الأربعاء، 21 مارس 2007

عربة العجائب في مصر المحروسة


أمل خيري

إن اختارك الله للسكنى في منطقة ليس لها وسيلة مواصلات إلا مترو الأنفاق بقلب العاصمة المصرية فأنت من سعداء الحظ؛ فإذا وقفت على رصيف المحطة لا تستطيع أن ترى القطار إن كان قادما أم لا ؟ من خلال كتل البشر المتراصة، إلا أنك ستعرف بالتأكيد أن القطار قد وصل حين تسمع صوت صفارته تخرق أذنيك، وحين تجد نفسك بقوة الدفع الخفية داخل القطار لا تدري إن كنت بكاملك داخل القطار أم بعضك.  ولكنك ستعرف بالتأكيد حين تجد الباب قد اندفع ليغلق على ذراعك أو إحدى قدميك، وتظل واقفا هكذا متدلي حتى يصل القطار بسلامة الله إلى المحطة التالية.

 وفي الغالب ستجد نفسك مرة أخرى بقوة الدفع الخفية خارج القطار حيث تدفعك الكتل البشرية الراغبة في النزول من القطار، وحينها تعاود الكرة مرة أخرى في محاولة للصعود مع الكتل الراغبة في الصعود وأنت لا تملك من أمر نفسك شيئا فأنت تُدفع مع النازلين وتُدفع مع الصاعدين حتى تلوح لك بارقة أمل في أن تجد موطئا لإحدى قدميك في عمق العربة.
 وفي أثناء رحلتك اليومية ذهابا وإيابا لا تملك إلا أن تكتم أنفاسك في وسط الزحام حتى تصل بسلامة الله .

ولا أدري لم تذكرت كلمات سطرها الأديب الكبير عبد الحميد جودة السحار في وصف عربات الترام في مصر المحروسة التي كانت منتشرة في القرن الماضي واختفت من شوارع مصر تماما.

 أخذت أقرأ كلماته مرارا وأنا واثقة أنه لم يكن يتحدث عن شيء سوى عربات مترو الأنفاق، وليس الترام الذي يقول واصفا إياه " تكدست أكوام البشر في داخل الترام ، وعلى جانبيه، ومن خلفه، ومن قدامه، واختلطت الأذرع والسيقان ، حتى أصبح من المستحيل أن تقع العين على هيئة إنسان ، فهذه ذراع ، وهذا رأس ، وهذا خصر، أما لمن هذا الرأس؟ ولمن هذه الذراع؟ وأين صاحب هذا الخصر أو هذه الساق؟ فهذا ما لم يفطن إليه إنسان، وكثيرا ما يخيل للناظر إلى الكتل البشرية المتراصة على سلم الترام ، أن للجسم الواحد رأسين ، أو للرأس الواحد جسمين ، وأن اغلب الواقفين على سلم الترام ينافسون ( البهلوان ) ، فهذا واضع طرف قدمه على حافة السلم ، وقابض على قائم الترام بأصبع ، وهذا متعلق في عنق آخر ، متعلق بسروال ثالث. وهكذا ".

انتهت كلمات الأديب الكبير في وصف الترام الذي لا يختلف عن مترو الأنفاق في شيء اللهم إلا أن القطار ليس له سلالم، وأن القطار متفرد بإحدى عجائب الدنيا السبع .

أتدرون ما هي هذه العجيبة ؟ إنها عربة السيدات أو ما اصطلح المصريون على تسميتها بعربة السيئات .

يثور الجدل العالمي الآن حول إعادة تشكيل عجائب الدنيا السبع غافلين عن هذه العربة التي إن قورنت بغيرها من العجائب تأتي في القمة بل إن هذه العربة نفسها تحتوي على كل العجائب معا في آن واحد.

ابتسمي أنت في عربة السيدات

في هذه العربة تجد المرأة كل ما يفرح القلب ويسره فقد افترشت مجموعة من الفتيات أرضية العربة لا يعنيهن الزحام ولا صراخ الراكبات أو حتى تعثر الواقفات في الكتل المتكدسة أرضا وهنا ترتفع عقيرة بعض الواقفات بالصراخ في وجوه الفتيات بضرورة الوقوف لإفساح المكان ثم يتطور الأمر للسباب ولكن لا حياة لمن تنادي فالفتيات يضعن في آذانهن السماعات الموصولة بأجهزة المحمول المسجل عليها أحدث الأغاني ويحاولن إثارة حفيظة الراكبات بإغماض أعينهن وكأنهن في عالم آخر بل إن بعضهن يتمايل على النغمات التي لا يسمعها غيرهن مما يزيد من حنق الواقفات اللاتي لا تجد إحداهن موطئا لقدميها ولا شيئا تستند عليه.

وفجأة يفرمل القطار فتندفع الواقفات بفعل نفس القوة الخفية فتتساقط إحداهن تلو الأخرى كقطع الدومينو فيرتفع الصراخ ثم تليها مرحلة الشجار الذي ينتهي دائما بالسباب وأحيانا بتشابك الأيدي وكيل الضربات تلو الأخرى .

كل واحدة من الواقفات كأنها برميل من البارود ينتظر من يلمسه لتنفجر كل شحنات الغضب المتراكمة في الصدور جراء خلافات مع الزوج أو مضايقات الأبناء أو مشاحنات العمل لتتناثر الكلمات الجارحة هنا وهناك في وجه الضحية التي أتعسها حظها ووقفت بجانب هذه القنبلة الموقوتة.

ولا تنتهي عجائب العربة عند هذا الحد فمما أنفحنا به الزمان انتشار ظاهرة البيع داخل العربات : بائعات من مختلف الأعمار وبضاعة من كل شكل ولون بدءا من الدبابيس وإبر الخياطة إلى المأكولات والملابس.

وكأن هؤلاء البائعات أزعجهن أن العربة ما زال بها متنفسا وموضعا لقدم فأبوا إلا ؛ن يسدوا هذا الفراغ ببضاعتهن.

 فإن أسعدك الحظ أختي الكريمة بركوب هذه العربة المباركة فستستمتعين طوال رحلتك السعيدة بمن يسري عنك؛ فهناك من آلى على نفسه أن يلبي كل طلباتك واحتياجاتك.

 فإن كنت جوعانة فالشيكولاتة والعسلية والسمسمية ستفي بالغرض، وان أصابتك نوبة من الزهقان فالنعناع سينعش أنفاسك ويصفي دمك، أما اللبان فطرقعته ستنفس عما بداخلك، وإن كنت في حاجة للكساء فستجدي جميع ما يسرك بدءا من جوارب القدمين وانتهاء باسدالات الصلاة،  وإن كنت ترغبين في إصلاح زينتك فهنيئا لك فهذه مرايا وتلك أدوات للتجميل وأمشاط وتوك ودبابيس مرصعة وخواتم تبرق.

أما إذا عطست وبحثت في حقيبتك عن منديل فلم تجدي فلا تقلقي ستجدي في العربة الواحدة ما لا يقل عن ثلاث أو أربع بائعات لأكياس المناديل الورقية واللاتي لا يكتفين ببيع المناديل ولكن يصحب عملية البيع انطلاق سيمفونية تقطيع القلب واستدرار العطف (ساعدوني يا بنات في تربية الأيتام) ، (ابنتي ستجري عملية جراحية) ، ( ابني مريض ولا أجد ثمن الدواء) ، (محتاجة مصاريف المدرسة لأولادي) ...... وبالطبع هذه السيمفونية لا تبقى على وتيرة واحدة بل تتغير كل عدة أيام من نفس السيدة في موضة جديدة من التسول عن طريق البيع، ولا تنس البعض منهن اصطحاب طفل صغير تحمله فوق كتفها وهذا الطفل لم يغسل وجهه منذ أن ولد ويرتدي بالطبع أسمالا بالية لاستدرار عطف ذوات القلوب الرحيمة.

 وبمنتهى البساطة يستطيع المتتبع لهذه السيدة التيقن أن هذا الطفل يتغير كل يوم فمرة يكون صبيا لا يتعدى عشرة أشهر ومرة أخرى ينقلب الصبي إلى بنت عمرها لا يتجاوز الخمسة أشهر وأي عاقل يستطيع التخمين باستحالة أن يكونا توأمين أو حتى أشقاء لا يتعدى الفارق بينهما خمسة أشهر إلا إذا كانت هذه السيدة قد اختصرت مدة الحمل الطبيعية التي عرفتها حواء منذ بدء الخليقة.

والطامة الكبرى أن يصعد أحد الباعة من الرجال في هذه العربة المنكوبة لتتعالى صرخات النساء أثناء مروره بين الكتل البشرية ولا تدري أين اختفى عساكر شرطة المترو الأشاوس من على أرصفة المترو؟ ولماذا سمحوا بصعود رجل إلى عربة الحريم؟ وأين الغرامات المفروضة على كل رجل سولت له نفسه ركوب العربة الكريمة؟ أم أن هذا البائع يعد مَحْرَما لكل الراكبات؟!

هل انتهت العجائب هنا؟

لا وألف لا فتأتي مشكلة الشبابيك اليومية فالجالسات بجانب الشباك يتأذين من البرد الذي يلفح وجوههن،  والواقفات يتصببن عرقا وتكاد تزهق أنفسهن فيطلبن من الجالسات فتح الشباك فتفتحه إحداهن على مضض، ولا تلبث جالسة أخرى إلا أن تغلقه بعد قليل في تحد سافر لكل الواقفات، وهنا تنفلت الأعصاب وتتناثر الكلمات من الأفواه معربة عن قلة ذوق هذه المرأة التي أغلقت الشباك والتي تسارع بالرد بأنها ستموت من الهواء المندفع من الشباك وأنها مريضة فتتعالى الصيحات ومرة أخرى تنطلق الألفاظ الجارحة .

وعجيبة أخرى تضاف لسلسلة العجائب في زمن العجائب ألا وهي جلوس الفتيات والشابات على مقاعد مكتوب فوقها مخصصة لكبار السن ولذوي الاحتياجات الخاصة دون أدنى اكتراث بهذه المرأة التي أثقلت بحملها وتمتد بطنها أمامها نصف المتر، ولا تلك السيدة الطاعنة في السن، ولا هذه التي تحمل طفلا رضيع وتمسك حقيبة منتفخة في يدها، فانعدمت الأذواق واختفى الإحساس.

قد تقولين وما المشكلة لقد توصلت لحل سحري سأحمل معي كرسي يطوى ويفرد لأجلس عليه وارتاح من عناء الطريق، فلا تتفاءلي كثيرا فقد سبقتك واشتريته ولكني اكتشفت أنه لا يوجد موضعا له لذا فأجدني أحمله معي ذاهبة وآيبة دون أن انتفع به .

أعجب العجائب تعمد الرجال ركوب عربة السيدات وكأنهم يستكثرون على السيدات كل هذه المتع التي يعيشونها يوميا فيريدون أن يشاركوا في هذه المتع، بالطبع هناك من تحاول أن تنبه الرجل أن هذه عربة السيدات فماذا يكون موقف الرجل :
تناحة لا حدود لها.
يعمل ودن من طين وأخرى من عجين.
يضحك وينظر من فوق لتحت ثم يستكمل وقفته.
يرد بأن هذا مترو الحكومة ومن حقه أن يركب كيفما يشاء.
والبعض يتطاول بلسانه وربما بيديه .
والمسكينة التي انبرت لتنبيهه ربما لا تجد من ينصفها حتى من السيدات.


في يوم ركبت العربة وكانت كل الكراسي ممتلئة ووجدت رجلا يجلس على كنبة -تسع شخصين- بمفرده يجلس في النصف تماما حتى لا تسول لأي إمرأة نفسها أن تفكر مجرد التفكير في محاولة الجلوس بجانبه بل يزيد تحديه بأن يضع يديه في خصره ويجلس واضعا ساقا على أخرى ويتجول بعينيه في العربة ورغم أني وقتها كنت سأنزل في المحطة التالية بما يعني أن الأمر لا يعنيني إن كان جالسا أم واقفا إلا أني حاولت مكالمته فزجرتني السيدات الواقفات بجانبي وأشرن لي إشارات غريبة فهمت منها أن البعض حاول معه لكنه يتحدى الجميع، بل ما أغاظني أن قالت سيدة: ما المشكلة أن يركب ويجلس أليسوا إخوتنا ؟ أليسوا لحما ودم؟ هل سيأكلوننا؟
هل ترضين لشقيقك أو زوجك أن يطرد من عربة السيدات لمجرد أنه رجل؟!
وجدت أن أفضل طريقة للرد عليها هي عدم الرد عليها أصلا وتجاهلها حتى جاءت محطتي فنزلت بسلام.


ولكن هل بعد كل هذا تفكرين في التخلي عن ركوب هذه العربة التي هي من أعظم انجازات مرفق مترو الأنفاق؟
كلا وألف كلا فما كنت تستبدلينها بعربة مختلطة أقل ما يصيبك فيها إهدار البقية الباقية من كرامتك.
لذا لا نملك إلا أن ندعو " اللهم أدم علينا عربة السيدات واحفظها من الزوال".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق