الأربعاء، 8 فبراير 2006

حسن البنا من رواد النهضة في العصر الحديث

أمل خيري

من سنن الله في كونه أن الأمم تتبدل من حال إلى حال ولا تستقر على مقام فتارة تنهض فتكون في أوج نهضتها وتارة تتدنى لتكون في ذيل القائمة وصدق الله " وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ " 140 آل عمران
وتعد قضية نهوض الأمم من القضايا التي شغلت كثير من المفكرين منذ نهايات القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين وتباينت الأطروحات تباينا شديدا فهناك من رأى سبيل النهوض في تقليد الغرب والأخذ بأسباب الحضارة الغربية وهناك من أكد على ضرورة العودة إلى الإسلام في هديه الأصيل وكان أحد رواد هذا المنهج الإمام البنا أحد رواد النهضة في النصف الأول من القرن العشرين.
انطلق البنا في معالجته لقضية النهضة من الاعتراف بحقيقة صعود الأمم وهبوطها فقد قال “ فكل أمة بين حالين لا ثالث لهما، يخلف كل منهما الآخر متى توافرت دواعيه وأسبابه، هذان الحالان هما حال القوة وحال الضعف”
وهو يشبه الأمة بالفرد في تبدل الأحوال عبر مراحل حياته “ اعلم أن مثل الأمم في قوتها وضعفها وشبابها وشيخوختها وصحتها وسقمها مثل الأفراد سواء بسواء” .

خصوصيتنا في المشروع النهضوي

مما يؤكد البنا عليه كثيرا أن أصول النهضة في الشرق تختلف عن أصولها في الغرب الذي قامت نهضته على تحطيم الدين وهدم الكنائس والقضاء على كل مظاهر السلطة الدينية في الأمة انتهاء بفصل الدين عن سياسة الدولة العامة فصلا تاما.
فلو قارننا الوضع بالأمة الإسلامية فإن طبيعة التعاليم الإسلامية تختلف عن غيره من الأديان فلا وجود لرجال الدين أو سلطة الكهنوت ولذلك فإن قواعد الإسلام " تساير العصور وتدعوإلى الرقي وتعضد العلم وتحمي العلماء "، مما يجعل دعائم النهضة لدينا تختلف عن دعائمها لديهم وهذا شرط أساسي يجب مراعاته في أي مشروع نهضوي للأمة الإسلامية.
ولذلك فقد اجتهد البنا في وضع تصوراته حول دعائم ومرتكزات هذه النهضة حيث تتركز رؤية الإمام البنا في قضية النهضة في أنه لا سبيل لنهضة الأمة إلا ببناء الإنسان المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم ولذلك نستطيع استخلاص أهم دعائم النهضة من كتاباته والتي تدور كلها حول نفس المحور “الفرد المسلم ، البيت المسلم ، الأمة المسلمة”.

دعائم النهضة

وأول دعائم النهضة التي أولاها البنا جل اهتمامه هي التربية فيقول “ يجب أن تكون دعامة
النهضة “ التربية “ فتربى الأمة أولاً وتفهم حقوقها تماما وتتعلم الوسائل التي تنال بها هذه الحقوق وتربى على الإيمان بها ويبث في نفسها هذا الإيمان بقوة أوبعبارة أخرى تدرس منهاج نهضتنا درساً نظريا وعمليا وروحيا “ .
وفي هذا الإطار حدد البنا منهجا تربويا عمليا لإنشاء مدرسة تربوية نهضوية ولأن المدرسة تعني طلاب وأساتذة ومنهج حتى تكتمل عناصرها فإن الطلاب هنا يجب أن يكونوا كل المواطنين والأساتذة هم زعماء الأمة أما المنهج فهو دراسة الحقوق والواجبات العامة.
لذا كان تركيز البنا هنا على أمرين مهمين لتنظيم هذه العملية وهما المنهج والزعامة فالمنهج اشترط له أن تكون مواده قليلة، بقدر الإمكان، عملية ،بحتة، ملموسة النتائج مهما قلت.
وأما الزعامة فلها مواصفات فالزعيم يجب أن يكون شخصا تربى ليكون زعيما وأُحسن إعداده لذلك ،”لا زعيماً خلقته الضرورة وزعمته الحوادث فحسب أوزعيماً حيث لا زعيم “ .
ولا ينسى البنا أن يوصي الأمة بالتذرع بالصبر والأناة حتى تنجح هذه المدرسة وألا يستعجل أفرادها النتائج مستشهدا بمحاولات النهوض التي قام بها مصطفي كامل وفريد ومن قبلهما الأفغاني ومحمد عبده لبناء نهضة مصر إلا أن هذه المدرسة لم يقدر لها الاستمرار بسبب زعماء أتوا على أعقابهم خلقتهم الظروف فاستعجلوا النتائج فكان الخسران والتقهقر ومن أجل ذلك كانت دعوة الإخوان ، واهتمامها بتربية الأمة على النفس الفاضلة والخلق النبيل السامي ، وايقاظ الكرامة والجد في استرداد المجد.

منهج واضح

ثاني هذه الدعائم هي ضرورة وجود منهج واضح محدد يعمل له أبناء الأمة وهذا ما نلحظه في جميع النهضات لدى مختلف الأمم شرقيها وغربيها ، وتجلى ذلك واضحا في الخطوات الأولى التي سلكتها دعوة الإسلام حيث كان المنهج واضح ومحدد بدعوة سرية ثم جهرية فهجرة فإخاء فنضال ففتح .
إلا أن مشكلة أمتنا كما حددها البنا تكمن في التسرع وهياج المشاعر مفتقدة لمنهج واضح مما جعل نهضتنا عبارة عن فورات عاطفية ويرجع البنا ذلك لسببين أساسيين :
1. عدم تحديد الوسائل تحديدا دقيقا بل قد تكون متناقضة أحيانا
2. انقطاع الصلة بين السابق واللاحق فالكل يبدأ من حيث بدأ الآخرون لا من حيث انتهوا .
لذلك فإن ما يميز الإخوان عن غيرهم أن لهم منهج واضح محدد يستمدون أصوله النظرية من الأصول والقواعد التي جاء بها القرآن ويتبعون الوسائل التي أثرت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حيث لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.


إصلاح الخُلق

الدعامة الثالثة التي ترتكز عليها النهضة عند البنا هي الأخلاق القويمة وقد لخصها البنا بإيجاز في قوله “لا نهوض لأمة بغير خلق” فحجر الزاوية في أي إصلاح خلقي هو التحرر من قيود مطالب النفس وأهوائها والكمالات الدنيوية ، والتخلص من هيمنة المظاهر والعادات غير الإسلامية ، ومن أجل ذلك آلى مصطفى كامل على نفسه إعداد الأمة بتحرير نفوسها وأخلاقها فنادى بوزارة المعارف الأهلية كما شاركه نفس الهدف عبد العزيز جاويش فوضع مشروع المدارس التهذيبية الليلية للعمال وطبقات الشعب وكانت جهودهم استمرارا لمدرسة الأفغاني ومحمد عبده في إصلاح الخلق والدين عن طريق تصحيح العقائد وتقويم الأفكار.


اليقظة الروحية

رابع هذه الدعامات بعث اليقظة الروحية في نفوس الأفراد والمجتمعات ”وعلى هذه القوة الروحية الهائلة، تبنى المبادئ وتتربى الأمم الناهضة، وتتكون الشعوب الفتية، وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة زمناً طويلاً“ ويؤكد البنا أن هذه اليقظة الروحية سيكون لها مردود عملي على الفرد والأسرة والمجتمع .
فالفرد سيصبح نموذجا قائما لما يريده الإسلام من إرادة حازمة يكفلها له النظام الإسلامي ويرقى لها بالتعبد بما أمره الله ليرقى وجدانه دون تفرقة بين رجل وامرأة، وبصلاح الرجل والمرأة تتكون الأسرة اليقظة لتنشئي بيتا نموذجيا وفق قواعد الإسلام، وبصلاح الأسر تنصلح الأمة جمعاء وتوقظ همتها لذا كان حرص الإسلام على توثيق أواصر الأخوة بين أفراد الأمة ولذلك يقول البنا “وإذا قوي الشعور الذي أشرنا إليه آنفاً ، وأدي إلى نتيجته التي وضعناها الآن ، فطبق نظام الإسلام علي الفرد والبيت والأمة ، ووصلت الرسالة إلى القلب والآذان ، فقد نجحت فكرتنا واستجيبت دعوتنا ويأبى الله إلا أن يتم نوره” .

الإصلاح الاقتصادي

نستخلص الدعامة الخامسة من دعائم النهضة من مذكرة تقدم بها البنا إلى علي ماهر رئيس الحكومة المصرية في أكتوبر سنة 1939 حيث أكد البنا أنه لا سبيل للنهوض الروحي وحده لأمة لا يتوفر لها قوتها الضروري لذلك كانت مطالبته بالعناية بالشئون الاقتصادية من خلال توفير الحكومة المشروعات الإصلاحية لتخفيف ويلات الفقر على الناس . وفي لمحة معبرة يؤكد البنا لرئيس الحكومة أنه ما من شيء يجلب رضا الشعب ويحمله على تأييد الحكومة إلا شعوره باهتمامها بأرزاقه وأقواته ويؤكد نفس المعنى أيضا في رسالة النظام الاقتصادي حيث يقول “...ولا يحرك النفوس ويثير الخواطر ، ويؤلم المشاعر شيء كالضائقة المالية ، تأخذ بخناق الجماهير فتحول بينهم وبن الحصول على ضروريات الحياة فضلاً عن كماليتها .. ولا أزمة أعنف من أزمة الرغيف ، ولا عضة أقوى من عضة الجوع والمسغبة .. ولا حاجة أشد من حاجة القوت ، وطالب القوت ما تعدى . دخلت الجارية على محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة ، فقالت : يا سيدي فني الدقيق . فقال : قاتلك الله ! أذهبت من رأسي أربعين مسألة”

غاية واحدة وأمة واحدة

وسادس هذه الدعامات تتمثل في ضرورة التحديد الدقيق لغاية الأمة من النهضة والتي يجب أن تكون شاملة وموحدة لأن تعدد الغايات يشتت جهود الأمة ويتحدث البنا عن الغاية فيلخصها في أنها:” ..حب الإسلام والتمسك بآدابه والغيرة عليه ، وبما أن هذا الدين يأمر بالعناية بالشئون الدنيوية ويحث على السبق والتبريز فيها مع عدم إغفال أمر الآخرة على حد قوله تعالى “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا” القصص77 , وعلى حد قوله تعالى: “فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً” النحل97 .
وإذا توحدت غايتنا وتشابهت قضايانا فإنه لا سبيل لاستكمال المشروع النهضوي إلا بتوحد المسلمين فيقول “ ولا بد أن نلجأ من جديد إلى ما فرضه الإسلام على أبناءه منذ أول يوم ، حين جعل الوحدة معنى من معاني الإيمان … يجب أن نتكتل ونتوحد”
ولذلك فقد اعتبر إنشاء الجامعة العربية خطوة ايجابية ونواة طيبة يجب دعمها وتوسيع دائرتها حتى تتحقق “رابطة أمم الإسلام – عربية وغير عربية – فتكون نواة “لهيئة الأمم الإسلامية”.

إعداد الرجال

ومما يلفت البنا النظر إليه أن نهضة الأمة لا تكتمل إلا بدعامة هامة وهي بناء النفوس وإعداد الرجال الذين يستطيعون التغلب على العقبات ويجابهوا الصعاب أو على حد قوله “ إن الرجل سر حياة الأمم ومصدر نهضاتها وإن تاريخ الأمم جميعاً إنما هوتاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات . وإن قوة الأمم أو ضعفها إنما تقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوفر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة “
وهو بهذا يجعل الرجل معول هدم أو لبنة بناء وفي تشبيه بليغ يصف البنا حال الأمم كحال الأفراد فالفرد قد ينشأ مدللا بين أبوين مترفين فلا يحمل هما لشيء وقد ينشأ بين أبوين فقيرين فتحمله الحياة بهمومها مبكرا وهذا قدر الله ، وينطبق نفس الأمر على الأمة ففارق كبير بين جيل نشأ في أمة ناهضة في بيئة دولية مستقرة وبين جيل آخر شاء له قدره أن ينشأ في أمة واهنة تزاحمها الأمم وتنازعها .
وهذا ما عاشه جيل البنا وفرضته الظروف في ظل الفوضى الدولية والعواصف الفكرية لذا كان لابد لهذا الجيل أن ينهض بهذه الأمة في سلسلة متواصلة من الكفاح والجهاد متسلحة بعزائم الرجال الصادقين، “إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ” الرعد11.


تنظيم التعليم

من الدعامات التي لا يجب إغفالها إصلاح التعليم وتنظيم سياسته في تخريج الأجيال وإعداد رجال المستقبل ليضطلعوا ببناء مستقبل الأمة وهذه السياسة التعليمية يجب أن تقوم على أصول حكيمة تهيئ للأجيال الناشئة معرفة أحكام دينهم وتحصين أخلاقهم وتلقينهم تاريخ أمتهم وتنشئتهم على الاعتداد بمجد أمتهم وحضارتها .
ويختتم البنا حديثه عن النهضة بقوله “ هذا قليل من كثير من الأصول التي يريد الإخوان المسلمون أن ترعاها الأمم الإسلامية في بناء النهضة الحديثة , وهم يوجهون دعوتهم هذه إلى كل المسلمين شعوبا وحكومات , ووسيلتهم في الوصول إلى تحقيق هذه الغايات الإسلامية السامية وسيلة واحدة : أن يبنوا ما فيها من مزية وأحكام , حتى إذا ذكر الناس ذلك واقتنعوا بفائدته أنتج ذلك عملهم له ونزولهم على حكمه “قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوإِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ” يوسف108 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق