الاثنين، 7 أبريل 2008

الرأسمالية.. حين تحاول أن تكون خيرية


بقلم - أمل خيري

Image
تزايدت في الآونة الأخيرة أعداد وأحجام المؤسسات الخيرية التي ترعاها مؤسسات رأسمالية كبرى، سواء على المستوى الدولي أو على المستوى القومي العربي أو على المستوى القطري في هذا البلد أو ذاك، وإذا كانت مساهمات الأغنياء في التخفيف من معاناة الفقراء ليست بالأمر الجديد، إلا أن الجديد هو سعي تلك المؤسسات لإدارة تلك الأعمال الخيرية بمنطق وأسلوب المؤسسات الاستثمارية، سواء في شكل إقامة مشروعات ربحية تدر دخلا على الفقراء، أو بمنطق وأسلوب الرأسمالية في أكثر صورها فجاجة، وهو ربما ما دعا البعض إلى الكتابة لدعم هذا الاتجاه واصطك له من المصطلحات ما يناسبه حيث أطلق عليه ماثيو بيشوب Matthew Bishop المحرر الاقتصادي في مجلة الإيكونوميست على سبيل المثال مصطلح Philanthrocapitalism أو الرأسمالية الخيرية؛ وهو ما أثار إلى تصاعد الجدل حول موارد المال ومصارفه وطريقة إدارته وفق النموذج الرأسمالي، وزحف ذلك النموذج على العمل الخيري وتأثيراته، وهو النقاش الذي نرى ضرورة متابعته، حيث لم تعد بلادنا بمنأى عن هذا النموذج سواء من ناحية الفكر أو الممارسة.
الرأسمالية الخيرية
تعني الرأسمالية الخيرية تطبيق المبادئ التي تحكم عمل المؤسسات الرأسمالية وآليات السوق على مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية والتطوعية بما يتضمن تسخير قوة آليات السوق والاستثمار وفق مبادئ الربح والخسارة لتحقيق أهداف الحراك الاجتماعي، وهذا الاتجاه ربما له ما يعززه، على سبيل المثال إذا نظرنا للاستثمارات الضخمة التي وجهتها مؤسسات ربحية استثمارية نحو تقديم الدعم للفقراء وتوسيع فرص الحصول على قروض صغيرة كمؤسسة بيل وميليندا جيتس ومبادرة بيل كلينتون العالمية وغيرها، مما يؤكد مدى قدرة الرأسمالية الخيرية على توسيع فرص الحصول على السلع والخدمات الهامة وإمكانية اضطلاعها بدور إيجابي في تعزيز قدرات وإمكانات المجتمع المدني.
وهذا ما دفع مايكل إدواردز لتأليف كتابه الأخير "مجرد إمبراطور آخر: الحقائق والأساطير حول الرأسمالية الخيرية" لمناقشة التحديات التي تواجه تطبيق المبادئ الرأسمالية في العمل الخيري، حيث يعرض للاتجاه الذي ينظر للرأسمالية الخيرية على أنها وعد جديد بتحقيق التغيير الاجتماعي عن طريق حل مشاكل المجتمع المستعصية، ولكنه يتساءل عن مدى صحة هذا الاتجاه، أي هل تعتبر الرأسمالية الخيرية نعمة أم نقمة أم أنها في مكان ما بينهما؟
غلاف كتاب "just another emperor?"
وهو ما أعاد تأكيده في مقاله الأخير في موقع الديمقراطية المفتوحة "open Democracy"تحت عنوان: "Philanthrocapitalism: after the goldrush"، والذي نشره مؤخرا في 19 مارس 2008.
مرونة المصطلح
يؤكد مايكل إدواردز أن مصطلح الرأسمالية الخيرية من المصطلحات المرنة، حيث يتشابه مع مفاهيم أخرى مثل الشراكة الاجتماعية أو العمل الخيري الاستثماري أو المشروعات الاجتماعية أو المسئولية الاجتماعية المشتركة إلا أنه يتمايز عن هذه المفاهيم جميعا في ثلاث عناصر أساسية:
  1. الموارد: حيث يجرى توجيه مبالغ ضخمة جدا لعمل الخير من الأرباح الهائلة التي جناها عدد قليل من الأفراد في قطاع تكنولوجيا المعلومات في العقد الأخير.
  2. الوسائل: حيث يبرز الادعاء بأن الأساليب المستمدة من القطاع الرأسمالي لديها القدرة على حل المشكلات الاجتماعية بل إنها تتفوق على الأساليب المستخدمة حاليا في مؤسسات المجتمع المدني.
  3. الإنجازات: وهنا يأتي الادعاء بأن هذه المبادئ الرأسمالية يمكنها أن تحقق الحراك الاجتماعي علاوة على زيادة فرص الحصول على السلع والخدمات.
وبتفنيد هذه الادعاءات يمكننا أن نرى بوضوح من خلال التجارب قدرة الاستثمارات الخيرية على توفير فرص متساوية للحصول على السلع والخدمات إلا أنها في نفس الوقت ضعيفة الأثر في تحقيق الحراك الاجتماعي؛ لأن التغيير المنهجي يجب أن يشمل أيضا الحركات الاجتماعية والسياسية ودور الدولة وهي كلها أمور تتجاهلها هذه التجارب.
الكاتب مايكل ادواردز
وإذا نظرنا على نطاق أضيق نجد أن هناك مبادرات ناجحة عادت بالنفع على المجتمع مثل مبادرة جوجل Google بمشروع حاسوب محمول لكل طفل اعتمادا على تصنيع حواسيب رخيصة تستخدم البرمجيات مفتوحة المصدر، إلا أن هذه التجارب على الرغم من أهميتها لا تدلل على إمكان استمرار نجاحها، فعلى سبيل المثال أجري مسح لخمس وعشرين من المشاريع المشتركة في الولايات المتحدة، وقد أظهرت النتائج أن 22 من هذه الشركات قد أظهرت انحرافا عن رسالتها الاجتماعية الخيرية مقابل توسيع أنشطتها الربحية.
في المقابل هناك العديد من الجمعيات الخيرية التي لم تطبق آليات السوق قد نجحت في حفز الموظفين والمتطوعين للوصول إلى أعلى مستويات الأداء.
التأثير على المجتمع المدني
ويتساءل مايكل إدواردز إن كان ثمة دليل على أن المجتمع المدني ككل قد تضرر من جراء هذه الاتجاهات الرأسمالية؟
والواقع يؤكد أن ثمة مجموعة من الإشارات التي ربما تثير القلق من بينها:
  1. الدفع في اتجاه المنافسة والحوافز المادية كدوافع لعمل الخير مقابل الحد من الدوافع الاجتماعية فعلى سبيل المثال دفع أجور للمتطوعين في المؤسسات الخيرية حوّل العمل التطوعي إلى وظيفة تجارية.
  2. إهدار الطاقات والموارد بعيدا عن التغير الهيكلي وبناء المؤسسات والإصلاح لصالح التركيز على الخدمات الاجتماعية والبيئية.
  3. فقدان استقلال المجتمع المدني من جراء اعتماده على الحكومة أو على أصحاب رؤوس الأموال.
  4. تزايد الفجوة داخل المجتمع المدني بين مؤسسات ذات موارد مرتفعة وأخرى ضعيفة الموارد.
  5. تغير العلاقة بين المواطنين والمؤسسات، حيث يحل تقديم المال عن بعد بدلا من المشاركة النشطة من قبل مقدمي الإحسان في هذه المؤسسات.
  6. كنتيجة لما سبق يزداد تآكل المجتمع المدني في عملية التحول الاجتماعي بعد تحوله إلى شيء أشبه بالخصخصة.
وبذلك قد يكون هناك تزايد في عدد وحجم مؤسسات المجتمع المدني، ولكن على حساب ضعف تأثيرها وفاعليتها في إحداث تغييرات حقيقية في المجتمع.
اتجاهات عكسية
وهنا يدور التساؤل لماذا يؤدي إدماج المبادئ الرأسمالية في العمل الخيري لهذه النتائج؟
وتكمن الإجابة على حد قول مايكل إدواردز في أن كلا من الأعمال التجارية والعمل الخيري ليسا متباينين فقط بل إنهما يسيران في مسارين عكسيين من حيث المبادئ، ففي العمل التجاري تأتي المنافسة مقابل التعاون في العمل الخيري، وكذلك الفردية مقابل العمل الجماعي فضلا عن أن العملاء في المؤسسات الرأسمالية ينظر إليهم على أنهم زبائن أو مستهلكون بينما المستفيدون من الجمعيات الخيرية هم مواطنون وبالطبع هناك اختلافات شاسعة بين المستهلك والمواطن.
وهناك مؤسسات الآن أصبحت تضطلع بمهمة تقييم الجمعيات الخيرية وترشيحها للراغبين في الإحسان وعمل الخير بحيث لا يتعين على هؤلاء أن يتصلوا اتصالا مباشرا بهذه الجمعيات أو أن يشغلوا أنفسهم بالمشاركة في أنشطتها كل ما عليهم فقط أن يستثمروا أموالهم في الجمعيات التي تحقق أعلى ربح حسب توصيات مؤسسات التقييم؛ وبالطبع هذه الأموال الموجهة للاستثمار في الجمعيات الخيرية تخصم من الضرائب المستحقة.
إلا أنه مع تدفق الكتب والدراسات والتقارير التي تدعم بقصص نجاح عن الرأسمالية الخيرية لا نجد سوى الاهتمام بالتمويل والأسواق والاستثمار والربح والخسارة، ولكن نادرا ما نجد ذكرا للسلطة والسياسة والعلاقات الاجتماعية وهي الأشياء التي تدفع حقا في اتجاه الحراك الاجتماعي، وبرغم أن هذا المشهد بدأ يتغير قليلا نتيجة الخبرة المتراكمة في مجال الرأسمالية الخيرية خاصة النجاح الذي تشهده مؤسسة بيل جيتس، فإن الغالبية العظمى من المشروعات الاجتماعية تدعم الحلول التقنية وتدفع في اتجاه تحقيق معادلة النجاح التي تساوي في نظرهم (العلم + التكنولوجيا+ السوق).
وفي جميع الأحوال فإن قياس حجم الأعمال والأرباح أسهل بكثير من مسألة قياس الحراك الاجتماعي، كما أنه مع الوقت من المعتاد أن يطغى أحد الأهداف على الآخر، فإذا كان هدف المؤسسة تحقيق الربح وفي نفس الوقت لديها رسالة اجتماعية فإن الكثير من التجارب أثبتت أنه كلما رسخت قدم هذه المؤسسات في السوق أكثر كلما ابتعدت عن تحقيق رسالتها الاجتماعية، وحتى هذه المؤسسات التي انتشرت على شبكة الإنترنت لتقدم النصح للراغبين في التبرع وتوفر قاعدة بيانات للجمعيات مصنفة حسب نوعيتها وحسب درجة ربحيتها ومصداقيتها إلا أنها نادرا ما تقيس التقدم المحرز تجاه تحقيق الحراك الاجتماعي.
تنافس أم تعاون؟
التنافسية أيضا أصبحت محل نقاش داخل هذه المدرسة الفكرية فإذا طبقنا مبادئ السوق على الجمعيات الخيرية فهل ستتنافس فيما بينها على الموارد وعلى جذب المستهلكين؟
هل مثلا ستتنافس الجمعيات التطوعية الخيرية في استضافة الحفلات الخيرية؟ وهل سيتزايد التنافس بين المجموعات التي تتناول قضايا مختلفة مثل فيروس نقص المناعة البشرية أو دعم التعليم؟ ومن الذي من شأنه حقا أن يستفيد؟
الحقيقة تؤكد أن مجال التنافس لا يصلح في العمل الخيري الذي يفترض أن يقوم على التعاون.
وهذا ما دفع مايكل إدواردز إلى تبني فكرة أن التعاون بين مؤسسات المجتمع المدني المستقلة أفضل من تحقيق المزج بينها أو جعلها تتنافس فيما بينها، وهذا التعاون من شأنه أن يحافظ على استقلالية هذه المؤسسات بما يمكنها من إحداث تغيير حقيقي في الأسواق وليس فقط بتوسيع فرص الحصول على المعونات الخيرية، كما أنه يؤدي لدعم عملية التحول إلى أساليب تحدث أعمق التأثيرات مثل النماذج التجارية الجديدة التي تقوم على فكرة الملكية الجماعية كالبرامج المفتوحة المصدر مما يمكن المواطن من السيطرة على إنتاج وتوزيع الفائض الاقتصادي.
