الأربعاء، 13 فبراير 2008

عز الدين البيانوني .. مدرسة دعوية وتربوية رائدة

أمل خيري

عز الدين البيانوني
يعد عز الدين البيانوني أحد أعلام الفكر الإصلاحي التربوي في بلاد الشام، تميز بفصاحته وقوة بيانه وحرصه على تقريب العلوم الإسلامية للجيل المعاصر بأسلوب سهل مبسط يحاكي لغة العصر، ساعيا لتأليف الكتب وبناء الرجال، فأسس جماعة الهدى الإسلامية بحلب، التي اهتمت بتربية الشباب وفق مبادئ الإسلام، وظلت مؤلفاته ورسائله موضع تقدير في حياته وبعد وفاته فكان مدرسة تربوية دعوية أصيلة وقفت في وجه المد العلماني في بلاد الشام.
النشأة والتكوين
ولد أحمد الصياد بن الشيخ عيسى بن حسن بن بكري بن أحمد البيانوني الحلبي، الملقب بعز الدين بمدينة حلب في اليوم الرابع من ربيع الأول 1329هـ/ 5-3-1911م، ووالده الفقيه الشيخ عيسى بن حسن البيانوني الشافعي الذي ولد بقرية بيانون شمال حلب ورحل لحلب لطلب العلم ثم استقر المقام به فيها وأنجب ابنه عز الدين.
تميزت البيئة المحيطة بعز الدين بالعلم والصلاح والتقوى؛ ما أثر كثيرا في نشأته العلمية فختم القرآن الكريم في الخامسة من عمره ثم التحق بالمدرسة الابتدائية فمكث فيها ست سنوات، وبعد تخرجه فيها التحق بدار المعلمين فنبغ فيها وتفوق على أقرانه في جميع المناهج الدراسية، وبعد تخرجه عمل معلما على مدى ستة وثلاثين عاما من عام 1350هـ/ 1932م حتى عام 1387هـ/ 1968م.
عرف البيانوني بولعه بمجالسة العلماء والصالحين للانتفاع بعلمهم، ومن العلماء الذين تأثر بهم في تكوين شخصيته بالإضافة إلى والده، الشيخ محمد أبو النصر، والشيخ محمد المكي الكتاني، والشيخ ملا رمضان، والشيخ إبراهيم الغلاييني، والشيخ محمد أبو الخير الميداني، كما تعرف في مكة والمدينة على الشيخ السيد علوي المالكي، والشيخ إبراهيم الفضلي، والشيخ محمد العربي، والشيخ محمد أمين الكتبي وغيرهم.
كما كان يحرص على زيارة الشيخ عبد الله خير الله، والشيخ محمد السلقيني، والشيخ مصطفى مزراب، والشيخ محمد نجيب خياطة شيخ القراء في حلب.
داعية متعدد المواهب
تعددت مواهب البيانوني بشكل لافت، فبالإضافة لنبوغه في اللغة العربية وفصاحته كان متقنا أيضا للغة الفرنسية، وكان كثير الاستشهاد بنصوص من الأدب الفرنسي في دروسه ومؤلفاته.
كما أبدى اهتماما بعلم النفس التربوي في جانبه التطبيقي وسعى لمقارنته بما جاء به الإسلام، أما اهتمامه بالعلوم الشرعية كالتوحيد والحديث والفقه والسيرة والتراجم والتفسير والتصوف والأخلاق فقد كان ملحوظا في جميع مؤلفاته.
بالإضافة إلى هذه المواهب العلمية فقد برع أيضا في المواهب الفنية مثل الخط والرسم الذين اتخذهما هواية لا تصرفه عن العلم فكان يرسم رسما بديعا على السبورة بسرعة بالغة وبدقة متناهية، كما فطر على حب الرياضة فكان يشارك في الفرق الكشفية أيام دراسته والتي كان لها أثر كبير في تكوين شخصيته، كما أحب كرة القدم وكان سباحا ماهرا، وكان يرى أن للرياضة دورا أساسيا في تكوين الشخصية المسلمة المتكاملة.
وبلغ حبه للغة العربية أنه كان حريصا على تنشئة أبنائه على فصاحة اللسان، ورأى أن القرآن الكريم وتلاوته وتدبر معانيه وتراكيبه أفضل سبيل لتقوية اللغة والبراعة فيها، وبرز حرصه الشديد على سلامة الألفاظ العربية في وصيته الدائمة لتلاميذه ومريديه بالبعد عن العامية والتزام الفصحى في المكاتبات والكلام العادي، وكان ذلك ما دعاه لكتابة رسالة أسماها "أخطاء لغوية شائعة وتصويباتها" والتي جمع فيها 500 خطأ لغوي شائع مع تصويباتها وكتبها بأسلوب " قل ولا تقل".
العالم المربي
اهتم البيانوني بالتربية بشكل عام وعني بالتربية العملية بشكل خاص وكان حريصا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واشتهر بذلك بين إخوانه ومحبيه، وقد نظم الشعر في خدمة الدعوة الإسلامية كما ألف الكتب والرسائل بأسلوب عصري ولغة فصيحة سهلة. وبرز حرصه على الاستناد للأدلة الشرعية من القرآن والسنة كما اهتم ببيان محاسن الإسلام وتفرغ لرد شبهات أعداء الإسلام.
شرع البيانوني عام 1384هـ/ 1965م في تكوين مدرسته التربوية الخاصة التي أسماها "جماعة أبي ذر" نسبة لمسجد أبي ذر بحلب، ووجهت الجماعة جل اهتمامها بالتربية الإسلامية الدقيقة واهتمت بالتنشئة الصالحة للشباب في جميع المجالات متبعة أسلوب القدوة الحسنة، وعرفت الجماعة فيما بعد باسم جماعة "الهدى الإسلامية" والتي أضحى نشاطها الدعوى والتربوي والإصلاحي علامة بارزة. وصمدت الجماعة في مواجهة ضغوط الأنظمة العلمانية كما صمدت في مواجهة نتائج هزيمة يونيو 1967م (صفر 1387هـ) وسعت لتقوية الجبهة الداخلية ورفع معنويات المواطنين السوريين.
وحرص البيانوني على توضيح السبب الحقيقي لهذه الهزيمة النفسية والاجتماعية التي انتهت بضم الجولان لليهود، حيث رأى أن الابتعاد عن تعاليم الدين والخلل في تربية الأفراد والجماعات كان المحرك الأول لهذه الهزيمة وسرعة سقوط الجولان؛ لذا كان شغله الشاغل التربية والدعوة والإصلاح.
وتعد تربيته لأولاده نموذجا تربويا يحتذى، فقدم خلاصة تجربته في كتابه "منهاج التربية الصالحة".
المفكر الإصلاحي
وانطلاقا من مشروعه الفكري التربوي عني البيانوني بتأليف الكتب كما عني بتربية الرجال، فاتخذ من الكتابة وسيلة لتبليغ دعوته ونشر فكره الإصلاحي التربوي وخاصة أن أسلوبه الذي امتاز بالفصاحة والبساطة في الوقت نفسه قد حاز القبول من قرائه فأقبلوا على قراءة كتبه ورسائله التربوية، وكان من أهمها رسالة "سبيل الهدى والعمل" التي كانت أول ما كتب، وطبعها بخط يده المتميز وحرص على توزيعها بالمجان، وجمع فيها أوامر ونواهي الإسلام في شكل وصايا "افعل ولا تفعل".
كما ألف البيانوني سلسلة العقائد التي شملت عددا من الرسائل مثل الإيمان بالله تعالى، والإيمان بالرسل، والإيمان بالملائكة، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان خصائصه وعلاماته، والكفر والمكفرات، إضافة إلى سلسلته الشهيرة التي أسماها "من هدي الإسلام" التي ضمت عددا من الرسائل من أهمها: شؤم المعصية وبركة التقوى، وهذا الإنسان، والفتن، والعشر المهلكات، ومن محاسن الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل الصالح، والهدى والضلال، وغيرها.
واهتم البيانوني بمسألة الاجتهاد وواجه الدعوة إلى اجتهاد العامة في بلاد الشام وجرأة العوام على الفتوى، ورفض الفتاوى الشاذة المضللة للأمة فحرص على استكتاب مجموعة من العلماء لتوضيح موقفهم من فتح باب الاجتهاد للعوام في كتابه "الاجتهاد والمجتهدون" وذيله بمقالة وافية أوضح فيها رأيه في هذه المسألة.
أما الفقه فقد نال من البيانوني اهتماما كبيرا كذلك، فحرص على بيان الأحكام الفقهية في المذاهب الفقهية المختلفة فكتب: "مجموعة العبادات على مذهب الإمام أبي حنيفة"، وعلى غراره: "مجموعة العبادات على المذهب الشافعي" لكن هذا كان أكثر توسعا وغناء حيث اعتنى بالمسائل الفقهية الشائعة التي يكثر وقوعها.
وفي مواجهة الابتداع حرص البيانوني على بيان ما دعا إليه الإسلام وما دخل عليه من بدع، فكتب رسالة "التكريم الصادق بالاتباع الكامل" بمناسبة احتفالات المسلمين بالمولد النبوي الشريف مذكرا المسلمين بواجباتهم تجاه نبيهم واتباع سنته الشريفة.
واشترك البيانوني مع الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في كتابة "قبسات من نور النبوة" واشترك أيضا مع بعض معلمي التربية الإسلامية في إعداد مناهج المرحلة الابتدائية.
وترك كذلك عددا من المخطوطات التي لم تطبع بعد، ومنها خطب ورسائل وكتب وأشعار، فقد ترك جميع خطبه مكتوبة وهي متميزة بالفصاحة والبيان والتنوع في الموضوعات، وخاصة تلك التي تعالج المشكلات المعاصرة والتي تتعرض لآداب الإسلام ومبادئه وفضائله. أما رسائله فقد تعددت ما بين دعوية وتربوية وإصلاحية، فكان حريصا على توجيه رسائل لإخوانه في المخيمات التي كانت تقيمها الجماعة سنويا وفي المناسبات المختلفة. كما كتب "مختارات من كلام السلف" وهي رسالة في التربية والتزكية كان يمليها على إخوانه في جلسات الجماعة التي كان يديرها، وسجلت دروسه على أشرطة. أما أشعاره فقد جمع بعضها في ديوان مخطوط أسماه "النزر الطفيف من نظم العبد الضعيف" أغلبه شعر في المديح النبوي والدعوة إلى الإسلام.
منهجه الفكري
نشأ البيانوني بين جيلين فكريين متباينين: جيل الشيوخ الذي ابتعد في خطابه عن المستجدات والتطورات الاجتماعية، وجيل المعاصرين الذين افتتنوا بالغرب واحتقروا ما كان عليه الآباء والأجداد. ورأى البيانوني أن الفجوة آخذة في الازدياد بين الجيلين فسعى لسد هذه الفجوة بما أوتي من قوة البيان وسهولة الأسلوب، فقرب كتابات السلف إلى الجيل المعاصر بأسلوب مبسط، وكان حريصا على تيسير العلوم الإسلامية وتقريبها لتلائم العصر وتتميز بالجذب والتشويق، كما كان حريصا على عدم الإسهاب والتطويل الممل، فكان أسلوبه مختصرا مفيدا لا يلجأ للحشو أو التكرار، ولكنه أيضا لا يختصر اختصارا مخلا، هذا إضافة إلى اهتمامه بالجوانب التربوية العملية. وهو ينأى بنفسه عن الموضوعات المكررة أو التي لا فائدة منها في واقع المسلمين.
وقد سدت كتبه هذه حاجة ملحة في نفوس المسلمين في ذلك الوقت فانتشرت وحازت القبول في حياته وبعد وفاته، كما ترجم الكثير منها لعدد من اللغات وأعيد طبع بعض الكتب بأسماء أخرى في عديد من البلدان العربية.
أصيب البيانوني في آخر حياته بسرطان الدم وعانى من المرض أشد المعاناة فأقعدته آلامه عن دروسه واجتماعاته مع إخوانه وتلاميذه، لكنه ضرب أروع الأمثلة في الصبر والاحتساب، وبعد نزوله دمشق على أحد أبنائه كتب وصيته الأولى ثم عاد لحلب فكتب وصيته الثانية وطلب ألا تفتح إلا بعد وفاته، والغريب أنه لم يكف عن واجبه في الدعوة إلى الله وإنكار المنكر حتى في شدة مرضه وآلامه.
ومن أهم ما اشتملت عليه وصيته الوصية بتقوى الله في السر والعلن والحرص على التمسك بكتاب الله وسنة رسوله والحرص على الأخوة والتناصح والتحذير من تقليد الغرب وضرورة تربية البنات والبنين تربية إسلامية متكاملة، كما حرص في وصيته لإخوانه على اجتماع الكلمة ونبذ الفرقة. وفي وصيته اختار ولده محمدا أبا النصر ليكون خلفا من بعده في جماعة الهدى الإسلامية. ولولده محمد أبي الفتح المرجعية العلمية للجماعة.
فاضت روح البيانوني إلى بارئها يوم الجمعة 17 من ذي الحجة 1395هـ/ 19-12-1975م، وصلى عليه الناس يوم السبت بعد صلاة العصر في جامع "بان قوسا" وفق وصيته وامتلأ المسجد بالمصلين الذين جاءوا لتشييعه إلى مثواه الأخير بمقبرة الأعرابي.
ترك البيانوني عددا من الأولاد والبنات كلهم على النهج الإسلامي من بينهم علي صدر البيانوني وأبو الفتح البيانوني، كما ترك العديد من التلاميذ الذين تأثروا بدعوته وساروا على نهجه الإصلاحي.
المصادر:
1. عبد المجيد البيانوني، أحمد عز الدين البيانوني الداعية المربي، دمشق: دار القلم، 2006م.
2. محمد علي شاهين، أحمد الصياد عز الدين بن عيسى البيانوني، مجلة الغرباء الإلكترونية، العدد 29.
3. مقدمة الناشر للتعريف بالكاتب، من كتاب العمل الصالح لعز الدين البيانوني، القاهرة: دار السلام، 1999م.
4. محمد خير رمضان يوسف، معجم المؤلفين المعاصرين، الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 2004م.
رابط النشر
http://www.biblioislam.net/ar/Scholar/card.aspx?CriteriaId=1&ID=70&UICollectionID=20

هناك تعليق واحد: