الأربعاء، 22 فبراير 2006

الحياة لا تتوقف بوفاة الزوج


تحقيق- أمل خيري..............

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَّرَحْمَةً إِنَّ فِيْ ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الروم: 21).


لقد منَّ الله علينا بنعمة الاستقرار والسكن والاطمئنان من خلال النظام الاجتماعي الرائع وهو الأسرة، التي تُعدُّ القاعدة الأساسية لأي مجتمع، ومِن حكمة الله تعالى أن خلقَ الرجلَ والمرأةَ ليكمل كلٌّ منهما الآخر، وليكن في اجتماعهما السكن والرحمة والمودة في الأسرة، فيكون التكامل بين دور كل منهما مع الأبناء.

إلا أنه أحيانًا قد تفرض الظروفُ على المرأة أن تواجه الحياة بمفردها بعد وفاة زوجها، فتجد نفسَها قد أضيف إليها دورٌ جديدٌ لتقوم بدور الأب والأم معًا لتستكمل مسيرة الحياة، فهل تنجح الأم وحدها؟!

نماذج مشرفة

تقول خديجة: تُوفي زوجي منذ ثلاثين عامًا كنت وقتها لم أتعدَّ الخامسة والعشرين ولديَّ ثلاثة أطفال، أكبرهم في الخامسة، في البداية أُصَبت بالذهول وأحسست أن الدنيا قد انتهت، ثم استجمعت قُوايَ بعدها لأجدَ نفسي مسئولةً عن توفير الدخل المادي لهذه الأسرة ومسئولةً أيضًا عن تربية ثلاثة أطفال بمفردي، فاستعنتُ بالله، وبدأت أتذكر هوايتي في الحياكة، فعرضتُ على جيراني القيام بخياطة ملابس لهم فرحَّبوا، وكان بفضل الله لجيراني دورٌ كبيرٌ في دعمي ومساندتي، وبعد رحلةٍ من المعاناة تخرَّج جميع أولادي في كليات القمة، فالأكبر تخرَّج مهندسًا وسافر إلى كندا وافتتح مكتبًا هندسيًّا، والثاني أصبح مدرِّسًا بكلية الطب، والبنت الصغرى تخرَّجت في كلية الألسن وتزوَّجت من طبيب مشهور، والأهم من ذلك أنهم جميعًا على خُلقٍ ودين، والفضل لله ثم لجيراني الذين كانوا بجانبي.

أما صفية فقد توفِّي زوجها بعد معاناةٍ مع مرضٍ مزمنٍ أتى على كل مدخرات الأسرة، تاركًا لها أربع بنات وصبيًّا صغيرًا وكانوا جميعًا في بدايات مراحل التعليم، وهنا بدأت الأم في القيام بدور الأب والأم معًا، فكانت تقوم بصنع المخللات والمربَّات في المنزل كما كانت تصنع بعض الفطائر وتبيعها لمعارفها الذين بدأوا في الازدياد، والآن بعد مرور الأعوام تزوجت البنات زيجاتٍ صالحةً موفَّقةً، وأصبح الابن أستاذًا في الجامعة، والجميع فخورون بوالدتهم ويعتبرونها أمًّا مثاليةً.

وتروي عائشة معاناتِها مع أبنائها الأربعة بعد وفاة زوجها وانفضاض الأهل من حولها، ولم يساعدها على مواجهة ظروف الحياة إلا أخواتها في المسجد، اللاتي وقفن إلى جانبها وقدمن لها الدعمَ الماديَّ والمعنويَّ حتى تخرَّج لديها اثنان من الدعاة في جامعة الأزهر وافتتح الثالث مصنعًا صغيرًا للأحبار، أما البنت فتزوجت من أحد أساتذة الجامعة.
سنة الله

وعن فضل رعاية اليتيم وحسن ثواب من تأيَّمت على أبنائها يقول الدكتور محمد مختار جمعة- الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف- إن الابتلاءات والمصائب من سنن الله في الكون فقد قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 155).

كما قال أيضًا ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت: 2) وإن الزوجة حين يُتوفَّى عنها زوجها فتصبر وتحتسب يكون لها من الأجر مقدارٌ عظيمٌ، فقد وعد الله الصابرين بالإحسان فقال تعالى: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (النحل: من الآية 96).


وأفضل الصبر ما كان عند الصدمة الأولى، فقد رُوي عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قوله: أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على امرأةٍ تبكي على صبي لها، فقال لها "اتقي الله واصبري" فقالت "وما تبالي أنت بمصيبتي"؟! فقيل لها: هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فأتته فلم تجد على بابه بوَّابين فقالت: يا رسول الله لم أعرفك، فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى".