تابع أم قائد؟
تكمن المشكلة في أن هذه المناهج جميعها ليست في قائمة أولويات الرأسماليين الخيرين ربما لرغبتهم في تحويل النظام الاقتصادي كلية وتبني أساليب راديكالية مختلفة تماما في توزيع الأرباح والنفقات، والتغيير المنهجي من شأنه أن يثير التساؤل عن كيفية امتلاك الثروة والتحكم فيها وعن كيفية توزيع الموارد والفرص داخل المجتمع.
وفي نهاية القرن الماضي قامت الحركات الاجتماعية بأدوار هامة لدفع المجتمع للحراك الاجتماعي وبالتأكيد سيمتد نفس هذا الوضع في المستقبل فحركات الحقوق المدنية أو حقوق المرأة أو الجماعات البيئية كلها قامت بفضل جهود المجتمع المدني وتم دعم نفوذ هذه الحركات الاجتماعية باعتبارها قوة لتحقيق الصالح العام، صحيح أن الأعمال التجارية والأسواق لعبت دورا حيويا في تحقيق هذا التقدم، ولكن كتابع وليس كقائد في هذا التغيير.
وإذا كان نجاح العمل الخيري يقاس بتحقيق نواتج ملموسة مثل توفير الوظائف أو الرعاية الصحية أو المأوى، فإن التأثير الأهم يكمن في التغييرات التي يحدثها العمل الخيري في عمليات التحول الاجتماعية والسياسية مما يمكن المجتمعات من المشاركة في جني ثمار النجاح، وسر هذا النجاح يكمن في السيطرة على علاقات القوة وملكية الأصول الثابتة ووضع الفقراء وغيرهم من الفئات المهمشة في مكان الصدارة، وهذا لم يأت مصادفة بل إنه يؤكد الدور الحيوي الذي تلعبه مؤسسات المجتمع المدني في عملية التحول الاجتماعي ويؤكد مدى احتياج العالم لمزيد من تأثير المجتمع المدني على قطاع الأعمال التجارية، وليس العكس فيحتاج مزيدا من التعاون لا المنافسة، مزيدا من العمل الجمعي لا الفردي، ورغبة متزايدة للعمل معا لتغيير البنى الأساسية التي تبقي معظم الناس فقراء وبهذا يمكننا جميعا أن نحيا حياة أفضل.
الأعراض والعلاج
وفي ختام مقاله يوجز مايكل إدواردز الحقائق المستخلصة حول الجدل الدائر بخصوص الرأسمالية الخيرية فيما يلي:
  1. حان الوقت للتواضع بشأن مدى ما حققته الرأسمالية الخيرية من نجاح فما زلنا لم نلمس نتائج حقيقية.
  2. حان الوقت لمزيد من المحاسبة والمساءلة؛ لأن التركيز المتزايد للثروة والنفوذ بين الرأسماليين الخيريين لا يوفر مناخا صحيا للديمقراطية.
  3. حان الوقت للفصل والتمييز بين الرأسمالية والعمل الخيري؛ لأن استخدام التفكير الرأسمالي يمكن أن يضر بالمجتمع المدني والذي هو عماد السياسة الديمقراطية والتحول الاجتماعي.
  4. الرأسمالية الخيرية هي أحد أعراض عدم التكافؤ والمساواة في المجتمع ولم تثبت حتى الآن قدرتها على تقديم العلاج.
لذا يظل السؤال هل سنستخدم هذه الموارد الهائلة لتحقيق التحول الاجتماعي أم سنبددها في الإنفاق على أعراض المشكلة؟
ولأن المخاطر عالية جدا لذا فإن مايكل إدواردز يدعو جميع المهتمين في ختام مقاله لإجراء نقاش عالمي لتفنيد ادعاءات كل من الرأسماليين الخيريين ومعارضيهم على حد سواء.


المقال منشور بموقع إسلام أون لاين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق