الثلاثاء، 27 نوفمبر 2007

عبد السلام ياسين .. صوفي في محراب الدعوة

أمل خيري

يجسد عبد السلام ياسين (المرشد العام لجماعة العدل والإحسان المغربية) عبر مسيرته الفكرية والإصلاحية فكرة امتزاج الأصالة والمعاصرة في قالب فكري شديد الخصوصية يجمع بين التنظير للدعوة وقيادة الحركة الإصلاحية في الوقت نفسه.

ولد عبد السلام ياسين في التاسع عشر من سبتمبر عام1347هـ/1928م لأسرة من البربر تمتد جذورها للأدارسة الأشراف، وهي أسرة تدعى "آيت بيهي" وكانت تقطن منطقة بولوز بسوس جنوب المملكة المغربية.

وقد اشتهر في هذه العائلة قادة استطاعوا السيطرة على مجموعة من القبائل مثل القائد عبد الله ولد بيهي الذي قتل على يد أحد أفراد العائلة العلوية الحاكمة بتهمة السعي لتأسيس دولة انفصالية جنوب المغرب، ومنذ ذلك الحين تعاني هذه العائلة من التضييق والملاحقات الأمنية.

أما والد الأستاذ عبد السلام ياسين فكان فارسا في قبيلته "آيت زلطن" لكنه اضطر لمغادرة بلدته "حاحة" إلى مراكش بعد أن بلغه تربص قائد القبيلة به وسعيه للفتك به. وفي مراكش اضطر للعمل كفلاح بسيط وتزوج متأخرا من ابنة عمه فلم يرزق سوى بابنه الوحيد عبد السلام.

النشأة والتكوين

بدأ عبد السلام دراسته في مدرسة ابتدائية بحي الرميلة تأسست على يد العلامة المجاهد محمد المختار السوسي، وفي هذه المدرسة تفتحت مواهب ياسين وظهرت نجابته بفضل تتلمذه على يد أساتذة امتازوا بسعة العلم والأفق والتبحر في العلوم الشرعية والغيرة على اللغة العربية، إضافة إلى تمتعهم بالروح الوطنية؛ ما ساهم في إذكاء حب الوطن والغيرة على الإسلام والتمسك باللغة العربية.

واستطاع الطالب النجيب أن يختصر من سنواته الدراسية ثلاث سنوات حين اجتاز امتحان القبول بالمرحلة الثانوية مباشرة بعد انتهاء المرحلة الابتدائية فالتحق بمعهد ابن يوسف الديني، إلا أنه لم يكن متعلقا بالمعهد كما كان متعلقا بالمدرسة الابتدائية؛ فاتجه أثناء الدراسة لتعلم اللغات وبعد تخرجه في المعهد التحق بمدرسة تكوين المعلمين وتخرج فيها بتفوق حيث حصل على الترتيب الثالث.

وبعد تخرجه في مدرسة تكوين المعلمين عام 1366هـ/1947م عين ياسين مدرسا بإحدى المدارس الابتدائية في مدينة "الجديدة" وظل يترقى طيلة عشرين عاما في السلم الوظيفي حتى أصبح خبيرا لشئون التربية والتعليم؛ ما أتاح له أن يمثل بلاده في المؤتمرات والمحافل الدولية.

الصوفي المريد

مثل العام 1384هـ/1965م نقلة نوعية لعبد السلام ياسين حيث ظهرت نزعته الصوفية وهو المعلم المثقف الذي يغترف من المعرفة اغترافا ما بين قراءته لكتب الفلسفة وعلوم الصوفية وبين نظمه الشعر وكتابته النثر وإجادته اللغات الأجنبية، لكنه رغم ذلك شعر أن هناك ما ينقصه، ووجد ياسين في الفكر الصوفي ضالته فانقطع في عزلة في الزاوية البوتشيشية، حيث تتلمذ على يد الشيخ عباس القادري، وكان لهذه العزلة أكبر الأثر في صقل شخصية ياسين إذ تغير مسار حياته حين تعلم التواضع والكرم بعد مجالسته الفقراء والمساكين واعتاد خشونة الحياة في الزاوية بعد رغد العيش الذي كان يتقلب فيه وحياة القصور التي كان يحياها.

وظل ياسين على هذه الحال ست سنوات كاملة كان يصحب فيها شيخه في حله وترحاله واستطاع في ظل هذا الجو التربوي أن يفرغ فكره في كتابيه 'الإسلام بين الدعوة والدولة' و'الإسلام غدا'، حيث ظهرت بوادر مشروعه الإصلاحي الجهادي المتأثر بالاتجاه الصوفي. وكان ياسين يهدف إلى تقديم تجربة إصلاحية تجمع بين الشق الجهادي والشق التربوي، فقدم في كتابيه الذين صدرا عام 1392هـ/1972م نظرية لتغيير الإنسان على المنهاج التربوي حاول فيها أن يضع ملامح المنهج التربوي الإسلامي الذي يستطيع أن ينتشل الإنسان من فوضى الاشتراكية وجشع الرأسمالية الذين حارت بينهما الحكومات بعد رحيل الاستعمار. ووضع ياسين نظريته في الإصلاح بدءا من تغيير الفرد المسلم لكي يخرج من إسلامه الفردي إلى تطبيق المشروع الجماعي ليصبح المسلمون حملة رسالة بتأسيهم بالمنهاج النبوي وحركيته.

ويبدو أن شخصية الشيخ العباس كان بها من مقومات الجذب والقيادة ما افتقده ابنه من بعده، لذلك بعد وفاة العباس بدأت الزاوية تأخذ منحى آخر؛ فقد انتشرت البدع والخرافات وألصق بالدين ما ليس به، وكان الأستاذ عبد السلام يطمع أن يصلح الابن ما فسد، لكنه لم يفعل، فما كان من ياسين إلا أن غادر الزاوية وبدأ مرحلة جديدة من حياته.

جهاد ودعوة

اتجه عبد السلام ياسين في السعي لتطبيق مشروعه الإصلاحي وإخراجه إلى النور، فعكف على كتابة رسالة موجهة إلى عاهل المغرب الملك الحسن الثاني بعنوان "الإسلام أو الطوفان" عام 1366هـ/1947م، وتعد هذه الرسالة رسالة تاريخية جاءت في أكثر من مائة صفحة بهدف توجيه الدعوة لملك المغرب أن يقود بنفسه دعوة الإصلاح من خلال عرض تجارب المصلحين عبر التاريخ، وكان ياسين يتمنى أن يستجيب العاهل المغربي لدعوته فينال شرف انضمامه لركب المصلحين، لكن ما فعله ياسين عدته السلطة الحاكمة ضربا من الجنون فاقتيد ياسين إلى مستشفى الأمراض العقلية في نفس اليوم وظل حبيسا في سجنه بالمستشفى دون محاكمة ثلاث سنوات.

ومن تصاريف القدر أن تحولت هذه المحنة إلى منحة إلهية ثانية أعادته إلى العزلة الشبيهة بتلك التي قضاها في الزاوية البوتشيشية مما أتاح له التفرغ للكتابة والتنظير، وأصبحت الأفكار المتناثرة لديه في الكتب السابقة أكثر وضوحا فصب اهتمامه على تأطير أصول منهاج التغيير النبوي.

وبعد الإفراج عنه عام 1398هـ/1978م بدأت دعوته وسط الناس بالمساجد، لكن السلطة لاحقته ومنعته من الخطابة، ولم يجد ياسين وسيلة للوصول إلى الناس إلا من خلال الصحافة، فأصدر مجلة "الجماعة" عام 1399هـ/1979م لتكون منبرا لوصول صوته وأفكاره للناس، لكن المجلة أيضا لم تسلم من المصادرة من قبل السلطة. ومع ذلك لم تمنع هذه الإجراءات من وصول المجلة للناس وانتشارها وذيوع شهرتها، فأقبلت الوفود على الأستاذ عبد السلام من النخب الفكرية تناقشه في مشروعه الفكري والدعوي، فأراد ياسين أن ينتهز الفرصة لتوحيد الجهود الإصلاحية المتناثرة في أسرة واحدة، لكنه اكتشف بعد مضي عام ونصف أن ما يأمله من توحيد الصفوف هو مطلب بعيد المنال؛ فالاختلافات أعمق أثرا بين الجماعات والتنظيمات المختلفة، ففكر في أن يتعامل مع الواقع بإنشاء كيان مستقل، فكانت جماعة العدل والإحسان.

مرشد العدل والإحسان

كلل عبد السلام ياسين جهوده بجمعية الجماعة الخيرية التي اتخذت من "العدل والإحسان" شعارا لها، وكانت الجمعية قد اتخذت عدة مسميات قبل الاستقرار على اسمها الحالي، وأصبح عبد السلام ياسين المرشد العام للجماعة، لكن كل محاولات إضفاء الشرعية على هذه الجماعة باءت بالفشل حيث رفضت السلطات الاعتراف بهذه الجماعة إلى اليوم، وتعرض المرشد العام وكثير من المنضمين للجماعة للاعتقال، وكان من المنتظر انهيار الجماعة الناشئة بعد اعتقال رموزها وكوادرها إلا أن ما حدث كان العكس؛ حيث استطاعت كثير من المنابر الإعلامية استثمار هذه المحنة وتبارت الأقلام على المستوى العربي والدولي في التنديد بهذه الاعتقالات وخنق الحريات التي تمارسها السلطة على أعلام الفكر والدعوة؛ وهو ما زاد من تعريف الناس بهذه الدعوة الناشئة. بل إن سجن عبد السلام أصبح ملتقى فكريا أسبوعيا أثناء فترة الزيارة حيث كانت الوفود تزوره فيلقي عليهم دروسه. وللمرة الثالثة أتاحت له هذه العزلة فرصة التفرغ للكتابة فكانت كتاباته المنهجية مثل 'مقدمات في المنهاج' وكتاباته في التاريخ مثل 'نظرات في الفقه والتاريخ' وكتاباته في نقد الأفكار العلمانية والقومية ودحض النظرية الماركسية مثل كتابيه 'الإسلام والقومية العلمانية' و'الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية' إضافة إلى كتابة الجزء الأول من كتابه الشهير 'الإحسان'.

وحين خرج عبد السلام من سجنه عام 1405هـ/1985م كانت الدعوة قد اشتد عودها، فبدأ العمل الحركي والدعوي في شكل أكثر تنظيما وانفتاحا على الإعلام وهو ما أكسب الجماعة وزنا ثقيلا وانتشارا في كافة أنحاء المغرب، فاتجهت السلطات للتضييق مرة أخرى على مرشد الجماعة، وحوصر في منزله مدة تزيد عن أحد عشر عاما حاول خلالها عدة مرات كسر هذا الحصار لكن محاولاته لم تكلل بالنجاح، بل إن السلطات قد اعتقلت جميع أفراد عائلته.

من المحلية إلى العالمية

وفي عام 1420هـ/2000م وبمناسبة الذكرى العاشرة للحصار كتب الأستاذ عبد السلام رسالة بعنوان "إلى من يهمه الأمر" في 35 صفحة وجهها للديوان الملكي بعد تقليد الملك محمد الخامس خلفا لوالده، ودعاه في هذه الرسالة لرد المظالم إلى أهلها والحكم بالعدل، وقد لاقت هذه الرسالة صدى واسعا في جميع الأوساط الفكرية والثقافية وأصبحت مدار الحديث في الأوساط الإعلامية سواء بالتأييد أو الرفض، وسارعت عدة صحف وجرائد لنشرها، لكن بعض هذه الصحف تمت مصادرتها، فانطلق عبد السلام ياسين من إطار المحلية إلى العالمية عبر تدشين موقعه الإلكتروني الذي أصبح منبرا للجماعة وساهم في تقديم خطاب مفتوح بعدة لغات عالمية، متحررا بذلك من رقابة السلطة على الصحف وإن كان هو نفسه لم يسلم من محاولات عديدة لحجبه ولكنها كانت تبوء بالفشل. وظل موقعه الإلكتروني منبرا لعرض أفكاره وأخباره ودروسه الصوتية والمرئية وخاصة مجالس زيارة الأحد ودروس المنهاج النبويإضافة إلى كتبه ومؤلفاته.

ويتميز عبد السلام ياسين بغزارة التأليف، فقد وصلت مؤلفاته إلى ثلاثين مؤلفا تتميز بالعمق ومخاطبة العقل والوجدان معا في سائر المجالات من التاريخ إلى أصول الفقه والدعوة والحوارات الفكرية والسياسية والعقائدية والتربية والسلوك، وهو يمزج فيها بين الأصول الإسلامية والثقافة المعاصرة. ومن أهم مؤلفاته "محنة العقل المسلم" و"المنهاج النبوي" و"الشورى والديمقراطية" و"الإسلام والحداثة" وغيرها الكثير من الكتب السياسية والفكرية، بالإضافة إلى رسائله المتنوعة سواء كانت توجيهية أو تربوية أو رسائل بالنصح لأولي الأمر.

كما يتميز ياسين - إضافة إلى كونه مفكرا - بقرض الشعر؛ حيث إن له ما لا يقل عن خمسة دواوين شعرية، من بينها "شذرات" و"المنظومة الوعظية" و"قطوف".

ولا يتوقف عطاء عبد السلام ياسين رغم مناهزته الثمانين من عمره، فما زال يحرص على مجالس زيارة الأحد وما زالت دروسه وخطبه ومؤلفاته مرجعا للحركة الإسلامية في المغرب وغيرها من دول الوطن العربي.

المراجع

1. الموقع الشخصي للأستاذ عبد السلام ياسين: http://www.yassine.net

2. مسار حياة الأستاذ عبد السلام ياسين في الدعوة والحركة، حوار أجراه بلال التليدي مع الأستاذ عبد العالي مجدوب في 3 حلقات نشر بجريدة التجديد المغربية في أعداد يوم 6/10، و8/10، و16/10 – 2007م.

3. Britannica Concise Encyclopedia

http://www.biblioislam.net/ar/Scholar/card.aspx?CriteriaId=5&ID=35&UICollectionID=20


هناك 3 تعليقات:

  1. شكرا لك سيدتي على هذا النظم اللؤلؤي لسيرة رجل عظيم يندر وجود سمي له في زماننا هذا، وأحب أن ألفت انتباهك إلى أن موقع مؤسسة المرشد حفظه الله يعرض سيرة محينة للمرشد قد تودين الاطلاع عليها

    دمت في حفظ الله ورعايته

    ردحذف
  2. السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
    الأستاذ عبد السلام ياسين ربما يكون سلك طريق الصوفية رضي الله عنه لينال ما ناله السالكون الصادقون إلا أنه ليس صوفيا بالمعنى المتداول لمعنى صوفي و كما يقول الأستاذ عبد السلام ياسين : " نحن منهم و لسنا هم " ، و شتان بين التشبيه و الوصف .... و اسم تصوف له بديل في الكتاب و السنة : إحسان ، تزكية .. فليطلع من يجهل ذلك على الإحسان للأستاذ عبد السلام ياسين ففيه تفصيل ذلك .
    "لست أدعو إلى التصوف، ولا أحب الاِسم والشكل لأني لا أجدهما في كتاب الله وسنة رسوله بعد أن اخترت جوار القرآن والجلوس عند منبر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. لا، ولا حاجة لي بالمصطلحات المحدثة، فلي غنى عنها بلغة القرآن وبيان إمام أهل الإحسان. لكن الحق الذي مع الصوفية، حق حب الله تعالى وابتغاء وجهه وإرادة الوصول إليه والتماس الطريق لمعرفته وما يكرم به الحنان المنان المصطفين من عباده، حق ثابت في القرآن والسنة، ثابت في حياة من تعرض لنفحات الله وصدق في الله وذكر الله وسار إلى الله." من كتاب الإحسان
    عبد السلام ياسين .. مجاهد في محراب الدعوة

    ردحذف
  3. بارك الله في هذا الرجل الذي أحيى أمة في المغرب الأقصى امتد صيتها الى مختلف البلدان العربية و الغربية ..
    رجل جمع ما بين الشريعة و الحقيقة و الأصالة و المعاصرة في آن واحد ..
    حفظه الله و جعله ذخرا لأمة رسول الله ..
    المرجوا من القراء قراءة كتبه " المنهاج النبوي تربية و تنظيما و زحفا " و كتاب " الاحسان " الجزء الأول و الثاني و كتاب " العدل الاسلاميون و الحكم " و كتاب " تنوير المؤمنات "

    ردحذف