ويعلمنا رسول الله الاحتساب عند المصائب، فقد روي عن أم سلمة- رضي الله عنها- أنها قالت: "سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبةٌ فيقول ما أمره الله "إنا لله وإنا إليه راجعون.. اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها"، إلا أخلف الله له خيرًا منها".. قالت فلما مات أبو سلمة قلت أي المسلمين خير من أبي سلمة؟! أول بيت هاجر إلى رسول- صلى الله عليه وسلم- ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله".

ويضيف الدكتور مختار أنه مما لا شك فيه أن موتَ الزوج مصيبةٌ عظيمةٌ، ولكن على الزوجةِ أن تعلم مقدار ثوابها عند الله إذا قامت على رعاية أيتامها خيرَ قيامٍ؛ فقد قال- صلى الله عليه وسلم-: "أنا أول من يفتح باب الجنة، فإذا امرأة تبادرني فأقول: من أنت؟! فتقول: أنا امرأة تأيَّمْت على أيتام لي" كما قال رسول الله: "أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة"، وأشار بالوسطى والسبابة.. امرأة تأيَّمت من زوجها ذات منصب وجمال، حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا".

فأكثر أهل العلم على أنه إذا كان النبي قد أوصى بكافل اليتيم فقال: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى" فإن هذا ينطبق على كافل اليتيم لنفسه أو لغيره، فالأم التي تقوم على أبنائها لها هذا الثواب العظيم.

كما أن تضافر جهود المجتمع الإسلامي تجاه رعاية الأرملة مطلوب، وعلى جميع مؤسسات المجتمع رعاية الأرملة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "الساعي على الأرملة أو المسكين كالمجاهد في سبيل الله" وفي رواية "أو كالقائم أو الصائم لا يفطر".
أيتام أعلام

وتؤكد الداعية هدى عبد الغني- من واعظات الجمعية الشرعية- أن التراث الإسلامي يحفل بعديدٍ من النماذج من النساء اللاتي أوقفن حياتهن على تربية أبنائهن بعد وفاة أزواجهن؛ فهذه أم الإمام أحمد بن حنبل قد تُوفي زوجها بعد ولادةِ ابنها بقليلٍ فعرفت ضيق العيش، ولكن الأرملةَ الشابةَ رفضت أن تتزوج على الرغمِ من جمالها وشبابها وطمع الخطاب فيها، ووقفت حياتها على تربيةِ ابنها، فأحسنت تربيته، ودفعت به إلى مُقرئ ليعلمه القرآن، فختمه وهو صبي، وهذه أم سفيان الثوري تقول كلمتها الحاسمة في توجه ابنها إلى العلم: "اذهب فاطلب العلم، وأنا أعولك بمغزلي".

وهذا ربيعة بن عبد الرحمن شيخ الإمام مالك تركه أبوه وعمره ثلاث سنوات فقامت به أمه وجعلته يتبوأ الصدارةَ بين علماء زمانه، وهذا الشافعي رحمه الله, مات أبوه وهو جنين في بطن أمه, فتولته أمه بعنايتها وكانت تسكن بغزة من أرض فلسطين, فخافت عليه أن يتغير لسانه فانتقلت به إلى مكة, وجاورت الحرم, فربته بين أخواله وأهل العلم هناك.

وهذه أم سفيان بن عيينة ترحل به إلى مكة وتقول لعلمائها: هذا ولدي قد وهبته للعلم فعلموه, فيتولاه عمرو بن دينار بعنايةٍ ورعاية, حتى يصبح سفيان من أجلِّ علماء زمانه.. وهذا عالم أهل زمانه الأوزاعي نشأ يتيمًا فقيرًا في حجر أمه, تنقله من بلد إلى بلد حتى بلَّغته أعلى مراتب الدنيا والدين أدبًا وعلمًا وفضلاً.
الحزم والحنان

تقول الدكتورة سهير الجيار- أستاذ أصول التربية بجامعة عين شمس-: لا شك أن فقدان الزوج يعد أزمة كبيرة بالنسبة للأسرة خاصةً في حالة وجود أطفال وبالذات الصغار منهم، وبالتالي فهو موقف شديد الصعوبة ليس فقط على المستوى المادي بفقدان المورد الرئيسي للدخل، ولكن أيضًا على المستوى التربوي بفقدان عامل من عوامل الضبط والحزم؛ لأن الأسرة يتكامل دورها بتكامل أدوار كل أفرادها، كما أن هناك أثرًا نفسيًّا على الزوجةِ والأولاد فمما لا شك فيه أن الزوجةً تحزن كثيرًا على الزوج خاصةً إذا كان زوجًا تقيًّا قائمًا بواجباته الأسرية على أكملِ وجه.

ولكن إذا اقتضت حكمة الله وفاة الزوج فإن من علامات اكتمال الإيمان الرضا بقضاء الله وقدره وبعد فترة طبيعية من الحزن لا بد على الأم أن تتماسك وتؤدي دورها وتحتسب أجرها عند الله وتدعو الله أن يوفقها لتحمُّل المسئولية.
وتؤكد أن الزوجة هنا ستقوم بأكثر من دورٍ وستتحمل أكثر من مسئوليةٍ فهي ستظل تقوم بدور الأم كنبعٍ للحنان وفي نفس الوقت ستضطلع بمهام الأبِ في الحزم والضبط، إضافةً لقيامها بالعبء المادي لتوفير احتياجاتِ أسرتها.

بناء جسور الثقة

ولكي تنجح الأم في التوازن ما بين الدورين فإنَّ عليها أن تبني جسورًا من الثقةِ بينها وبين أبنائها خاصةً الذكور مع استمرارِ المتابعةِ والرقابة غير المباشرةِ بمعرفة أصدقائهم وأماكن وجودهم خارج المنزل دون أن يشعروا بذلك، كما يجب على الأم أن تُشعر أبناءها بعظمِ المسئوليةِ الملقاة على عاتقها ومدى أهميةِ مشاركتهم في هذه المسئولية.
وترى الدكتورة سهير أنَّ الأعباءَ تضاعفت في هذه الآونةِ في ظل تعدد مظاهر الانحراف مما يوجب على الأم أن توازن بين الحزم واللين؛ الأمر الذي يُلقي بالمسئوليةِ على باقي أفراد العائلة كالأعمام والأخوال الذين يجب أن يقوموا بدورهم خير قيام بلا إفراطٍ أو تفريطٍ أو تدخلٍ زائد في شئون الأسرة، بل يجب أن يجد الطفل بديلاً للأبِ متمثلاً في أحد أعمامه أو أخواله أو أقاربه فيجد اليد الحانية ويجد أيضًا سلطة الضبطِ عند تفاقم المشاكل، وهنا على الأم أن تكون واعيةً في تقنينِ تدخل الأقارب في الأوقات المناسبة كاتخاذِ قرارٍ مصيري خاص بالأبناء أو عند وجود مشكلة كبرى لدى أحد الأبناء، أما في أمور حياتها العادية فتعتمد الأم على نفسها حتى لا تزيد من تدخلِ الأهل مما قد يُفسد عليها حياتها عند حدوث أي صورةٍ من صورِ الاختلاف في وجهات النظر.

خطورة العزل

ويجب أن تضع الأم أبناءها في جوٍّ أسري طبيعي وتُعودهم على صلةِ الأرحام والتواصل مع الأقاربِ حتى لو استغنت عنهم لينشأ الأبناء في جوٍّ سوي.

ومن الأخطاءِ الشائعة في مجتمعاتنا أن الزوجةَ حين تفقد زوجها تُغلق على نفسها الباب وتنعزل عن الأقاربِ والمجتمع مما يؤدي في النهاية إلى مشاكل نفسية واكتئابٍ لدى الأبناء.

وعن دور المؤسسات الاجتماعية في رعايةِ الأرامل تؤكد الدكتورة سهير ضرورة المشاركة المجتمعية الإيجابية من مؤسساتِ المجتمع خاصةً وزارة الشئون الاجتماعية التي تحوَّلت الآن إلى وزارةِ التضامن والتي يجب أن تتضامن مع الزوجةِ التي فقدت زوجها في صورةِ لوائح وقوانين تساعدها في أداء مسئوليتها كأن تستصدر قوانين تكفل للأم العاملة رعاية أبنائها الصغار الأيتام بذهابها للعمل نصف الأسبوع فقط مع إعطائها أجرها كاملاً أو تحاول تذليل المشاكل التي تتعرض لها في عملها كبعدِ مكان العمل عن السكن أو وجود تعثر فيه مع ضرورةِ متابعة أحوال الأبناء ومستلزماتهم المادية.

أيضًا يجب على المدارسِ توجيه الرعاية لهؤلاء الأطفال من إعفائهم من المصروفاتِ المدرسيةِ ومتابعة مستواهم الدراسي، وكذلك تلعب المؤسسات الاجتماعية الخيرية دورًا في رعايةِ هذه الزوجة التي فقدت عائلها.
خطوات للنجاح

وأخيرا إلى أختي الزوجة التي رحل عنها زوجها أقول:

- أحيطي نفسك بالأصدقاء والعلاقات الاجتماعية المتجددة.

- أظهري حبك لأطفالك ولكن لا تُفسديهم بالتدليل الزائد.

- تعرفي على أشخاصٍ لديهم نفس ظروفك مما قد يمدك بتجارب عملية.

- تماسكي ولا تظهري ضعفك أو انهيارك أمام أطفالك.

- حاولي تجديد حياتك وشغل فراغك بما يدر عليك دخلاً ولا يبعدك عن أبنائك.

- عودي أبناءك على تحمُّل المسئولية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق