه الناس ألا يتخذوا هؤلاء ذريعة لتحويل الأمة عن دينها باسم الوطنية المجردة.
خامسا: دوافع العمل للوطنية عند البنا:
كان الإخوان أشد الناس حرصا على خير وطنهم و تفانيا في خدمته حتى أن شاعرا من شعرائهم قال:
ولست أدرى سوى الإسلام لي وطنا الشام فيها و وادي النيل سيان
وكلما ذكر اسم الله فى بلد عددت أرجاءه من لب أوطاني
و قد دعا البنا الإخوان الالتزام بهذه الوطنية ففي حديثه عن مصر يقول في رسالته ( دعوتنا في طور جديد) :
(إننا نعتز بأننا مخلصون لهذا الوطن الحبيب عاملون له مجاهدون في سبيل خيره ، وسنظل كذلك ما حيينا معتقدين أن هذه هي الحلقة الأولي في سلسلة النهضة المنشودة و أنها جزء من الوطن العربي العام ، وأننا حين نعمل لمصر نعمل للعروبة والشرق والإسلام ).
أما دوافعه لذلك فقد تحددت فيما يلي:
1. نكوص الدول الكبرى بعد انتصارها في الحرب العالمية بالمواثيق و العهود.
2. انصراف الناس عن الهيئات السياسية نتيجة انشغالها بالخصام و التفرق .
3. قوة الشعور الوطني لدى الشباب و المثقفين.
4. رغبة العرب و المسلمين في تنسيق الجهود الوطنية.
و لأن الإخوان قد قضوا سبعة عشر عاما في الاعداد و افهام الناس أن حب الأوطان من الإيمان لذا فقد انحصرت الثقة في الإخوان دون غيرهم مما جعل الوطنية ليست خيارا لهم بل واجبا لإرشاد الناس و بالتالي فإن الجهاد الوطني فرض عين على كل الأفراد و الهيئات.
سادسا : البنا أستاذ الوطنيين:
اتسمت الوطنية في شخصية البنا بملامح خاصة تمثلت في حب الأوطان حيث بدأت بوادر الوطنية لديه إبان ثورة 1919 حين كان تلميذا بالاعدادية لم يتعد ثلاث عشرة سنة حيث كان يرى المظاهرات التي كانت تجوب البلاد و كان كغيره من الطلاب يشترك في هذه المظاهرات و بشعور فياض حتى أنه بعد أن سمع الأحاديث عن لجنة ملنر و اجماع الأمة على مقاطعتها نظم قصيدة طويلة لا يذكر منها إلا بيتين اثنين:
يا ملنر ارجع ثم سل وفدا بباريس أقام
وارجع لقومك قل لهم لا تخدعوهم يالئام
و هو في مذكراته تجده يعبر في مواضع كثيرة عن بلده الحبيب مصر بكلمة الوطن فتتكرر هذه الكلمة بشكل يوحي بشعوره الوطني المتأجج.
كما كان يعتقد أن الخدمة الوطنية جهاد مفروض لا مناص منه لذا كان يقوم بدور وطني بارز بين زملائه.
كما استفزه كما استفز غيره ما كان عليه مكتب ادارة شركة قناة السويس من فخامة مع استخدامه المصريين و معاملتهم كالاتباع المضطهدين و تحدث عن هذه المشاعر في مذكراته و التي كان لها " أثر كبير في تكييف الدعوة و الداعية" على حد قوله.
كما تجده مثلا حين يتحدث عن العَلَم يؤكد أنه في ذاته قطعة قماش لا قيمة لها ماديا و لكنه يرمز إلى كل معاني المجد و السمو التي يقترن بها الوطن و أن المسلم يجب عليه أن يحمي هذا العلم و يعظمه و يحترمه باعتباره رمزا لوطنيته.
و في رسالته ( نحو النور) يضع بعض الخطوات الإصلاحية التي تنمي الحس الوطني و تعمل لصالح الوطن و من بينها:
· أنه دعا إلى حسن اختيار ما يذاع أو يعرض على الأمة من برامج و محاضرات و أغاني في الاذاعة أو التليفزيون كوسائل للتربية الوطنية الخلقية الفاضلة.
· و رأى أن وضع سياسة ثابتة للتعليم تؤدي إلى نهوض الوطن و ترفع مستواه و تقرب بين الثقافات المختلفة في الأمة بتربية الروح الوطني .
· كما طالب بالعناية بالتاريخ الإسلامي و التاريخ الوطني و التربية الوطنية و تاريخ حضارة الاسلام.

و تتجلى أيضا وطنية البنا في دعوته إلى تشجيع الصناعة الوطنية حيث يقول ( و لا تلبس ولا تأكل إلا من صنع وطنك الإسلامي) و بدا ذلك واضحا حين قام بتأسيس معهد حراء الإسلامي فوق مسجد الإخوان حيث اشترط للتلاميذ زيا خاصا هو جلباب و معطف من نسيج وطني و طربوش أبيض من صناعة وطنية و صندل من صناعة وطنية و ذلك ليعود التلاميذ على التمسك بالصناعات الوطنية منذ بداية نشأتهم.
و نجده أيضا قد استصدر مجلة النذير في مايو 1938 و قد ظهر منها واضحا اتجاه الاخوان الوطني و ابتداء اشتراكهم في الكفاح السياسي في الداخل و الخارج.
كان هذا غيض من فيض وطنية البنا التي كان من أجمل ثمارها نشأة جماعة الإخوان المسلمون و التي حملت راية الجهاد و الكفاح الوطني عبر قرن كامل و التي استشهد البنا في سبيلها و سالت دماؤه على أرض هذا الوطن الحبيب الذي ملأ هواه قلبه فعلمنا معنى حب الأوطان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق